حيف الحسن بن وكيع
حيف الحسن بن وكيع
د. الجيلالي الغرابي
هو أبو محمد بن الحسن بن علي المكنى بابن وكيع التنيسي "شاعر بارع، وعالم جامع، قد برع في إبانه على أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه، وله كل بديعة تسحر الأوهام، وتستعبد الأفهام." ([1])
ومن ثم كان من الطبَعي أن يحسد أبا الطيب، ويتحامل عليه، محاولا تجريحه، فألف كتابا أسماه )المنصف للسارق والمسروق من المتنبي(، متبعا خطة منظمة لا تشبه خطة أبي علي الحاتمي القائمة على التذكر وتداعي الخواطر. بل لقد تناول ديوان المتنبي قصيدة قصيدة حسب تسلسلها الزمني.
اِستهله بالحديث عن دواعي تأليفه، وهي الرد على من يعظمون هذا الشاعر، ويقولون إنه لم يكن لشيء من معانيه سارقا، وإنه كان إلى جميعها سابقا... فأنكر عليه بعض الأمور في أشعاره، يقول:"وبعد ذلك قصيدة أولها:)من بحر الكامل(
هَذي بَرَزْت لنَا فَهجْت رَسيسَا ò ثمَ انْصََرفْت وَمَا شفيت نَسيسَا([2])
حذف حرف النداء من المبهمات، لحن عند البصريين لأنه لا إعراب له يدل على إرادتك، كما يدل قولك:"زيد أقبل" على المحذوف وهو في المبهمات التي لا إعراب لها، لا يدل على مرادك ويشكل. ولا يجوز إلا في رواية شاذة غير موثوق بها ولا معمول عليها."([3])
لقد حذف المتنبي حرف النداء )الياء( للضرورة الشعرية، قال القاضي الجرجاني:"قال المحتج:هذا لعمري أصل القياس في النحو، غير أن ضرورة الشعر تجيز ترك القياس في النحو، وقد أجازوا ذلك في النكرات، وهو أبعد في الجواز من هذه المعارف، قال الشاعر:)من بحر مجزوء الرمل(
صَاح هَلْ أبْصَرْتَ بالخَبْ ò تَيْن منْ أسْمَاءَ نَارَا
وقال العجاج:) من بحر الرجز(
جَاري، لا تسْتنكري عَذيري ([4])
فإذا جاز هذا في النكرات فهو في المعارف أجوز، مع أن النحويين قد ذكروا ذلك وأدخلوه في أبواب ضرورة الشعر"([5])، ولقد أجاز ذلك نفرٌ من النحاة الكوفيين، وكان المتنبي يأخذ بمذهبهم في غير قليل من أشعاره.
ويجوز _حسب المدرسة البصرية_ حذفُ حرف النداء اختصارًا، باستثناء مواضع منها اسم الله تعالى إذا لم تلحقه الميم، والمستغاث، والمتعجب منه، والمندوب، واسم الجنس، واسم الإشارة، والنكرة غير المقصودة. وأجازت طائفة منهم حذفه في الثلاثة الأخيرة، وعليه ابن مالك...
وقال )ابن وكيع(:"وما أشبه هذا بقوله:)من بحر الكامل(
جَلَلاً كَمَا بي فَلْيَكُ التبْريحُ ò أغِذَاءُ ذَا الرَشَأِ الأغَنِ الشِيحُ([6])
فبينا هو يشكو تباريحه إذ صار يسأل عن غذاء الرشأ ما هو، وقد قيل للعجاج:"ليهنك ما يقول رؤبة من جيد الشعر". قال:"نعم ولكني أقول البيت وأخاه، وهو يقول البيت وابن عمه".وهذا الكلام الذي قاله لا يشبه ابن عم البيت ولا يستحق اسم جار قريب. وما أفرح بهذا الخروج ولا أستحسنه."([7])
غير أن بعض النقاد دققوا النظر في معنى البيت، فوجدوا اتصالا لطيفا بين صدره وعجزه، وتكاملا بينهما، قال )القاضي الجرجاني(:"وقال غيره إن بين المصراعين اتصالا لطيفا، وهو أنه لما أخبر عن عظم تبريحه، وشدة أسفه، بين أن الذي أورثه التبريح والأسف، وهدى إليه الشوق والقلق هو الأغن الذي شككه غلبة شبه الغزلان عليه في غذائه."([8])
وأنكر عليه استعماله لفظة )مخشلبا(، لأنها عامية، ولم يستعملها أي عربي، فقال:"وقال المتنبي:)من بحر البسيط(
بَيَاضُ وَجْهِِ يُريكَ الشمْسَ حَاِلكَةً ò َودُرُ لفْظِِ يريكَ الدرَ مَخْشَلَبَا([9])
جعل أبو الطيب كلام العامة لغة وأصلا يبني عليه ويستند إليه، أي عربي عرف المخشلب قط، وفي أي شعر ورد لفصيح أو مولد حتى نجيزه له؟"([10])
إن هاته الكلمة ليست عربية، وإنما هي نبطية، وهذا لا يمنع الشعراء من الاتكاء على الألفاظ الأجنبية، وخاصة في حالة الضرورات، فالمتنبي استعملها هنا لتتميم القافية. كما أن ابن وكيع قد غض الطرف عن دواوين بعض الشعراء المشحونة بالمصطلحات غير العربية مثل )أبي نواس( وغيره.
قال القاضي الجرجاني:"غير أني أرى استعمالها وأمثالها غير محفوظ، لأني أجد العرب تستعمل كثيرا من ألفاظ العجم إذا احتاجت إليه لإقامة الوزن، وإتمام القافية، وقد تتجاوز ذلك إلى استعماله مع الاستغناء عنه، كما سموا الحَمَل بَرَقا مع كثرة أسماء الغنم عندهم، وكما قال التغلبي:)من بحر الطويل(
وَكُنا إذا القيْسِي نَب عَتودُهُ ò ضَرَبْنَاهُ دُونَ الأنْثيَيْنِ عَلى الكَرْدِ([11])
أراد الكَرْدَن، وهو العنق، فأقام به القافية. وقال الآخر:)من بحر المنسرح(
قَدْ عَلِمَتْ فَاِرسٌ وَحِمْيَرُ وَالأعْ ò رَابُ بالدشْتِ أيهُمْ نَزَلا([12])
أراد الدشْتَ وهو فارسي، وأسماؤه عند العرب كثيرة، فلم يمنعهم ذلك من الارتفاق به. وكذا قال الآخر:)من بحر الطويل(
تَضَمنَهَا وَهُمْ رُكُوبٌ كَأنهُò إذَا ضَم جَنْبَيْهَا المَخَاِرقُ رَزْدَقُ
يريد رَسْتَهُ، وهو الصف من النخل وغيره، إلا أنهم زعموا أنه أراد النخل هنا. وقد استعمل العجاج في قوافي جيميته ألفاظا منه، قال:)من بحر الرجز(
كَمَا رَأيْتَ فِي المَُلاَءِ البَرْدَجَا([13])
يريد الرقيق، وهو بالفارسية بَرْده. وقال:)من بحر الرجز(
كَالحَبَشِي التَف أوْ تَسَبجَا([14])
يريد لبس قميصا، وإنما هو بالفارسية شَبِي فعربه بسَبيجَة ثم صرف منه فعلا، في أبيات غيرها.
فليس بمحظور على الشاعر الاقتداء بهم في أمثال ذلك إذا احتاج إليه، فأما المحدثون فقد اتسعوا فيه حتى جاوزوا الحد لما احتاجوا إلى الإفهام، وكانت تلك الألفاظ أغلبَ على أهل زمانهم، وأقربَ من أفهام من يقصدون إفهامه.
وقد أفرط أبو نواس حتى استعمل زنمرده، وبازبنده، وباريكنده، وغير ذلك."([15])
كما عاب ابن وكيع على أبي الطيب عدة أبيات، يقول:"يليها قصيدة أولها:)من بحر الوافر(
مُلِث القَطِْر أعْطِشْهَا رُبُوعَا ò وإلا فَاسْقِهَا السم النِقيعَا([16])
من شأن منازل الأحباب أن يدعى لها بالترويض والبهجة... وما سبق أحد أبا الطيب إلى الدعاء على منازل الأحباب بالعطش، ولا من عادة السحاب سقيا السم، ولا السم مما يدعى به على الجمادات، ولو قال:أمطرها حجارة تهدمها، وأرسل عليها صواعق تحرقها، مما يجوز مثله أن يقع من السحاب، لكان أحسن فيا لدعاء عليها، ولما أغرب في الدعاء عليها جاء بعذر أشبه شيء باستئناف ذم."([17])
يقول المتنبي يا أيها السحاب الدائم المطر أعطش هاته الديار، وإن لم تعطشها فاسقها السم النقيع عوض الماء، ولا عيب عليه في هذا، فهو دعا عليها لأنه حين وقف بها وسألها لم تجبه، ولم تشاركه بكاءه أحبته، أو لأنه أساء أهلها إليه، ولم تحسن بينهم إقامته... ولقد سبقه الشاعر الأموي )جرير( إلى الدعاء على الديار بالسم، فقال:)من بحر الطويل(
سقِيتِ دَمَ الحَياتِ، مَا بَالُ زَاِئِِر ò يُلِم فَيُعْطَى نَائِلاً أنْ يُكَلمَا([18])
ثم يقول:"وقال المتنبي:)من بحر الطويل(
فَقَلْقَلْتُ بِالهَم الذِي قَلْقَلَ الحَشَا ò قَلاَقِلَ عِيسِِ كُلهُن قلاقلُ([19])
هذا البيت مما ذكره أبو العباس النامي في عيوب شعره وما ظلمه."([20])
إذا كان )ابن وكيع( عد هذا القول من عيوب المتنبي، فإن نقادًا آخرين اعتبروه من عيونه، فقد ورد في كتب النقد أن )أبا نصر بن المرزبان( ذكر رؤساء الشعر ثلاثة، أولهم شلشل، وثانيهم سلسل، وثالثهم قلقل.
فأما الذي شلشل فهو )الأعشى الكبير( في قوله:)من بحر البسيط(
وقَدْ غَدَوْتُ إلَى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي ò شَاِِو مِشَل شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَِولُ([21])
وأما الذي سلسل فهو )مسلم بن الوليد( في قوله:)من بحر الكامل(
سُلتْ وَسَلتْ ثُم سَل سَِليلُهَا ò فَأتَى سَليلُ سَليلِها مَسْلُولاَ([22])
وأما الذي قلقل فهو )المتنبي( في قوله السابق )فقلقلت...(.
ويستمر ابن وكيع في انتقاده، فيقول:"وقال المتنبي:)من بحر الطويل(
وَمِنْ جَاهِلِِ بِي وَهْوَ يَجْهَلُ جَهْلَهُ ò وَيَجْهَلُ عِلْمِي أنهُ بِيَ جَاهِلُ([23])
)...( وهذا الجنس قبيح التعسف، بين التكلف، وفيه تعب وكد وبلاء وجهد."([24])
ليس في البيت تعسف قبيح ولا تعب ولا كد ولا بلاء ولا جهد، بل إنه سليم، ومعناه واضح، فأبو الطيب يتحدث عن شخص بكونه جاهلا به، وبكونه جاهلا جهله به، وبكونه جاهلا علمَ الشاعر جهله به.
ومما يشبه هذا قول )الخليل بن أحمد الفراهيدي(:)من بحر الكامل(
لَوْ كُنْتَ تعْلمُ مَا أقولُ عَذَرْتنِي ò أوْ كنتُ أجْهَلُ مَا تقولُ عَذَلتكَا
لَكِنْ جَهِلْتَ مَقَالَتِي فَعَذَلتنِـِي ò وَعَلِمْتُ أنكَ جَاهِلٌ فَعَذرُتكَـا([25])
وقل الآخر:)من بحر الطويل(
جَهِلْتَ وَلَمْ تعْلمْ بِأنكَ جَاهِلٌ ò فَمَنْ لِي بِأنْ تدِْري بِأنكَ لاَ تدِْري([26])
ويقول ابن وكيع:"وقال المتنبي:)من بحر الطويل(
وقَائِلَةٍ، وَالأرْضَ أعْنِي، تَعَجبًا ò عَلَي امْرُؤٌ يَمْشِي بِوَقِْري مِنَ الحِلْمِ([27])
قوله:"والأرض أعني تعجبا" قول بارد ركيك."([28])
هذا القول معناه واضح قوي، لا يحمل ركاكة، وليس باردا. فأبو الطيب يريد أن الأرض تقول متعجبة إنه يمشي علي امرؤ ثقيل حلمه مثل ثقلي...
إن نقدَ الحسن بن وكيع نقدٌ يهدف عمدًا إلى القدح والتجريح، وينصب على الدقائق والجزئيات، ويهتم بالكلمات. قال )الحسن بن رشيق القيرواني(:"وأما ابن وكيع فقد قدم في صدر كتابه على أبي الطيب مقدمة لا يصح لأحد معها شعر إلا الصدر الأول إن سلم ذلك لهم، وسماه "كتاب المنصف" مثل ما سمي اللديغ سليما، وما أبعد الإنصاف منه"([29])...
[1]_أبو منصور الثعالبي:يتيمة الدهر... الجزء الأول، ص:434.
_[2]ديوان أبي الطيب... المجلد الأول، ص:504.
_[3]الحسن بن وكيع:المنصف... ص:244.
[4]_ديوان العجاج. رواية:عبد الملك بن قريب الأصمعي، شرحه، وعني بتحقيقه:عزة حسن. مكتبة دار الشرق، بيروت_لبنان، بدون تاريخ، ص:221.
[5]_القاضي الجرجاني:الوساطة... صص:465_466.
[6]_ديوان أبي الطيب... المجلد الأول، ص:276.
[7]_الحسن بن وكيع:المنصف... ص:210.
[8]_القاضي الجرجاني:الوساطة... ص:442.
[9]_ديوان أبي الطيب... المجلد الأول، ص:191.
[10]_الحسن بن وكيع:المنصف... صص:382_383.
_[11]ينسب هذا البيت إلى الشاعر الفرزدق أيضا، مع رواية (فوق( مكان )دون(:_ ديوان الفرزدق. شرحه، وضبطه، وقدم له:علي فاعور. الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت_لبنان 1407هـ_1983م، ص:160.
[12]_هو الشاعر الأعشى الكبير._ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس. شرح وتعليق:محمد محمد حسين.الطبعة السابعة، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت_لبنان 1403هـ_1983م، ص:287.
[13]_ديوان العجاج. ص:354.
[14]_المصدر نفسه. ص:351.
[15]_القاضي الجرجاني:الوساطة... صص:461_462.
[16]_ديوان أبي الطيب... المجلد الأول، ص:543.
[17]_الحسن بن وكيع:المنصف... ص:348.
[18]_ديوان جرير. دار صادر للنشر والتوزيع، بيروت_لبنان، بدون تاريخ، ص:445.
[19]_ديوان أبي الطيب... المجلد الثاني، ص:210.
[20]_الحسن بن وكيع:المنصف... ص:171.
[21]_ديوان الأعشى... ص:109.
[22]_ديوان مسلم بن الوليد. تحقيق وتعليق:سامي الدهان. الطبعة الثانية، دار المعارف_مصر 1970م، ص:57.
[23]_ديوان أبي الطيب... المجلد الثاني، ص:209.
[24]_الحسن بن وكيع:المنصف... صص:169_170.
[25]_ديوان أبي الطيب... المجلد الثاني، هامش ص:209.
[26]_المصدر نفسه، المجلد نفسه، هامش الصفحة نفسها.
[27]_نفسه، المجلد الثاني، ص:411.
[28]_الحسن بن وكيع:المنصف... ص:223.
[29]_الحسن بن رشيق:العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. حققه، وفصله، وعلق حواشيه:محمد محيي الدين عبد الحميد. دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة، الطبعة الخامسة، بيروت_لبنان 1401هـ_1981م، الجزء الثاني، ص:281.