ذاتية أبي سعد العميدي

د. الجيلالي الغرابي

ذاتية

أبي سعد العميدي

د. الجيلالي الغرابي

[email protected]

 هو أبو سعد محمد بن أحمد العميدي، كان كثير الانتقاد على أبي الطيب المتنبي، فكتب في ذلك كتابه )الإبانة عن سرقات المتنبي لفظا ومعنى(، جاريا فيه مجرى الحسن بن وكيع في دواعيه وغاياته، إذ يذكر أن الذي أوحى إليه تأليف مؤلفه أنه سمع يوما تفخيما للشاعر لا حد له، فثار في أوجه أولئك الذين "يدعون الإعجاز في شعره، ويزعمون أن الأبيات المعروفة له هو مبتدعها، ومخترعها، ومحدثها، ومفترعها، لم يسبق إلى معناها شاعر، ولم ينطق بأمثالها باد ولا حاضر."([1])

 فأنكر عليه قوله إن السحاب تسقي ما فوقها، و وإن الطير تستسقي، قائلا:"قال المتنبي:)من بحر الطويل(

 سَحَابٌ مِنَ العِقْبَانِ تَزْحَفُ تَحْتَهَا ò سَحَابٌ إذَا اسْتَسْقَتْ سَقَتْهَا صَوَاِرمُهْ([2])

 ولم يسمع بأنه السحابة تسقي ما فوقها إلا على طريق القلب والعكس، وأراد الاستطعام فجعله استسقاء."([3])

 إن اعتراض العميدي على المتنبي غير موضوعي ولا وجيه، لأن:"في كلام أبي الطيب تجديدا تظهر فيه عبقرية الشاعر، فقد ألف الناس أن السحاب يسقي ما تحته، ولكن الشاعر هنا ينبئنا بأن الجيش بضخامته وكثرة رجاله، وعدده، سحاب من نوع جديد، إذا سقى سحاب السماء ما تحته سقى هو ما فوقه، وهذا شبيه بقول أبي تمام في وصف المنجنيق حين يقول:)من بحر الرجز(

 أرْضٌ عَلَى سَمَائِهَا دَرُورُ([4])

 مع أن المألوف أن السماء هي التي تدر على الأرض، وتسقط عليها أمطارها، وأما اعتراض بعضهم بأن الطير لا تستسقي، ولكنها تستطعم فمردود بأن ذلك جار على عادة العرب في استعارة هذه اللفظة في كل طلب تعظيما لقدر الماء، قال علقمة:)من بحر الطويل(

 وفِي كُلِ حَي قَدْ خَبَطْتَ بنِعْمَةِِò فَحُق ِلشَأس مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ([5])

 فإن ملك الشام كان قد أسر "شأسًا" أخا الشاعر، فبعث إليه علقمة بأبيات، منها هذا البيت الذي يطلب فيه من الملك أن يفك أسر أخيه )والذنوب:الدلو العظيمة فيها ماء(."([6])

 جعل المتنبي طيور العقبان التي تعلو جيش الممدوح )علي بن يوسف الحمداني // سيف الدولة( سحبا، وجعل الجيش سحبا لما فيه من السيوف اللامعة، والأسلحة البراقة، والأصوات المتطايرة، والدماء المراقة. وجعل الأسفل يسقي الأعلى في صورة غريبة غير مألوفة، فيها ابتكار فني وإبداع شعري...

 إن مشهدَ رفقة الطير الجيشَ متداولٌ لدى الشعراء العرب، قال )الأفوه الأودي(:)من بحر الرمل(

 وترَى الطيْرَ عَلى آثاِرنَا ò رأيَ عَيْنِِ ثقَةً أنْ سَتُمَارُ([7])

 وقال )النابغة الذبياني(:)من بحر الطويل(

 إذا مَا غَزَوْا بالجَيْشِ حَلقَ فَوْقَهُمْ ò عَصَائِبُ َطيْر تَهْتدِي بعَصَائِبِ([8])

 يقول )طه حسين(:"فالمعنى في هذا البيت هو المعنى نفسه في البيت الذي سبقه، ولكن التصوير فيه يبلغ بالمتنبي أرفع ما يستطيع أن يسمو إليه من الروعة والجمال الفني المخيف، أترى إلى هذه السحاب من العقبان تسعى تحتها سحاب من الجيش، أترى إلى العدو وقد رأى هذه السحب التي يركب بعضها بعضا، ويدفع بعضها بعضا، وتزدحم بها الأرض والجو معا، ثم لا تقف براعة المتنبي عند هذا، ولكنه يقلب الأوضاع المألوفة في عرف الناس، فإذا السحب العليا تستسقي ما دونها من السحب، وقد ألف الناس أن يستسقي الأسفل الأعلى، فإذا الأعلى هنا يستسقي الأسفل، والصوارم هي التي تسقي السحب العليا بما تريق لها من الدماء، قل إن المتنبي لم يبتكر أصل المعنى، فلن ينازعك في ذلك أحد، ولكن لا تنازع أنت في أنه قد ألم بهذا المعنى القديم اليسير فاستثمره أحسن استثمار، وارتفع به إلى جوهر الشعر، واستطاع أن يروع سامعيه وقارئيه بالتعبير والتصوير جميعا."([9])

 يواصل العميدي انتقاده، فيقول:"المتنبي في أول بيت من السيفيات([10]):)من بحر الطويل(

 وَفَاؤُكُمَا كَالربْع أشْجَاهُ طاسِمُهْ ò بأنْ تُسْعِدَا وَالدمْعُ أشْفَاهُ سَاجِمُهْ([11])

 والله لو أوقد الإنسان ألف شمعة ليستضيء بنورها إلى استنباط غوامض هذا البيت مع قلة الفائدة فيه لصعب عليه."([12])

 تبدو هنا قسوته وحيفه واضحين على الشاعر، إذ إنه لو لم يشعل أية شمعة، ولو فاء قليلا إلى نفسه، لفهم معنى البيت في أتم صورة وعلى أحسن وجه. فالمتنبي:"يخاطب خليليه اللذين عاهداه على أن يساعداه على البكاء عند ربع الأحبة، يقول _لهما_ :إن وفاءكما بأن تسعداني على البكاء كهذا الربع، فإن الربع كلما تقادم عهده كان أشجى لزائره وأشد لحزنه لأنه لا يتسلى به المحب، وكذلك وفاؤكما كلما ضعف وقل إسعادكما لي على البكاء اشتد حزني إذ لا أجد من أتسلى به، ثم قال والربع أشفاه ساجمه، كأنه يقول:إن لي العذر في البكاء، أما أنتما فخليان، إذ لو كنتما محزونين مثلي لاستشفيتما بالدمع، كما هو شأن المحزون مثلي. يريد:ابكيا معي بدمع في غاية السجوم فهو أشفى للوجد، فإن الربع في غاية الطسوم وهو أشجى للمحب. وقال ابن جني:المعنى:كنت أبكي الربع وحده فصرت أبكي وفاءكما معه، ولذلك قال:وفاؤكما كالربع:أي كلما ازددت بالربع وبوفائكما وجدا، ازددت بكاء، ويروى والدمع_ بالجر _ عطفا على الربع، وعلى هذا يكون المعنى:وفاؤكما كالربع الدارس في الأدواء إذا لم تجريا عليه الدمع الساجم، وفي الشفاء إذا أجريتما عليه. وعبارة ابن القطاع:وفاؤكما لي بالإسعاد عفا ودرس كالربع الذي أشجاه للعين دارسه، فكنت أبكي الربع وحده فصرت أبكي معه وفاءكما، وأشتفي بالدمع الذي هو راحة الإنسان وأشفاء للنفس ساجمه )...( قال التبريزي:لامهما على البكاء، وأنهما لم يسعداه، قال:وذهب بعض الناس إلى أنه أراد بالمخاطبين عينيه."([13])

 إذن، فالشراح الذين كان همهم خدمة أدبنا العربي، وتفسير شعر شعرائه، وإخراجه في أتم معنى، شرحوا قول المتنبي هذا، ومنحوه ما يستحقه من دلالة، دون أن يحتاجوا إلى إيقاد ولو شمعة واحدة من تلك الألف التي أقسم العميدي أنها لن تنير أمامه سبيل فهم البيت...

 لقد حذا أبو سعد العميدي حذو سابقيه في التجني على أبي الطيب المتنبي، والحط من شاعريته الفذة، وتشويه صورته الحقيقية.وهذا ما جعل )يوسف البديعي( _ وإن لم يكن من المتحمسين لأبي الطيب، ولا من المنافحين عنه_ يقول بأن:"صاحب كتاب الإبانة عن أبي الطيب في غاية الانحراف."([14])

 ويقول )إحسان عباس(:"ولو فاء العميدي إلى الإنصاف لحظة لأدرك أن هذا الكلام كله لا يصنع قصيدة، فكيف يخلق شاعرا؟ ومن باب الإنصاف أن نقول إن العميدي ربما كان أوسع اطلاعا من ابن وكيع، وأعرق في القدرة على الكيد"([15])...

               

[1]_أبو سعد العميدي:الإبانة عن سرقات المتنبي لفظا ومعنى. تحقيق وتقديم وشرح:إبراهيم الدسوقي البساطي، الطبعة الثانية، دار المعارف_مصر، بدون تاريخ، ص:22.

_[2]ديوان أبي الطيب... المجلد لثاني، ص:325.

_[3]أبو سعد العميدي:الإبانة... ص:64.

_[4]لم أجده في ديوانه.

_[5]ديوان علقمة. شرح:الأعلم الشنتمري، حققه:_لطفي الصقال _درية الخطيب، راجعه:فخر الدين قباوة. الطبعة الأولى، دار الكتاب العربي، حلب_سوريا 1389هـ_1969م، ص:48.

_[6]يوسف البديعي:الصبح المنبي... هامش صص:74_75.

_[7]أحمد عبد اللطيف محمود الليثي:قراءة جديدة لديوان الأفوه الأودي نحويا وصرفيا وعروضيا. الناشر:مكتبة الزهراء، دار العدالة للطباعة، بدون تاريخ، ص:85.

_[8]ديوان النابغة الذبياني. تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم. دار المعارف، القاهرة_مصر، بدون تاريخ، ص:42.

[9]_طه حسين:مع المتنبي. الطبعة الثانية عشر، دار المعارف، القاهرة_مصر، بدون تاريخ، ص:198.

[10]_المقصود بسيفيات المتنبي قصائده التي نظمها في سيف الدولة علي بن يوسف الحمداني.

[11]_ديوان أبي الطيب... المجلد الثاني، ص:316.

[12]_أبو سعد العميدي:الإبانة... ص:96.

[13]_ديوان أبي الطيب... المجلد الثاني، هامش صص:316_317.

[14]_يوسف البديعي:الصبح المنبي... ص:181.

[15]_إحسان عباس:تاريخ النقد الأدبي عند العرب:نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن الهجري. دار الثقافة، بيروت_لبنان، بدون تاريخ، صص:382_383.