الباوباب شجرة حياة وبذرة كاتب

الباوباب شجرة حياة وبذرة كاتب

د. فؤاد عفاني *

باحث من المغرب

[email protected]

تتوخى هذه الدراسة تقديم قراءة تحليلية لرواية الباوباب باعتبارها أول عمل روائي للكاتب المغربي الدكتور عبد الكريم  الفيلالي المولود سنة 1969 بمدينة وجدة. وجدير بالذكر أن للباحث عدد من المؤلفات المطبوعة؛ نذكر منها (أبو الحسن علي البناهي: رسائله، مقامته، شعره) (اكتساب اللغة العربية وتعلمها عند الطفل المغربي...)

اعتبر أحد القراء الفرنسيين في تعليق له على روايات ألان روب غرييه أن أي قارئ ربحه روب غرييه خسره الأدب الروائي؛ يأتي هذا الرأي تعبيرا عن الموقف التجريبي الذي كان يسلكه غرييه محدثا بذلك تجديدا في البناء الفني الروائي. نستحضر هذه القولة –مراعين طبعا اختلاف الظروف- لنؤكد تميز رواية الباوباب مضمونا باقتحامها لقضايا جديدة في الرواية المغربية كعبور الأفارقة شمال إفريقيا في رحلتهم نحو بلاد "الأحلام"، أو كتجارة الرقيق وما رافقها من إذلال للإنسان الإفريقي. أما  شكلا فالرواية حصيلة تآلف ثلاث قصص تتباين بداياتها لتلقي نهايتها وتصب في بوثقة واحدة، هذه القصص هي (قصة عبد الرحمن من السينيغال، قصة وسيني من الجزائر، قصة سليم من المغرب). إن الناظم المكاني في القصص الثلاثة إفريقيا وما يزخر به هذا المكان من غنى ثقافي وجغرافي، أما الإطار الزمني وإن لم يحدد بمؤشرات واضحة إلا أن هناك بعض الأحداث التي يمكن أن نستشف منها السياق الزمني التقريبي؛ كحادث المهاجرين الأفارقة الذين قتلوا عندما راموا اختراق الأسلاك الشائكة المسيجة لمليلية المحتلة.

فيما يتعلق بالشخصيات المحركة لخيوط السرد، التي ستنصب عليها قراءتنا، فيمكن تناولها وفق الرؤية المنهجية الآتية:

مرأة الباوباب البحث عن الذات وأزمة عدم الاكتمال:

إن شخصيات المرأة في رواية الباوباب توزعت مكانيا كما يلي:

ثلاث نساء في جزيرة غوركي: جدة عبد الرحمن، الأم فاتيمو، الخالة مريما.

امرأتان في الجزائر: خضرة زوجة وسيني، وكريمة ابنته.

امرأة في المغرب: سلوى.

امرأتان في اسبانيا: ستي، إيزابيلا.

امرأة متنقلة بين الشمال والجنوب (فرنسا، السينيغال): سوزان.

تشترك هؤلاء النسوة في كون معظمهن يعانين عدم الاكتمال، فخضرة زوجة وسيني انفصلت عن زوجها في شكل طلاق مقنع بسبب استمرار غياب الزوج وانشغاله الدائم الذي ولد فتورا عاطفيا بين الطرفين، وقد أخذت خضرة عند رحيلها لأهلها ابنتها كريمة التي عاشت مدة طويلة دون أب، يقول الراوي واصفا حالة وسيني عند سماعه خبر زواج ابنته: "لقد ظل واجما للحظات، فجأة وجد ابنته قد بلغت سن الزواج، نمت كفطر. مرت السنوات سريعا ولم يستطع تحقيق أدنى شيء مما كان يحلم به"ص33.

المرأة النموذج الثانية هي سلوى: تأخذ بعض سماتها من مسماها "سلوى"؛ طالبة بشعبة الدراسات الإسلامية، كانت حبيبة لسليم  قبل أن تختار الزواج من أحد أساتذتها بالكلية راضية بمنزلة الزوجة الثالثة. عدم  الاكتمال النفسي لهذه الشخصية تبدى لنا من خلال فشل قصة حبها ويأسها من الانتظار أولا، ثم بزواجها "المفاجئ" الذي يجسد لحظة من لحظات تحقيق الذات عند الإنسان العربي.

امرأتا اسبانيا تبحثان عن المفقود أيضا فستي الشخصية المفتوحة على شتى التأويلات إذ لم يفصح النص الروائي عن هويتها تجعل القارئ أمام ثلاث افتراضات على الأقل؛ فمن الممكن أن تكون هي نفسها خضرة الزوجة، وقد تكون البنت كريمة، كما يرجح أيضا أن تكون "ستي" الشخصية الشعبية التراثية الي يحكى أنها جاءت من الشرق متيمة باحثة عن الولي الصالح سيدي بومدين، يصف سليم لقاءه بها قائلا: " بعدما عرفت بنفسها ، سألتني عن وسيني، وقالت لي:

-منذ مدة وأنا أبحث عنه، وقد دلني بعض المعارف عليك، أخبروني أنه كان معك قبيل المجاز"ص149.

لكن بحثها لم يجد نفعا فقد أجابها سليم: "ستي عليك ألا تيأسي، قد تجدين وسيني في كل الأمكنة" ص150.

أما إيزابيلا فهي صورة لفشل اللقاء بين ثقافتين مختلفتين فرغم ميل إيزابيلا لسليم فلم يبادلها يوما مشاعر الحب، بل حتى جسده قد انهزم امامها.

النموذج الثالث للمرأة كان إفريقيا وتمثل في: فاتيمو ومريما والجدة؛ تقوم مريما بوظيفة العامل المساعد في السرد، في حين أن فاتيمو الأم فقدت زوجها مامادو على إثر حادثة سير  في العاصمة داكار. تجرعت فاتيمو أصناف المعاناة، إذ تحملت مسؤولية إعالة الأسرة بالعمل بائعة ثم مساعدة في مطعم.

أما الجدة فتمثل العهد الرابط بين جيلين جيل الأجداد بحكمته وأساطيره وقيمه، وجيل الأبناء بتجربته وتحدياته. لذا فالجدة امتداد للباوباب أو هي الباوباب الإنساني؛ فقد حملت على عاتقها سرد حكايات الباوباب وعبد الرحمن الملك المستعبد كمكون ثقافي من جهة، وحملت بذرة الباوباب كمكون مادي من جهة ثانية، للتأكيد على اشتراك البعدين المادي والثقافي في تأسيس الإنساني والحضاري.

آخر نموج للمرأة في رواية الباوباب هو سوزان، تتحقق في هذه الشخصية كل مآزق المرأة في الغرب، فرغم ثقافتها إلا أنها متطرفة في تفكيرها فنظرتها للإنسان الإفريقي –خصوصا من الناحية الجنسية- تقوم على الأسطورة أكثر من استنادها إلى الحقيقة. شذوذها الجنسي تجل لأزمة القيم في المجتمع الغربي، فالسحاق –على رأي الراحل عبد الوهاب المسيري- هو التعبير النهائي عن تذويب الإنسانية المشتركة بين الرجل والمرأة، وكما قالت إحدى دعاة التمركز حول الإنثى" إذا كانت الفيمينيزم هي النظرية فالسحاق هو التطبيق. ويصبح من الطبيعي ألا تلجأ المرأة إلى الرجل لإنجاب الأطفال، بل يمكن أن تلجأ إلى المعامل والإجراءات العلمية "الطبيعية" المختلفة (المعقَّمة من التاريخ والمجتمع) التي تستبعد الرجل كشريك في إنسانية مشتركة. لذلك فعبد الرحمن بالنسبة لسوزان لم يكن أكثر من غريزة عابرة.

رجال الباوباب: الهجرة وحلم التطهر:

أزمة المثقف: يمثل وسيني "الأديب الجزائري" نموذجا لأزمة المثقف الجزائري خصوصا والعربي عموما، فقد التواصل مع أسرته كما فقد التواصل مع المجتمع، فـ"دخل وسيني مرحلة ركود ويأس وإحباط" ص25. وصارت أحلامه ترتطم تباعا على صخرة الواقع "جلس في المقهى، شعر كأن بالمكان تحول ما، لم يستطع تحديده، كأن الزلزال بداخله. اقترب منه بائع  الجرائد، سلم عليه وسلمه جرائد اليوم.

غمغم:

-حتى ما كنت أقوم به في الجامعة لم يكن إلا هباء، ها هو بائع الجرائد لم يكن إلا أحد طلبتي المجازين. لم يشعر وسيني بغم مثلما شعر به الآن. كـأن مطرقة هوت على قنة رأسه، فاستفاق من وهمه" ص33-34. يتأثر وسيني بالتحولات التي عاشتها الجزائر فتستهويه حكاية "الجحش الذهبي" للوكيوس أبوليوس ليحولها إلى نص مسرحي يصبح معه طريدا مستباحا دمه من جماعة لا هوية لأفرادها الذين يقول عنهم وسيني: "لو كانوا عسكرا لكانت لهم ملامح قريبة من العسكر، لو كانوا إرهابيين  لكان باد عليهم الأمر، كانت وجوههم كآلات كسيت بجلود آدمية" ص52.

إن الانفصام الاجتماعي والسياسي لوسيني تكتمل خريطته بالانفصام الثقافي فهو  حائر بين الشرق والغرب بين الأنا والآخر، وهذا ما نتبينه من خلال المقطع الآتي المؤسس لحوار بين وسيني والرجل الذي رآه في المنام، يقول الرجل:

"-أترى جرحك؟ إذا لم تنظفه يتعفن.

-ما سبيلي إلى التخلص من هذا التعفن.

-شفاء جرحك في تغريبتك في غربتك في اقتفاء أثري.

-أأكون أقل شأنا من الضفدعة؟ رفضت الخروج حين شب حريق في الغابة موطِنها وقالت:

-حريق بطني ولا هجران وطني" ص59.

ولكن إذا كانت نصيحة رجل المنام ترى في الغرب ملجأ فإن حلم الشرق ظل يراود روح  وسيني: "لو كان سيدي بومدين حقيقة، لنصحني بتشريقة إلى مكة أو القدس. أيكون ما رأيت أضغاث أحلام؟ أشيطان تلبس لبوس سيدي بومدين؟"ص60، وهكذا فرغم هجرة وسيني إلى إسبانيا إلا أنه ظل مسكونا بالشرق؛ لذلك يجيب سليم في آخر الرواية ستي الباحثة عن وسيني: "صحيح ما تقولين، ولكن مباشرة بعد ذلك توجه إلى مدريد، وكان لي اتصال وحيد به، وبعد ذلك انقطعت عني أخباره. ولا أخفيك سرا إن قلت لك إنه عبر لي أكثر من مرة عن رغبته في التوجه إلى القدس إذا ما أتيحت له الفرصة"ص149.

ثالث شخصية رجالية في الرواية هي: سليم/سليمان/مرابط دلالات شتى لمدلول واحد كما يقول أهل التفكيك، "يوم ذبح العقيقة أسماني جدي مرابطا. وبعد ذلك صارت تدعوني أمي سليما، وأنا أمامك سليمان". سليم شاب مغربي مجاز في الحقوق ينتحل شخصية سليمان الزواوي الجزائري هربا من ذكرى السجن المؤلمة، السجن الذي دخله ظلما. سليمان وجه ثان للمثقف فقد اتخذ من العمل المدني سبيلا لتقديم يد العون لدواره، كما ظل متمسكا بمباذئه في مواجهته لكل أشكال الفساد ومن ذلك موقفه من خاله العباس الطبيب المتميز والمسؤول في حزب اشتراكي عتيد حين وصف لغته بالخشب وأفكاره بالحطب وأفكاره بالحديد.

عبد الرحمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن تبدأ رحلة عبد الرحمن من جزيرة غوركي لتنتهي بالعودة إلى الجزيرة عينها، فقد كانت هذه الشخصية تطمح إلى تحقيق الاكتمال بالعثور على سوزان الحبيية والابن ميشال ولكن رحلة البحث لم يُكتب لها النجاح فقد حالت حدود الأسلاك الشائكة وقيم الحقد والكراهية دون عبوره إلى الضفة الأخرى. ارتبط عبد الرحمن منذ صغره بالباوباب فكان كثيرا ما ينادى عليه بهذا الاسم. وقد ظل يحمل على امتداد النص الروائي بذور شجرة الحياة كأنه كأن كان يريد زرع القيم المشتركة بين الإنسان؛ فمن جزيرة غوركي إلى المغرب مرورا بالصحراء إلى مدينة غرناطة حيث غرس سليم ما تبقى عنده من بذور.

ختاما، إن شخصيات الباوباب تعاني لعنة التيه والبحث الدائم عن الاكتمال.. شخصيات هاربة من واقع مليء بالمآسي والمتناقضات نحو حلم أينما حلت في بحثها المحموم عنه تركت جزءا منها.

إن الباوباب باختصار تصوير لمعاناة الجيل الجديد .. أو بعبارة تصوير لجيلنا، فما نحن إلا شجرة الباوباب، إذ في الوقت الذي صار فيه العالم قرية صغيرة أصبح كل واحد منا عالما فريدا غريبا بحجم شجرة الباوباب نحتوي أسرارا.. أفكارا.. ولما لا أناسا.. لكن نحن في الوقت ذاته نحن حقيقة مقلوبة قلبتها لعنة الواقع  لعنة السلط كما قلب الإله شجرة الباوباب يوما حين أغضبه نزوعها إلى الحرية.

               

* المهنة: أستاذ بالمدارس الثانوية المغربية

حاصل على شهادة الإجازة في الأدب العربي  سنة  2000 من جامعة محمد الأول بوجدة.

حاصل على دبلوم الدراسات العليا المعمقة من وحدة الأدب المغاربي الحديث والمعاصر سنة 2004.

حاصل على شهادة الدكتوراه في الأدب الحديث سنة 2010 من جامعة محمد الأول.

من الأبحاث المنشورة:

"نظرية التلقي.. رحلة الهجرة" دار نينوى للنشر سوريا، الطبعة الأولى 2011.

"دراسات نقدية في الكتاب المدرسي" تأليف مشترك، مطبعة الأنوار، المغرب 2012.

قراءة في كتاب: رحلتي الفكرية للدكتور عبد الوهاب المسيري، إسلامية المعرفة، ع68، 2012.

للباحث عدد من الدراسات المنشورة في المجلات المغربية والعربية

شارك الباحث في عدد من الندوات الوطنية