أدبيات ابن الجوزي في منظور الشيخ علي الطنطاوي
أدبيات ابن الجوزي في منظور
الشيخ علي الطنطاوي
الشيخ: علي الطنطاوي
د. بن عيسى باطاهر - الجزائر
قد يتردد الإنسان ويتلجلج به القلم أحياناً في الكتابة عن شخصية علمية مرموقة ومعروفة بين الناس برسوخ القدم في ميدان العلم والثقافة والفن، وذلك لما قد يحدث من قصور في الحكم، أو خطأ في التقويم، أو تقصير في الإحاطة بالموضوع من جوانبه كلها، وبخاصة حين لا تكتمل الأدوات والوسائل الضرورية للقيام بهذا العمل، والتي من أهمها الاطلاع العميق والدقيق على مؤلفات تلك الشخصية وآثارها، ومعرفة بعض التفاصيل التي تمس حياتها الشخصية والثقافية.
والشيخ علي الطنطاوي – رحمه الله - هو أحد تلك الشخصيات العلمية والأدبية النادرة في هذا القرن، وهو معروف بين طوائف المثقفين والمتعلمين بتعمقه في العلوم الشرعية والأدبية، وبتفننه في أساليب الكتابة الأدبية الجميلة، وتعرفه طوائف العوام من الناس بمكانته في الفقه والإفتاء والدعوة إلى الله، فقد كان يلبي حاجاتهم إلى معرفة الأحكام الشرعية، وما يترتب على ذلك من معرفة الحلال والحرام، وكان – رحمه الله - عند الناس خاصتهم وعامتهم مثالاً للاعتدال والوسطية، في عصر اختلفت فيه الموازين والقيم، وطغت فيه العصبيات والأهواء، وقد اجتهدنا في الكتابة عنه لتنوير القراء ببعض ما تميز به من ذوق أدبي رفيع، وحس نقدي دقيق.
تأثر الطنطاوي بابن الجوزي:
وسيكون هذا الحديث السريع منصباً على الحس الأدبي الذي كان يمتاز به الشيخ الطنطاوي منذ صباه واستمر معه بقية عمره، والذي جعله يتأثر بالإمام الكبير "ابن الجوزي" المتوفى سنة "597هـ"، وبخاصة في كتابه "صيد الخاطر" الذي قرأه وتأثر به منذ أيام الطلب الأولى، واستمر تأثيره ملازماً له طوال حياته، وهذا ما جعله على الاعتناء به وتحقيقه والتعليق عليه.
لقد كان تأثير ابن الجوزي في شيخنا الجليل عظيماً، وكان سبباً في هدايته واستقامته على الحق، وقد ذكر ذلك ممتناً فقال: "أنا قديم التعظيم لابن الجوزي، قديم الحب له، ولقد كان كتابه في سيرة عمر بن عبد العزيز.. من أوائل ما قرأت من الكتب، وقد خلف في نفسي أثراً لا يزول، وكان من أسباب الرشاد لي والحمد لله، ولرب كلمة يسمعها الناشئ، أو كتاب يقرؤه، أو إنسان يصحبه، يكون سبب دخوله الجنة أو دخوله النار(1).
وكتاب ابن الجوزي "صيد الخاطر" هو أحد ينابيع الأدب الصافية، النابعة عن التجارب الحية، والعواطف الصادقة، وهو من نماذج الأدب الإسلامي الحي الجدير بعناية الباحثين والدارسين لما فيه من صفات الصدق والإخلاص كما يرى الشيخ أبو الحسن الندوي(2).
وقد كان هذا الكتاب ذا تأثير قوي في نفس الشيخ الطنطاوي، وهو ما جعله يسير على نهجه في كتاباته الأدبية المتميزة، وذكر ذلك فقال: "كان فيما استعرت من مكتبة بغداد سنة 1936م كتاب بلغ من إعجابي به أن استبقيته عندي إلى أن فارقت الكلية، أقرأ فيه كل يوم فلا أمل القراءة فيه، ولا تخلو نظرة فيه من موعظة أتعظ بها، أو فائدة أستفيدها، أو طرفة آنس بها، وفيه فوق ذلك تحليل للنفوس، وفيه وصف للمجتمع في أسلوب مبتكر، وطريقة في التصنيف لا أعرفها لأحد من المصنفين، وكان الكتاب صيد الخاطر"(3).
أسباب إعجابه بابن الجوزي:
ويعود سر إعجاب الشيخ الجليل بابن الجوزي وكتابه إلى أسباب عدة منها: منزلته في الوعظ والإرشاد، وذلك لما أوتي من قوة العارضة، وحسن التصرف في فنون القول وشدة التأثير في الناس(4)، وقد ذكر ابن الجوزي ذلك فقال: "ولقد وضع الله لي من القبول في قلوب الخلق فوق الحد، وأوقع كلامي في نفوسهم فلا يرتابون بصحته، وقد أسلم على يدي نحو مئتين من أهل الذمة، ولقد تاب في مجلسي أكثر من مئة ألف"(5) ويعود أيضاً إلى قوة بديهته، وسرعة بادرته، وحضور ذهنه، ونوادر أجوبته، مع كثرة محفوظه، وسعة روايته.
العبقرية في صيد الخاطر:
وكتاب "صيد الخاطر" هو نوع من الأدب الذي يسمى أدب الخواطر، أو أدب الاعترافات، وهو يهتم بتسجيل الخواطر وخوالج النفس ساعة ورودها على الذهن، وقد وفق ابن الجوزي أيما توفيق في اختيار عنوانه، فقد صور الخواطر كأنها طيور السماء تراها العين ساعة ثم تفتقدها في برهة، فإذا اصطدتها وقيدتها ملكتها أبداً، فكان هذا الاسم "صيد الخاطر" - في رأي الشيخ الطنطاوي - نفحة من نفحات العبقرية(6).
ويمتاز الكتاب بطابعه الأدبي الجميل الذي يحقق لقارئه الفائدة والمتعة في آن واحد، ففيه مواعظ تصل إلى قرارة النفس، يخاطب فيها القلب والعاطفة والعقل بالدليل، يمزجها مزجاً عجيباً، فيه من شواهد الأشعار، وعجائب الأخبار ما يثبته في النفس، ويرى الشيخ في تلك المواعظ بذوراً تلقى في الأرض لتنبت الصلاح، وتثمر الجنة(7).
ويرى شيخنا الجليل أن الكتاب متميز بأسلوبه الجميل، فهو يسمو حيناً حتى يبلغ الذروة، ويكون منه المعجب والمطرب، حتى كأنه شعر مطبوع.. وينطلق أحياناً سهلاً بلا تكلف وكأنه يتحدث إلى جليس، وربما عقد وعاظل، واختصر المعنى، واكتفى بالإشارة عن البيان(8).
ولعل التوفيق الذي حظي به الكتاب عند القراء عائد أيضاً إلى كثرة استشهاده بالشعر، فقد كان ابن الجوزي يسوق خلال فصوله شوارد الشواهد، ويقيد نوافر الأوابد(9).
وكان ابن الجوزي شاعراً مجيداً يتذوق الشعر، ويكثر الاستشهاد به، وكان كثير الافتخار بنفسه وبعلمه، فمن ذلك قوله:
ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا=وأكابد النهج العسير الأطولا
لو كان هذا العلم شخصاً ناطقاً=وسألته هل زار مثلي قال: لا
الطنطاوي أساليب ورؤى:
إن الشيخ الطنطاوي هو من العلماء البارزين الذين كانوا يؤمنون بواجب الدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة والأدب الهادف، فالدعوة عنده بث الأفكار، وعرض الحقائق على أفراد الناس في المجالس والمجامع، والطرق وفي كل مكان بالأسلوب المناسب، والتعبير الموافق لما تقتضيه الحال من غير دخول في جدل، أو اشتباك مع مخالف(10).
لقد كان يرى في قوة الشباب آمال الأمة في الخروج من الضعف إلى القوة، ويعني بالشباب هنا ذلك الشباب الحي العامل، القوي المتين، الذي وضع له غاية في العيش أبعد من العيش، ونظم نفسه حلقة في سلسلة شعبه، واتخذ له مطمحاً، ومثلاً عالياً ثم عمل على بلوغه، وسعى إليه باندفاع الصواعق المنقضة، وقوة العواصف العاتية(11).
انظر معي إلى هذه النصائح التي تشع بالأمل، والتفاؤل، والإيجابية، يقول مخاطباً الشباب: "اقرؤوا قصائد الشعراء من الشباب، إنها مليئة بالآلام، مغمورة بالكآبة، غارقة بالدموع.. لم يبصرون ظلام الليل، ولا يرون بها السماء؟
لم يفكرون في وحشة الخريف، ولا يفكرون في روعته؟
لم ينتبهون إلى عري الشتاء، ولا ينتبهون إلى خشوعه؟
إن كل ما في الدنيا جميل بهي، ولكن في عين الشباب الصحيح القوي. أما المريض، أما المسلول المحطم، فلا يرى إلا الظلام.
فيا شبابنا داووا نفوسكم من سل اليأس(12).
وختاماً نقول: إن الشيخ علي الطنطاوي هو أحد رواد الأدب الإسلامي في هذا القرن بإنتاجه المتميز، وأسلوبه الشائق، فرحمه الله، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير ما يجازي به عباده المؤمنين المجاهدين.
الهوامش:
(1) صيد الخاطر – ابن الجوزي - تحقيق علي الطنطاوي وناجي الطنطاوي – ص7، ط5، دار المنارة، جدة 1991م.
(2) نظرات في الأدب – أبو الحسن الندوي، ص31 – 32 ط1، دار البشير، عمان 1990م.
(3) انظر مقدمة صيد الخاطر – ص5.
(4) نفسه – ص10.
(5) نفسه – ص15 – 16.
(6) نفسه – ص5
(7) نفسه ص27.
(8) نفسه ص41.
(9) نفسه ص41.
(10) فصول إسلامية – علي الطنطاوي، ص24 – ط4، دار المنارة، 1990م.
(11) نفسه ص42.
(12) نفسه ص57.