سرير الدهشة
فائض المعنى
في المجموعة القصصية
للأديب محمد أكويندي
محمد يوب
دردشة عابرة
وأخيرا طاوعني قلمي لأكتب هذه السطور المتواضعة عن "سرير الدهشة"للأديب المتعدد المواهب الصديق محمد أكويندي ،الذي تربطني به علاقة الحي الذي كنا نسكن فيه جميعا، و المدرسة التي جمعتنا ونحن صغارا(ولد السكويلة)،مدرسة علال بن عبد الله التي درس فيها عدد كبير من الأدباء المرموقين وعلى رأسهم صاحب التقديم لهذه المجموعة سعيد يقطين و سعيد منتسب وأحمد سعود....
تجمعني بمحمد أكويندي حالة الانفلات من أسوار المدرسة التي رفضنا الخضوع لقوانينها و الجلوس على طاولاتها،لقد رفضنا البقاء داخل جدرانها العالية وكأنه سجن يحبس الأنفاس وعلى أبوابه مدير ضخم الجثة اسمه الإيمامي رحمة الله عليه.
لقد تخطينا أسوار المدرسة لنتنفس هواء الحرية و الانعتاق من قيود القوانين التي تكبل المبدع،كان مصيرنا في يوم من الأيام أن تلفضنا المدرسة وتطوح بنا إلى الشارع ،فكان الشارع خير مدرسة وأكبر جامعة احتضنت عددا كبيرا من الأدباء العظام من أمثال جون جينيه ومحمد شكري....
تعلمنا من فضاءات الدار البيضاء الشئ الكثير،تعلمنا فلسفة الحياة،أخذنا قوانين الطبيعة من أصولها، وكأننا كنا نريد تفصيل نموذج تربوي خاضع لمقاساتنا،كنا نرفض البرامج التربوية القائمة على القمع وعلى سلطة المعلم وسطوة المدير،كنا نرفض القهر المادي و المعنوي.كنا نرفض مسطبة القسم وعصا المعلم وروتينية الدروس التقليدية العقيمة....
السي محمد اكويندي المبدع العصامي الذي علم نفسه بنفسه لا يكتفي بالدروس التي يمليها المعلم على التلميذ،فبدل أن يقرأ درسا واحدا كان يقرأ كتابا بأكمله، كان فأر المكتبة كما يقول الفرنسيون،له ذاكرة قوية تسجل كل ما تمر عليه عيناه،يتحرك وتتحرك معه خزانة مليئة من الكتب راسخة عميقا في ذهنه.
يمتاز بدقة الملاحظة وسرعة البديهة كان كما الإسفنجة تمتص كل البلل على الطاولة دون انتفاخ أو تضخم الأنا ،يبقى على حاله متواضعا كما هو دائما،يسير بتأني كما هو في الحياة،يأخذ الحياة بعفوية وببساطة لا يتسابق على النجومية لأنه يؤمن بأن النجوم محلها السماء،وأن النجوم تغيب عندما يحل النهار الجهار الذي يفضح التزويق والتنميق المستعار،إنه الفيل الذي يختفي لكي يموت بعيدا عن عيون الناس.
في صلب الموضوع
إن من يقرأ المجموعة القصصية سرير الدهشة يلاحظ بأن القاص محمد اكويندي جعل لفظة سرير مفردة ومضافة إلى كلمة الدهشة المعرفة التي تحتمل المعنيين معنى دهشة الإعجاب و دهشة الرفض و الاستغراب، حيث لا يمكننا القبض على معناها الحقيقي ولا يمكن التخمين فيها لما تحتويه من غموض بل من عمى المعنى المساعد على كثير من التأويلات.
فالسرير كلمة مشتقة من سر يسر سرا وهو ما يخفيه الإنسان وما يكتمه من أسرار لا يريد البوح بها والإفصاح عنها إلا لمن هو أقرب الناس إليه أو تجمعه بينه وبينه ثقة عمياء، وفي السريروعليه تقال كل الأسرار الواضحة و المضمرة في الذاكرة.
فمن جهة هو المكان الذي تجري فيه كل القصص المشكلة للمجموعة القصصية وكأنه سرير بروكست يضبط به السي محمد اكويندي إيقاعات قصصه على المقاس الذي يريد،موجها شخصيات وأحداث قصصه الوجهة التي يريد،حيث السارد يريد وضع مجموعة من الضوابط الخلقية و الثوابت التي تحدد الأصدقاء و الأصفياء الذين يستحقون المصاحبة و العشرة الصادقة.
وقد يقصد به سرير الزوجية وما يعرفه من مغامرات حميمية تتفاوت بين نجاح وفشل المغامرة الحميمية،السرير الذي يعرف أول دهشة وهي دهشة الجسد وما يحدثه من رعشات مدهشة وداهشة، وهو هنا في المجموعة يختلف تمام الاختلاف عن السرير الطبيعي،إنه سرير في متخيل القاص،وفي متخيل القارئ كذلك ،فالقارئ/المتلقي يتحول من متلقي سلبي إلى متلقي مشارك في ملء الفراغات بما يناسب من مغامرات ومشاهدات، كل واحد يملء هذا الفراغ بما توحي إليه لفظة سرير بصيغة التنكير المفتوح على دلالات عديدة و إيحاءات تغني وتثمر المعنى.
وقد يقصد به سرير الطبيب النفساني حيث الشخصيات المؤثثة لفضاء المجموعة القصصية هي عبارة عن حالات مرضية، استطاع القاص استنطاقها ودفعها إلى التعبير عما تشعر به من حالات مرضية وفلتات لسانية،تخرج على شكل نصوص خطابية كاملة تتنوع بتنوع الأدوار و الوظائف التي تقدمها و التي تساعد على سير الأحداث وتأزيمها.
أسرار تحكى على سرير الدهشة، أسرارمختلفة ومتنوعة قد تختزن في الذاكرة وتطفو يوما وتخرج على شكل كتابات إبداعية ،أو تموت وتنتهي بموت سريري تتعطل فيه جميع أعضاء الجسد وتبقى الذاكرة تشتغل وتحكي بشكل تزامني قصصا تستقي أحداثها من الذاكرة، أو قد تنتهي بموت طبيعي ينقل على إثرها الإنسان إلى المقبرة على سرير الموتى الذي يمثل رمزا سميولوجيا مستعصيا في موروثنا الجمعي و الجماعي وما يحمله من دلالات إيحائية،ويكون السارد هو المعبر بالإنابة عن كل من ركب هذا السرير،فيحكي أسراره بضمير الغائب/الميت.
الكتابة المخاتلة
إن من يقرأ المجموعة القصصية "سرير الدهشة" يلاحظ بأنها مجموعة مخاتلة تعكس مخاتلة صاحبها، وبالتالي فإنها تحتاج إلى قارئ مخاتل يخضع المجموعة القصصية لعملية التأثير و التأثر، لأنها تسير من النص إلى القارئ ثم من القارئ إلى النص،وبينهما تختفي الدلالات المضمرة في ذهن القاص و التي تحتاج إلى مفتاح تفكيكي يفك شفرة الكلمات العميقة و الدلالية التي شكلت متحدة تراكيب وتعابير المجموعة القصصية.
فالمجموعة القصصية"سرير الدهشة" حمالة أوجه، طاقة غنية ومتجددة، قابلة لمزيد من القراءات وفي مضامينها مزيدا من الإيحاءات، التي يضمرها القاص محمد اكويندي و التي مررها عبر اللغة القصصية الدسمة و المكتنزة بعمقها الفكري و النفسي و الدلالي. لأن النص القصصي في المجموعة غني " ينشط قدراتنا،ويمكننا من إعادة خلق العالم الذي يخلقه"عمليات القراءة- إيزر
ولكي تتم عملية القراءة بشكل متكامل يجب على القارئ أولا ملامسة النص من الداخل لمعرفة الخارج، لمعرفة انفعال القاص محمد اكويندي وليس معرفة أفعاله،معرفة وظيفة القصة وليس الفعل القصصي،حيث الوظائف في المجموعة القصصية تبدو مترابطة فيما بينها،و الشخصيات تبدو مترابطة ومتلاحمة تؤدي وظائفها بشكل منطقي ،كما أن الزمن ليس هو الزمن الطبيعي و المكان ليس هو المكان الفيزيقي، بل هو الفضاء القصصي الذي تتداخل فيه نفسية القاص بنفسية المتلقين.
ومن هنا تبرز عملية التشويق و الرغبة في معرفة ما وراء القص وما تخفيه المجموعة القصصية من أسرار مدهشة.
وعملية التشويق هذه في المجموعة القصصية تأتي مبنية على عملية الوصف الدقيق لتفاصيل المكان والبعد الزمني الذي خلقته الكلمات،فالقاص أوقف سريان الزمن و المكان لكي يترك المجال واسعا لسريان الأحداث (أحيانا أصل إلى إقناع نفسي بأن البلاهة تسمى"زاوية قائمة"وإن أصر الرياضيون الأوائل بأنها "قناع"،وأحيانا أخرى أنساق مع الفلكيين الذين ينعتونها ببرج السنبلة حيث الشهوة على أتمها في الغسق الذي يستطيع فيه الذكر أن يأكل الأنثى..) سرير الدهشة ص 12 .
وما زاد من حركية الوصف هو اعتماد المجموعة القصصية على تنويع الأفعال بين الماضية و المضارعة مما يساهم في خلق نتوءات لغوية ترج ذهن المتلقي وتحرك فيه فضول تتبع مجريات الأحداث إلى نهايتها،وخاصة في استهلال القصص التي تبدأ في مجموعها بأفعال ماضية ثم تستدرج المتلقي للمشاركة في حركية أفعال المضارعة (حلت مثل غسق صيفي بطئ)(انحسرت الصباغة عند منتصف الباب)(أفلت من قبضة يده)
وما ساعد في حركية النصوص وديناميتها اعتماد القاص ضمير المتكلم الذي يعكس قوة شخصية السارد و جرأته على خوض عوالم قصصية غاية في التعقيد،عوالم متشابكة يتقاطع فيها النفسي بالاجتماعي بالثقافي .....
سميائية السرد القصصي
والنصوص القصصية كما نلاحظ على مستوى بنية اللغة تبدو منذ وكأنها نصوص مغلقة وبسيطة،وعندما نغوص فيها على المستوى العميق نجدها نصوصا مائلة تصب فائض المعنى إلى تأويلات متنوعة تتناص مع نصوص معرفية أخرى،لأن فيها زخم هائل من الدلالات تبين عمق وفكر صاحبها واطلاعه على مجالات معرفية مختلفة ومتعددة ففي قصة الأعمى نجد القاص قد توقف على جميع أشكال و حالات هذه الشخصية عبر التاريخ وفي الموروث الديني (فك تكة سرواله،ثم ردد:"لا حرج على الأعمى") وذكر لمجالس العميان وسهراتهم و أبرز العميان الذين عرفهم التاريخ وسجل نباهتهم وذكاءهم (وعجبي الذي تنفلق له الصخور،كلهم أدباء عميان:بشار بن برد،أبو العلاء المعري ،طه حسين،بول غرساك،جسيه مارمول،هوميروس....) سرير الدهشة ص56
فالنصوص القصصية كما نرى مكثفة لا تحيل إلى نفسها وإنما تحيل إلى دلالات أخرى تتجاور بل تتجاوز المعنى البسيط إلى معاني أكثر عمقا،تتقاطع مع مجالات معرفية أخرى أكثر دلالة وأكثر موسوعية،نصوص يصعب قراءتها بطريقة تفسيرية شارحة لسطح القصة بل تحتاج إلى الغوص عميقا في دلالاتها،ولا تكتفي بالحاضر فيها بل البحث في الغائب فيها،و الغائب يبقى مضمرا خفيا في ذهن القاص مهما تعددت القراءات،وتبقى نصوص سرير الدهشة مفتوحة على مزيد من القراءات.
كما أن القاص كان دقيقا في اختيار ألفاظ قصصه،ألفاظ لها إحالات ودلالات عالمة وتشاكلات دلالية تبين أنه لايتعامل مع قارئ عاد، وإنما يتعامل مع قارئ يبحث في عمق اللفظة، و لا يكتفي بسطحيتها ،قارئ يحفر عميقا لمعرفة رؤية القاص إلى العالم على اعتبار أن اللغة جماعية يتشارك فيها فئات متعددة من فئات المجتمع.
وبما أن اللغة لها ارتباط بالمنظومة الاجتماعية فينبغي أن ننظر إليها في ما تؤديه من وظائف نسقية ودلالية داخل السياق القصصي:
الإرادة – القدرة – الفعل
حيث اللغة القصصية في سرير الدهشة استطاعت تأدية المعنى بأقل الكلمات، بحيث لا يمكننا إزالة لفظة وتعويضها بلفظة أخرى، فكانت اللغة لها غاية وظيفية على مستوى الشكل وعلى مستوى المضمون،بالرغم من وجود العائق على الفعل وهو العمى في قصة الأعمى، فالأعمى مثلا استطاع إقناع المتلقي بحقه في التبول في قارعة الطريق معللا عذره بالنص القرآني"لا حرج على الأعمى" فالقارئ هنا لا ينظر إلى الشخصية وإنما ينظر إلى الوظيفة التي قدمتها الشخصية.
كما أن القاص استطاع إيجاد تخريجات مختلفة لنهايات قصصه،وهي نهايات منطقية تساعد على إقناع المتلقي على تقبل القصة و التمتع بفنيتها وجماليتها،مثلما فعل في قصة جوقة التماثيل حيث استطاع أنسنة البطل الرئيسي وهو "تودة" وجعله(ينجو بنفسه إلى نحث ملامحه على وجوه الجوقة....متعجبا صاح النحات:أيكما ثودا؟) سرير الدهشة ص 36
توزيع الأدوار
عندما نقرأ المجموعة القصصية جيدا نلاحظ بأن القاص استطاع توزيع أدوار شخصياته وشخوصه بشكل دقيق،كل واحد يقدم الدور المنوط به وفق ما تشير إليه زاوية الرؤية عند القاص،وهي الرؤية من الخلف حيث القاص يعرف تفاصيل الشخصيات الخارجية و الباطنية،يتتبع تفاصيلها ويوجهها الوجهة التي يريد وفق قناعاته ورغباته،وفي كثير من الأحيان يتدخل لتبرير موقف هذه الشخصيات لكي يقنع القارئ بالدور الذي تؤديه هذه الشخصيات،ويتعدى توزيع الأدوار من جانب المضمون إلى جانب شكل الصفحة وفضاءها، حيث إن القاص استطاع في كثير من القصص توزيع سواد الكتابة على بياض الصفحة بطريقة سميائية (ص 57/ 58) وبين السواد و البياض يوجد القاص ويوجد المتلقي،وتوجد المضمرات و المشتركات الثقافية التي تجمع بينهما.
التشاكلات السيميائية
التشاكلات السميائية هو الانسجام الذي تؤديه الصور و المقاطع القصصية التي تتوحد فيما بينها لتأدية المعنى العام في القصة،حيث نلاحظ بأن السيمات(شكل اللفظة)يساعد القارئ على تمثل المعنى وخلق الدلالات (الكلاسيمات) بشكل منسجم ومتواز.
هكذا تصبح معاني القصص المشكلة للمجموعة القصصية موحدة على مستوى الألفاظ و على مستوى الدلالات ، بالرغم من الغموض و العمى الدلالي(الكاوسcaos ) الذي يحيط بلغة الكتابة القصصية عند محمد اكويندي،لأنه عندما يشتد العمى تتفتح عين ثالثة هي العين الذائقة/المتذوقة التي تستوعب المعاني الخفية و المضمرة في المجموعة القصصية.