الإبداع الشعري عند السياب
محمد فريد الرياحي
وأشعل في دمي زلزال
لأكتب قبل موتي أو جنوني أو ضمور يدي من الإعياء
إن عناق اليد والخيال هو العناق الذي يلتقي فيه المثل الأعلى بالواقع الإنساني. وعندما يتم بشكل شاعري ، تهتز الأرض، وتربو، وتصبح الحياة غير الحياة. كان الإبداع الشعري خصبا عند السياب، ولهذا تداخل في الجو الأسطوري الذي يبشر بالولادة، فكان زلزالا ينبئ بالبعث والنشور. إن الزلزال رحلة إبداعية في الإنسان والأرض والسماوات، من أجل خلق جديد، وإن السياب في توحده بالكتابة الشعرية رمز للغناء الإنساني. الأرض كانت دائما مصدرا للخصب، والمرأة كانت دائما موطنا للولادة، والسياب كان في حال بحث دائم عن الإبداع. وقد وجده في (غيلان) الذي يمثل الامتداد الحياتي، والخلود الوجودي، كما وجده في شعره المبدع. كان السياب يمارس الرومانسية في عنفوانها الرائق ، وعنفها الدافق. بدأ حياته رومانسيا، وانتهى رومانسيا كما بدأ، فكان شعره ،من هنا، خطابا يخفق بروافد الحياة التي تأتي من حيث يدري الشاعر ولا يدري لتصب، في نهاية المطاف، في ذاته، فتشرق هذه الذات بنور الفيض، ويكون ما يكون مما يدرك بالبصيرة الشاعرة، ولا يدرك بالعقل المتحجر. وما ينبيك مثل شاعر أصر على العشق، فلم يغادر من فنونه صغيرة ولا كبيرة إلا أحاط بها خبرا. والعشق في كل الأحوال يهدي للقصيدة التي تتلبس بها، فتزيدك شعورا بالحياة، وتمنحك الفاعلية في الخضم الوجودي، وترفعك درجات فوق ما يظنه الناس حقا وما هو بالحق، ولكنه إفك باطل، وزيف آفل. فهل تسكن النفس إلى الشعر الذي يذكرها بأصلها وجوهرها؟ وهل يتحول العالم إلى قصيدة من التفرد أصلها؟ إن هذا التفرد يهدي للحياة الشاعرية التي لا ترضى بالوجهة الواحدة، ولكنها تتخذ في سلوكها ألوانا وأبعادا منبتها في الإبداع الشعري، والغرابة الإبداعية. الناس رضوا الحياة العادية سلوكا ومنهاجا، والشاعر دائم البحث عن الأجواء الشاعرية في نفسه، وفي عالمه من خلال الكتابة، وهو لا يستطيع أن يتخلى عن هذه الكتابة التي تتحول في المجال الشعري إلى فعل قوي، وقدر مسيطر لا يغادران الشاعر إلا في حال الموت الجسدي. لقد تنبه السياب إلى حقيقة الموت الذي إن استطاع، بطريقة حتمية، اغتيال الجسد، فإنه لا يستطيع قتل الحقيقة الشعرية في حياة الشاعر وشعره.
رنين المعول الحجري يزحف نحو أطرافي
سأعجز بعد حين عن كتابة بيت شعر في خيالي جال
إن العجز الذي يحمله الموت على رنين المعول الحجري لا يستطيع أن يطفئ لهيب الشعر، أو يحول بين الشاعر وبين الاستمرار في الكتابة الشعرية. ذلك بأن الخيال الشعري الذي يرقى إلى الآفاق العلى ليعانق المثل في صفائه ونقائه، ثم ينزل بعد ذلك ليشعل الدم إبداعا، لا يدركه الموت، ولا ينال منه الفناء. من هنا، كان السياب مطمئنا إلى وضعه الحياتي، هادئا في تقبله للمرض والموت، متحديا لهذا الموت في ثبات شاعري. لقد أعلن أنه سيستمر في الكتابة حتى اللحظة الأخيرة من وجوده.