الشاعر أبو عراق وصرخة البوح
في مدن الضياع
عبد الزهرة لازم شباري
ما الذي يستطيع أن يستنتج منه القارئ والمتابع عند الولوج بقراءة مجموعة الشاعر ( أبو عراق ) ( من ...) ؟
وما هي الإشارات الدالة فيها التي يمكن أن يميزها الناقد الحاذق على وجه التقريب ؟
أعتقد أن هذه التجربة الفنية بمفرداتها اللغوية والبلاغية لو توبعت ودفعت إلى مبتغاها الأصيل ، وترجمة إلى ما قد يحدَث حادثها خوف مهارات النتاج الشعري ، فأنها ستكون بالتأكيد إندفاعة جديدة للشعر المعاصر !
فقصائد هذه المجموعة تجربة غنية أصيلة ، محكمة بعناصرها ومفرداتها التي تسافر بالمتابع إلى فضاءات جديدة ، وتعلن عن حلول فجر جديد مقترن مع أحداث هذا الزمن البهيم الذي نعيش فيه ، وهذا ما نلمسه من ورع وقوة وقدرة الشاعر على توليد هذه المعاني لكي تلج آفاق جمالية مبدعة ، يملك الشاعر دفة السيطرة عليها وقيادتها في البحار المظلمة دون أي دليل !
ففي كل قصائد مجموعته الصغيرة وكل العناصر التي يثري بها مدلولات القصيدة وما يزيدها فرادة وفنية ، وما يبعدها عن الركاكة والهشاشة ، نجده يستنفر كل طاقاته التعبيرية الكامنة في مواجهة انعدام النص الشعري تحت وطأة أنقاض الحوادث التي تأقلم حياة الإنسان من جهة ، وتربض بفكر القارئ المتابع من جهة أخرى .
فهو إذن مثل هذا الموقف الإبداعي بصفته الأساسية دون تجلببها بجلباب الخيال العاطفي ، بروح تمور بلهيب الإبداع ، وهو ينأى بها عن الإسفاف ، ينظم آفاقها ويقطع حجارتها من الجبال البعيدة الصلدة ، لتكون قوية السبك عالية المعنى ، جميلة الصورة !
فالشاعر أبو عراق ينوع خطابه الشعري من الأنا الفردية الواضحة إلى ضمير هو أو هي ، وغالباً ما يكون هذا التوجه في قصائده حاضراً ، وتناقضات أثره واضحة ومكشوفة ، حيث نراه يتحدث عن الآخر إذا ما كان هذا الآخر هو الشاعر نفسه !
وهذا يعني على أن الشاعر حسم علاقة لغته الشعرية مع الواقع اليومي الذي يعيش فيه ، وبدأ يتوج إمكانياته التي تقربه أكثر إلى الولوج في معترك القصيدة ذات الأطر الجميلة المبدعة ، فيقول :
(( من أجلك
أستبدل نافذتي بالأفق ،
لتحلَق طيوري دون إياب )) ص 10
وهذا واضح للمتلمس والقارئ الذي يدرك المعنى بأنه يريد أن لا تحده القضبان ولا الدهاليز الضيقة ، يريد أن يتخذ من الأفق فضاء يطير به ، حتى لو لم تعد طيوره !
وهذه حالة عالية بتوجيه القصيدة إلى الوجهة التي يراها أقرب إلى تكوينه الثقافي وذوقه الجمالي الذي يتشبع بالتأكيد بمناخ تراثي قدْر له أن يكون غنيَ بالمفردات والحوادث والقصص التي أتخذ منها مناراً للانطلاق بضوئه إلى متاهات القصيدة ومعابرها ، فيقول في قصيدة ( عصيان ) :
(( .... لم أطلب أن تستودعيني خزائنك ،
وتمنحيني سر منابعك ،
أردت أن أحلم بك فحسب ،
دون أن أغمض عيني )) ص 15
وهذا دليل واضح على ولوج الشاعر ودخوله بلهيب الانفعال المباشر وجمال البناء ، إذ ْ أن هذا المدى الذي يكتنفه جسَد العلاقة الوطيدة بينه وبين المجتمع من جهة ، وبين الحوادث التي يراها تملأ فضاءه الشعري من جهة أخرى .
عليه نجده خلق إمكانيات كبيرة سترسو به إلى ميناء الشعر الأصيل !
ففي قصيدة ( مواعظ تفقد الورع ) إشارة أخرى إلى إلمام الشاعر بالذي يحيط به وما يراه خطراً على مجتمعه وأمته ، لذا نراه يترجم وصاياه ونصائحه للعالم الذي أنخدع ببهارج الزمن المأفون بوابل الحقد والخديعة والظلام فيقول :
(( أسلَم لك أن تفقد رأسك ،
من أن تفقد حلمك ،
لا تنخدع بالبياض ،
ولا تلعن السواد ،
لا تستسلم لشهيق الروابي
ولا لزفير المياسم ،
فاللتويجات خططها غير المعلنة )) ص 16
غير أن الشاعر تبدأ انكساراته وخيبته وتعجبه الغريب ، ويعتمد على البوح الجريء دون اللجوء إلى الرمزية والأقنعة التي تؤطر بعض الكلام ، وبهذا يذهب الشاعر علي إلى المباشر في ابتكار الصور الشعرية المبدعة فيقول في قصيدة ( بعد كل شيء ) :
(( بعد أن ذوى قصديري
وتفتت نحاسي ،
وأجهشت فضتي بالعتمة ،
وساح رصاصي في دهاليز الخيبة ،
وتناثر ذهبي ذرات ذليلة
بأشعتك المنكسرة ،
تسأليني كم ْ أحبك ؟ ) ص19
وهذا الخطاب الذي حلَق به الشاعر متخذاً عين الذات والنشوة الروحية فيما يقترن مع قلق الخيبة ونسيان الوجع السرمدي لديه ، تجلَت مهارته الشعرية في رسم تلك الصورة الجميلة في هذا النص الذي أعطى نموذجاً إبداعياً يغني لحظة الاقتران بمدلولات القصيدة وما أثرت به تلك الحالة .
وهكذا نجده في كل قصائد مجموعته الجميلة هذه التي لا أريد التوغل فيها وشرح مدلولات قصائدها حتى لا أسلب من القارئ الكريم فرصة التمتع فيها ، والتعرف على ماذا يريد الشاعر في هذه الصور المبدعة ،
ومن الله التوفيق !
في البصــــ11/7/2012ـــــــــــــــــــرة