دراسة موجزة لكتاب تقييد العلم للخطيب البغدادي
دراسة موجزة لكتاب
تقييد العلم للخطيب البغدادي
سكينة لخشاف
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على اشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
فبعد المحاولات الفاشلة من أعداء الإسلام للتشكيك في القرآن الكريم، وبعد أن تبين لهم أن محاولاتهم لن تكون إلا كما قال الشاعر العربي:
كنــاطح الصخرة يوما ليوهنهـــــا فلم يضرهـــا وأهوى قرنه الوعـــــل
قاموا بمحاولات الأخرى لتشكيك في الأصل الثاني للإسلام؛ وهو السنة النبوية، فدخلوا من باب كتابتها للتشويش على المسلمين، حيث رددوا ما شاء لهم في هذه المسألة:
§ فزعموا أن السنة المطهرة لم تدون في عهد النبي e وتركت هباء حتى القرن الثاني الهجري عندما أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين حديث رسول الله eرسميا واستندوا في مزاعمهم على ورود النهي عن كتابة الحديث الشريف من النبي e
§ وأنكروا وقوع التقييد في عهده e وفي عهد الصحابة y من بعده حتى القرن الثاني الهجري بل إن بعضهم ليغلوا في ذلك حتى يزعم أن الحديث لم يدون حتى مطلع القرن الثالث مستدلين على ذلك بأن الحديث كان في تلك الفترة مضيعا لانقطاع كتابته وزعموا أن الأحاديث متعارضة…
وفي ظل هذه الزوبعة التي أثارها المستشرقون وغيرهم لطعن في السنة، ألفت عدة مصنفات ومن أتقنها كتاب
» تقييد العلم للخطيب البغدادي «
فالإمام الخطيب البغدادي ناقش المسألة بطريقة موضوعية وعلمية، ناهجا بذلك منهجا في غاية الدقة والإتقان، وسنحاول بإذن الله تعالى في هذا البحث الموجز دراسة كتابه على النحو التالي:
1. دراسة عنوان الكتاب
2. المنهجية التي اتبعها الخطيب البغدادي
3. تحليل مضمون الكتاب
1* دراسة العنوان
إن أول شيء يسترعي الاهتمام ويستحق وقفة تأملية، هو العنوان الذي اختاره الخطيب البغدادي "تقييد العلم"، الذي لم يتم بطريقة اعتباطية، فهو بمثابة رموز ومعاني لها دلالات تعكس القضايا التي من أجلها صنف كتابه.
قال الخطيب البغدادي تقييد العلم، ولم يقل جمع العلم، أو كتابة العلم، أو تصنيف العلم... وإذا حللنا كل عبارة من هذه العبارات وجدنا أن عبارته قوية لا تعبر عليها عبارة غيرها .
أ- الفرق بين التقييد والكتابة والتدوين والجمع والتصنيف
- تعريف الكتابة
قال جل جلاله : }وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ { ([1] ) قال الصابوني في تفسير هذه الآية: »أي لا تملوا أن تكتبوا الدين صغيرا كان أو كبيرا، قليلا أو كثيرا إلى وقت حلول ميعاده« ([2] )
إذا تمعنا في مصطلح الكتابة في لغة العرب ثم تتبعنا دلالاتها في القرآن الكريم يعرف حينئذ أن مسألة الكتابة متعلقة بالقلة والكثرة وليست مرتبطة بمنهج أو نظام معين
- تعريف التدوين والجمع
»التدوين هو تقييد المتفرق المشتت وجمعه في ديوان أي في كتاب، تجمع فيه الصحف فيضم الشمل، ويحفظ من الضياع « ([3] )
فعندما ننظر في كلمة "التدوين" نجد الجمع كما في الحديث "المسلمون لا يجمعهم ديوان" والجمع قد يخضع لنظام معين وقد لا يخضع. وإذا قلت جمع السنة كتدوين السنة فجمع السنة يقصد به جمعا شاملا لا يخضع أيضا لترتيب أو لنظام أو لمنهج معين.
- تعريف التصنيف
التصنيف : »تمييز الأشياء بعضها من بعض وصنف الشيء ميز بعضه من بعض وتصنيف الشيء جعله أصنافا« ([4] ) و التصنيف »ترتيب ما دُون في فصول محدودة وأبواب مميزة « ([5] )
@ فمن خلال العرض السابق لمفاهيم: "الكتابة"، و"التدوين"، و"التصنيف"، و"التقييد"؛ أن كتابة السنة كانت في حياة الرسول e بدون مناهج لأن الصحابة يستطيعون مراجعة النبي e في الوقت الذي يريدون وبعد وفاة رسول الله e قيدت السنة ويراد بالتقييد الجمع والتنسيق وفق المناهج العلمية والقواعد الدقيقة التي وضعها المحدثون في الجرح والتعديل لقبول الحديث.
2* المنهجية التي اتبعها الخطيب البغدادي
إن الناظر في هذا الكتاب، يلاحظ في الوهلة الأولى أنه عبارة عن أحاديث وأخبار تبين نشأة ومراحل تقييد العلم؛ لكن بمزيد من التأمل ندرك أن الخطيب البغدادي اتبع منهجا في غاية الدقة والإتقان لدفع كيد الكائدين الذين يقولون بتعارض الأحاديث، ورد عليهم بالموضوعية والنزاهة.
فأورد الخطيب كل الأحاديث التي تنهى عن الكتابة، وكل الأحاديث التي تأذن بها، ونظر في جميع الأحكام ولم يقتصر على حكم واحد وبين علة كل حكم.
اتبع الخطيب البغدادي طريقة منظمة وقسم كتابه إلى أربعة أقسام كل قسم تنضوي عليه فصول.
القسم الأول : سماه الآثار والأخبار الواردة عن كراهة كتابة العلم وفي ثلاث فصول:
§ الفصل الأول: نهي الرسول e عن الكتاب
§ الفصل الثاني: باب ذكر الأحاديث الموقوفة عن الصحابة y في كراهة الكتابة
§ الفصل الثالث: باب ذكر الرواية عن التابعين y في كراهة الكتابة
القسم الثاني : عنونه باب وصف العلة في كراهة كتاب الحديث وفيه كذلك ثلاث فصول
§ الفصل الأول: خوف الانكباب على درس غير القرآن وما ورد في ذلك
§ الفصل الثاني: خوف الاتكال على الكتاب وترك الحفظ وما ورد في ذلك
§ الفصل الثالث: خوف صيران العلم إلى غير أهله ومن دفن الكتب وأتلفها لذلك
القسم الثالث : عنون له بالآثار والأخبار الواردة عن إباحة كتاب العلم وفيه أربعة فصول
§ الفصل الأول : في إباحة كتاب العلم
§ الفصل الثاني: فيمن روى عنه من الصحابة y انه كتب العلم أو أمر بكتابته
§ الفصل الثالث: في الرواية عن التابعين y في كتاب العلم أو الأمر بكتابته
§ الفصل الرابع: الكتاب يحفظ العلم
القسم الرابع : والأخير فهو يحمل فضل الكتب وما قيل فيه وهو تحت ست فصول
§ الفصل الأول : فضل الكتب وبيان منافعها
§ الفصل الثاني : مما ترجم به الكتب
§ الفصل الثالث : في الإكثار من الكتب
§ الفصل الرابع : من وظف على نفسه الشغل بمطالعة الكتاب ودرسه
§ الفصل الخامس: من استوحش من الخليط والمعاشر فجعل انسه النظر في الدفاتر
§ الفصل السادس: من سلك في إعارة الكتب طريق البخل وضن به عمن ليس له بأهل .
3* تحليل مضمون الكتاب
بين الخطيب البغدادي أن أحاديث النهي والإباحة غير متعارضة، لأن النبي e أذن لبعض الصحابة y الذين أفردوا الحديث بالكتابة ولم يخلطوا بين القرآن وشرحه، أمثال عبد الله بن العاص y .
كما أثبت أن النهي عن الكتابة، إنما لعلل وتتجلى فيما يلي:
§ الانشغال بالحديث عن القرآن الكريم
§ بعض الصحابة كان يكتب القرآن ويكتب معه حديث رسول الله e الذي يشرحه، فلو سمح للصحابي y بأن يكتب معه الحديث لحدث الاختلاط بين القرآن الذي يتعبد بتلاوته وبين الحديث الذي لا يتعبد بتلاوته، لأنه في ذلك الوقت كان قلة الفقهاء، والمميزين بين الوحي وغيره، وأكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العلماء العارفين؛ فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقد أن ما اشتملت عليه كلام الله
§ كان الإسناد قريبا والعهد غير بعيد، والاتكال على الكتاب يؤدي إلى الاضطراب في الحفظ والنبي e لم يرد ضياع الثروة العربية في الحفظ؛ فالذين يطعنون في السنة لا يعرفون قوة الذاكرة والحافظة التي امتاز بها العرب، وهنا تأتي حكمة الله في اختيارهم لنقل هذه الثروة للأجيال اللاحقة.
وقد أورد الخطيب البغدادي - بالإضافة إلى مشهور الآثار، ومحفوظ الأحاديث والأخبار، عن رسول الله e وسلف الأمة الصالحين رضي الله عنهم أجمعين في إباحة واستحباب تقييد العلم- نبذة من أقوال أهل الأدب في فضل اقتناء الكتب، والأمر باتخاذها، والحث على جمعها، وإدامة النظر فيها، ووصف الشعراء لها فكان بذلك كتابه جامعاً لمعنى ما يتعلق بتقييد العلم وحراسته.
يمكن القول إن لكتاب تقييد العلم قيمة علمية غزيرة، فرغم أن هذا العلم تطرق إليه العديد من المصنفين إلا أنهم انتقصوا ولم يصنفوا كتابا بهذه القيمة العلمية، وبهذا كان الخطيب البغدادي هو المبرز في هذه المادة، فتميز عن غيره بأسلوب يكثر من الأمثلة والشواهد تنطق بما يريد، وهذا هو أسلوب المحدث، لا يعلق على ما يرويه إلا في القليل، إلا حين تدعوه الحاجة إلى ذلك، لا يتدخل بين القارئ والنصوص، فكأنه يعتبره لا يحتاج إلى هاد والى ولا دليل .
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
تقييد العلم للحافظ المؤرخ أبي بكر أحمد ابن علي ابن ثابت الخطيب البغدادي ولد سنة 392 وتوفي سنة 462 هـ رحمه الله تعالى صدره وحققه وعلق عليه يوسف العش الطبعة الأولى 1949 الطبعة الثانية 1974 نشرته دار إحياء السنة النبوية
تاج العروس من جواهر القاموس للسيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي الجزء التاسع مادة قيد تحقيق عبد الستار احمد فراج راجعته لجنة فنية من وزارة الإعلام مطبعة حكومة الكويت 1396هـ – 1971م التراث العربي سلسلة تصدرها وزارة الإعلام في الكويت.
لسان العرب للإمام العلامة أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المجلد التاسع المصري 1374هـ – 1955م.
([1]) سورة البقرة الآية 282
([2]) صفوة التفاسير، محمد علي الصابوني ج1 ص: 178
([3]) تقييد العلم، للخطيب البغدادي ص:
([4]) لسان العرب، المجلد التاسع، مادة صنف، ص 198
([5]) تقييد العلم، للخطيب البغدادي ص