الوساطة بين المتنبي وخصومه

د. الجيلالي الغرابي

مع كتاب

"الوساطة بين المتنبي

وخصومه"

د. الجيلالي الغرابي

[email protected]

1_الوساطة:_قيمته النقدية،

ومكانة مؤلفه

 يعتبر كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) واسطة عقد كتب النقد العربي، وأحدَ أهم مؤلفاته في القرن الرابع الهجري. ويعد مؤلفه (القاضي الجرجاني) أسطونا من أساطنة النقد الأدبي المبرزين، وجهبيذا من جهابذته المقدمين...

 يعزى هذا إلى داعيين اثنين، أولهما يعود إلى أن الكتاب يتحدث عن أبي الطيب المتنبي، وهو من أكبر شعراء هذا القرن خاصة، ومن أعظم شعراء أهل لغة الضاد عامة، ومن أكثرهم ذكرا وشهرة وذيوعا، وثانيهما يرجع إلى أن الكاتب أثار مشكلاتٍ نقدية عديدة، وحاول أن يناقشها بروح موضوعية نزيهة، وأن يطرحها بكيفية منهجية، وأن يعالجها بطريقة علمية.

 لقد وَضَعَ الجُرْجَانِيُّ الوساطة ردا على خصوم المتنبي، وتصديا لأقاويلهم واتهاماتهم، وتوسطا بينه وبينهم، وخاصة منهم (الصاحب بن عباد). يقول )أبو منصور الثعالبي(:"ولما عمل الصاحب رسالته المعروفة في إظهار "مساوئ المتنبي" عمل القاضي أبو الحسن كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه في شعره" فأحسن، وأبدع، وأطال وأطاب، وأصاب شاكلة الصواب، واستولى على الأمر في فصل الخطاب، وأعرب عن تبحره في الأدب وعلم العرب، وتمكنه من جودة الحفظ، وقوة النقد، فسار الكتاب مسير الرياح، وطار في البلاد بغير جناح، وقال فيه بعض العصريين من أهل نيسابور:(من بحر المتقارب)

 أيَا قاضيًا قدْ دَنتْ كتبُـهْ ò وَإنْ أصْبَحَتْ دَارُهُ شاحِطهْ

 كِتابُ الوَسَاطةِ فِي حُسْنِهِ ò لِعِقدِ مَعَاليكَ كَالوَاسِطـهْ."([1])

2_الوساطة:_طبْعاته

 طبع كتاب الوساطة ثلاث مرات:أولاها طبعه (أحمد عارف الزين) بصيدا بلبنان سنة:1331هـ/1912م، وثانيتها طبعته مطبعة (محمد علي صبيح) بمدينة القاهرة بمصر، وثالثتها طبعته مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بدار إحياء الكتب العربية بالقاهرة، وحققه (محمد أبو الفضل إبراهيم) و(علي محمد البجاوي)، وشرحاه. وشتان بين الطبعة الأخيرة المحققة والمشروحة وسابقتيها...

3_الوساطة:_أقسامه

 يمكن تقسيم المؤلف ثلاثة أقسام كبرى، هي:

*_القسم الأول:_المقدمة

 يمتد من الصفحة الأولى (ص:1) إلى الصفحة الثامنة والأربعين (ص:48). وشمل موقف الجرجاني من الأدب، وتبيينه ما يجب على أهل الأدب والعلم من الإنصاف والعدل، ومنهجه العام في النقد، واستعراضه أخطاء الجاهليين، وتفاوت أشعار الشعراء تبعا لمواضيعهم وأزمنتهم وبيئاتهم، واختلاف قريض الشاعر الواحد ذاته بين الجودة والرداءة، وما حواه الكتاب من ألوان بلاغية، والحديث عن الاستهلال والتخلص والخاتمة، ودعوة الناظمين إلى الاجتهاد في تحسينها وتجويدها.

*_القسم الثاني:_الدفاع عن المتنبي

 يضم ما بين الصفحة التاسعة والأربعين (ص:49) والصفحة الرابعة عشر بعد الأربعمائة (ص:414). يعرض فيه الجرجاني قضية أبي الطيب على الرأي الأدبي، ويحصر خصوم هذا الشاعر في فريقين اثنين، أولهما يعم بالنقص المحدثَ كله، ولا يرى الشعر إلا الجاهلي القديم، ولا يعترف بالشعر المحدث، وثانيهما يسلم بهما معا، ولكنه _رغم ذلك_ لا يقر بفضل المتنبي، ويخرجه من دائرة الشعراء وحلبتهم، ولا يرى له مزية. وهذا هو الخصم الألد، والمخالف المعاند الذي سيتصدى له الجرجاني، وسيرد عليه، ليثبت مكانة المتنبي الأدبية، ويقر بشاعريته الفذة، مطبقا مبدأ قياس الأشباه والنظائر، فإن أخطأ الشاعر، أو أحال، أو بالغ، أو سرق، أو قال أبياتا تمس العقيدة والأخلاق، فقد قام بذلك الشعراء الفحول من قبلُ.

*_القسم الثالث:_النقد التطبيقي

 يبتدئ من الصفحة الخامسة عشر بعد الأربعمائة (ص:415) حتى نهاية الكتاب، أي إلى الصفحة التاسعة والسبعين بعد الأربعمائة (ص:479). يتطرق فيه الجرجاني إلى مآخذ الخصوم على المتنبي، ويناقشها بهدوء، فيرد بعضها، ويقبل بعضها الآخر، ولا يناقش إلا ما تمكن مناقشته مثل الغلو، والإفراط في الاستعارة، والتعقيد، والغموض، والزلل في اللغة. ويجعل المعترضين أحد رجلين:إما نحوي أو لغوي لا دراية ولا بصر له بفن الشعر، وإما معنوي مدقق لا علم له باللغة والإعراب.

 يتميز هذا الجزء (أي القسم الثالث) بكونه خير ما في الكتاب وأفضل ما فيه، لأن الناقد يعالج من خلاله ما عيب على المتنبي في شعره، ويتناول مآخذ العلماء عليه بالدراسة والتحليل والتفصيل.

 كما طرق الكتاب قضايا عدة، منها النقد الجملي، وحياد الناقد، ومقومات الشخصية الأدبية من ذكاء وطبع ورواية ودربة، ولغة الأدب، ونظرية التأثرية، ووحدة القصيدة العربية، وفنية الأدب أو فصل الدين عن الشعر، وأثر البيئة والمحيط في النظم، والذوق الأدبي، والسرقات الشعرية، وعمود الشعر وعناصره، ومزج الشعر بالفلسفة، والقياس ورواية الآحاد، وإثراء اللغة وتزويدها بالكلمات الأجنبية أو المعربة، والقديم والحديث، والطبع والصنعة...

 إن الذاتية هي الخروج من عالم الأديب والدخول إلى دنيا الناظر في الأدب وناقده بصفة خاصة، ثم إن الذاتي أو صاحب الأحكام الذاتية لا يفارق أهواءه وميولاته حين يدرس شعر شاعر أو نثر ناثر، ولا يبتعد عن أذواقه الشخصية، بل يستسلم لها، ويذعن لسيطرتها، ويسير وفق ما تمليه عليه، فينافي بذلك مجال النقد الموضوعي الصحيح، ويجانب ميدان البحث العلمي البناء الناجع.

 لما تصفحت كتاب (الوساطة) ألفيت نقدَ خصوم المتنبي له نقدًا قائمًا على أساسين، أحدهما موضوعي جدا، لا ينم عن خبث، ولا عن رغبة في الكيد والإقصاء، بل يشهد لهم بالذوق الصادق والحس المرهف، إذ إنهم كثيرًا ما وفقوا في فهم ما كان في شعره من خروج عن اللياقة والجودة، وآخرهما ذاتي محض، يعكس شدة تعصبهم ضده، ويبرز مدى تحاملهم عليه تحاملا واضحًا وضوحَ الشمس في كبد السماء. ووجدت الجرجاني _رُغْم الآراء التي صدرت في حقه، والتي تنوه بعدله وفصله_ قد حمل توسطه بين طياته أحكامًا موضوعية، تصدى بها للخصوم، وتوسط، وأخرى ذاتية تشدد فيها للشاعر، وانحاز إليه، لأنه "يجب أن نعلم أن الناقد لا يستطيع أن يكون موضوعيا بحتا، وأنه لا يرى في الكلام المنقود إلا نفسه وصورته، ومتعة روحه."([2])

فأيَّ حدٍّ بلغتِ الذاتية عند الخصوم؟

وإلى أي حد قيدت أحكامَ القاضي الجرجاني؟

               

[1]_أبو منصور الثعالبي:يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر. شرح وتحقيق:مفيد محمد قميحة.الطبعة الأولى:1366هـ_1947م، الطبعة الثانية:1403هـ_1983م، دار الكتب العلمية، بيروت_لبنان، الجزء الرابع، صص:4_5.

[2]_طه أحمد إبراهيم:تاريخ النقد الأدبي عند العرب... ص:178.