الملحمة الشعرية
تاريخ الأدب (2)
الملحمة الشعرية
د.أحمد محمد كنعان
تعد الملاحم الشعرية من أقدم الأعمال الشعرية المتكاملة التي سجلها تاريخ الأدب ، ويعود تاريخ أقدم ما وصلنا منها إلى العام 750ق.م من بلاد الإغريق التي كانت تعيش حقبتها الزاهية في ذلك العصر البعيد .
والملحمة الشعرية هي قصيدة قصصية طويلة ، يدور موضوعها عادة حول الأعمال البطولية الخارقة للعادة من قبل أشخاص غير عاديين ، ويلاحظ في الملاحم الشعرية الأسطورية القديمة عند الشعوب الوثنية ـ كما هي الحال عند الإغريق والرومان ـ أن الشاعر يصوِّر البطل بصورة نصف إله ، كأن يكون أحد أبويه إلهاً والآخر بشراً ، ويروي كثير منه الملاحم الشعرية تاريخ شعب من الشعوب أو أمة من الأمم .
ومع أن معظم الملاحم الشعرية تنسب إلى شاعر واحد فإن بعضها ينسب لأكثر من شاعر ، وكانت الملاحم تغنَّى من قبل الشعراء بمصاحبة العزف على آلة وترية ، وقد اقتبس الشعراء في عصرنا الراهن هذا الأسلوب الفني في العرض فبدؤوا ينشدون قصائدهم بمصاحبة آلات موسيقية وترية ، مما يشير إلى أسبقية الإبداع الإغريقي في هذا المجال !
وقد بدأ الشعر الملحمي في الأدب الغربي بأعمال الشاعر الإغريقي الكبير "هوميروس" صاحب "الإلياذة" و "الأوديسة" ، ويعتقد الباحثون أن هذين العملين كتبا في القرن السابع قبل الميلاد ، وتنتمي هاتان الملحمتان إلى نمط من الأشعار التي بُني جزء منها على الحوادث التاريخية ، وبني جزء كبير منها على الأسطورة المتصلة بحروب طروادة الشهيرة ، ويصنِّف مؤرخو الأدب العالمي "هوميروس" بين أعظم الشعراء في التاريخ ، بل يصفه بعضهم بأنه "البداية والنهاية" لما امتازت به ملحمتاه من روعة التكوين ، وفخامة الألفاظ ، وسمو الأسلوب ، وقد ترجمتا إلى جميع اللغات الحية ، وكان لهما وما يزال تأثير عميق في الأدب العالمي باعتبارهما المثل الأعلى في الأدب الذي سمي فيما بعد "أدب الملاحم" .
وقد وضع نقاد الأدب الرومانيون واليونانيون قواعد للملاحم الشعرية مبْنية على أسلوب "هوميروس" وأسلوب "فيرجيل" وهو أبرز من تابعوه في كتابة الملاحم ، وقد نصت هذه القواعد على وجوب بدء الملحمة في منتصف الأحداث ، أي أن تبدأ القصة بعد أن يكون جزء كبير من أحداثها قد وقع فعلاً ، وذلك من باب التشويق الذي يجعل القارئ أو المستمع شغوفاً بمعرفة ما فات من الحكاية !
وكان على شعراء الملاحم أيضاً أن يكتبوا بأسلوب رفيع ، ويبدؤوا بالابتهال إلى الآلهة (الميوزات) طالبين منها الإلهام .
وقد أهمل الشعراء خلال العصور الوسطى قواعد الملاحم الشعرية اليونانية والرومانية ، وراحوا يكتبون الملاحم الشعرية بأسلوب أكثر واقعية ، ومن الملاحم المهمة في العصور الوسطى الملحمة الإنجليزية المعروفة باسم "بيوولف" التي ظهرت في القرن الثامن الميلادي ، والملحمة الفرنسية "أغنية رولان" التي انتشرت في القرن الثاني عشر الميلادي ، والملحمة الإسبانية "قصيدة السيد" التي ظهرت حوالي عام 1140 ، وبحلول القرن السابع عشر الميلادي أعيد اكتشاف الملاحم الشعرية الرومانية من جديد ، وحاول الشاعر الإنجليزي "جون ميلتون" في ملحمته الشعرية "الفردوس المفقود" التي نشرها عام 1667 تقليد هوميروس وفيرجيل في ملاحمهما العظيمة ، ومع بداية القرن الثامن عشر أدى رواج الأدب النثري الواقعي ـ ولاسيما الروايات ـ إلى تراجع شعر الملاحم .
أما في الأدب العربي فلعل من أشهر الملاحم الشعرية التي عرفها تاريخنا تلك الملاحم التي اشتهرت باسم "المعلقات" وهي التي كتبت في العصر الجاهلي قبل الإسلام ، ومن أشهرها معلقات : امرئ القيس ( 497 ـ 545 ) وطرفة بن العبد ( 538 ـ 564 ) وزهير بن أبي سلمى ( ت 609 ) وعنترة بن شداد ( ت 600 ) وعمرو بن كلثوم ( ت 584 ) والحارث بن حلزة اليشكري ( ت 570 ) ولبيد بن ربيعة العامري ( 560 ـ 662 ) والنابغة الذبياني ( 535 ـ 604 ) والأعشى ( ت 629 ) وكان الشاعر في هذه المعلقات يروي غالباً حكاية قومه ، ومكارم أخلاقهم ، وما حققوه من مجد وبطولات ، أو يحكي الشاعر بطولاته هو ، وشجاعته ، وبلاءه في الحروب .. وتلك قصة أخرى سوف نرويها في حينها من هذه السلسلة إن شاء الله تعالى .