القراءة الفاعلة وأثرها في نهضة الأمة
القراءة الفاعلة وأثرها في نهضة الأمة
د.
رمضان
عمر
رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين
خاص المركز العربي للدراسات والأبحاث
في عصر الكلمة الالكترونية، و(اليوتيوب) المرئي، والمساحات الحرة المفتوحة يتشكل عالم قرائي متناقض مختلط غريب؛ يستدعي وقفة توجيهية واعية، ومواكبة ثقافية أمينة، تمنع الزلل والشطط والانجراف،وتعيد تشكيل منطق التلقي الثقافي وفق منهجية فاعلة تبدأ بأسس قويمة، تنسجم مع مطالب الشرع ومصالح الآمة،ولعل القراءة الفاعلة تعد واحدة من تلك الأسس المرجوة لبناء أمة ناضجة.
وليس هذا كل ما أعنيه،ولا كل ما أتخوف منه، بل لعل ما أريده مختلف عما قد يتبادر الى الذهن من خلال عنوان النص، وان ارتبط في شيء من تشكلاته بما ذهبت إليه في مطلع مقالي، فالقراءة الفاعلة لها أسس، لا تتكئ على ما هب ودب، ولا تسمح بان نضع الحبل على الغارب، دون تقنية وروية، لا بد من منهجية واضحة في التفاعل، وأسس متينة في التلقي؛ لنضمن حصانة المنتج وسلامته، ولنضمن أن يصب ذلك كله في النبع الرقراق الذي تسقى من جدوله الأجيال.
والقراءة الفاعلة وان ارتبطت بطبيعتها بسؤال تربوي كيف نقرا وكيف نتعلم. أي سؤال حول اساليب القراءة؛ إلا ان ما أريده هنا منطق فكري؛ كيف نبني مجتمعا حصينابقراءة فاعلة تصنع جيلا من العقلاء الواعين؟؟.
ولعل ما طرحته من إشكاليات التلقي (اللامنضبط) عبر آليات التلقي الكترونية، والصحافة الرائجة، والفضائيات غير الموثوقة يجعل أبجديات القراءة مستهدفة ونتائج التلقي غير مضمونة، فيغيب المصدر الأساس " الكتاب" وهو اقرب إلى الموثوقية حين يوجه القارئ إليه توجيها،ويحل مكانه ما لا تضمن موثوقيته، ويصبح المنظرون ابعد ما يكون عن إن نعرف لهم سندا ولكلامهم مددا، وتباح ساحة القول ليحتطب من يحتطب؛ فيكثر الغث، وتقل الفائدة ؛ ومن هنا كانت هذه الصرخة العاجلة لجدولة التلقي القرائي عبر ماهية تحدد مهمة القراءة وغاياتها وضرورياتها وأبجدياتها، وكيف نضمن أن تقع هذه القراءة لتصب في جدول النهضة وتوضع في أسس البناء الذي تحتاجه الأمة، فالقراءة مفتاح التطور وأساس التلقي، ونعني بالقراءة- هنا- آليات التلقي المرئي والمسموع والمقروء؛ بيد أننا سنقصر حديثنا على المقروء لتعرضه لآفات النكران والنسيان، وإغفال كثير من العاملين له، تخت رائع واهية.
والحديث عن القراءة الفاعلة يقودنا لحديث عن دور العلم وفضله ودور العلماء ومنازلهم، وكيف أنهم حصن الأمة الحصين، ودرعها الواقي المتين، فما زالت الأمة بخير ما دامت تبجل علماءها، وتقدمهم على سواهم؛كيف لا وقد رفع رب العزة منزلتهم؛ فكانت فوق كل منزلة" " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ سورة(_ المجادلة آية 11 )فلم يسوهم بغيرهم حين قال: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكّر أولو الألباب)[الزمر9]،وجعلهم فوق غيرهم في التقوى حين خصهم بالخشية المرجوة" إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ[فاطر:28] "والخير كل الخير في الفقه والتعلم " "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده" ' متفق عليه من حديث معاوية دون قوله "ويلهمه رشده "وهذه الزيادة عند الطبراني في الكبير. ' "
والحض على العلم والتعلم الشرعي مما يجعله واجبا كثير في كتاب الله وسنة نبيه؛قال الله تعالى: (شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَائِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ) [آل عمران: 18].
قال ابن كثير في تفسيره: "قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال: (شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ) وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام".
قال الطبري: "يرفع الله الذين أوتوا العلم من أهل الإيمان على المؤمنين الذين لم يؤتوا العلم بفضل علمهم درجات إذا عملوا بما أمروا به".
كما جاءت الأحاديث النبوية أيضا حاثة على التفقه، وتحصيل العلم الشرعي. قَالَ عُمَرُ: «تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا» قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أي البخاري رحمه الله : «وَبَعْدَ أَنْ تُسَوَّدُوا وَقَدْ تَعَلَّمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِبَرِ سِنِّهِمْ»[1]
وكذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال :" ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلي الجنة "
وعن ابْنَ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ» قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «العِلْمَ» البخاري ( 1/ 27 ) باب فضل العلم
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال :
إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ المَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ العِلْمِ، وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الحِيتَانُ فِي المَاءِ، وَفَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ، كَفَضْلِ القَمَرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، إِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ"[2]
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا مات الإنسان انقطع ع نه عمله إلا من ثلاثة : إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له "[3]
وقد أسست هذا الأمة على توجيه رباني وفق منهج قرائي مرتبط بغاية الهية، " اقرأ باسم ربك الذي خلق"
هذه المصافحة البيانية في آلية التلقي الاولى عبر الفعل "اقرأ " تفتح باب التكليف الشرعي لمشروع القراءة ثم تربطه بغاية كريمة هي "التعلم "وإذا كان القلم قد شكل الأداة الأولية للتعلم؛ فإن المعرفة البناءة عي المنشودة من هذا التعليم – ومن هنا – فقد كان القلم المقصود مشروطا بمعرفة طريق الجنة،
وإذا كان العلم مقرونا بغايته، فإن القراءة المطلوبة هي قراءة منضبطة. أضرب مثلا: ميلك إلى التسلية بقراءة الشعر والروايات شيء طبيعي، لكن هذه القراءة بهذه الكيفية والوصف لا تعد غاية بحد ذاتها، بل الإكثار منها مفسدة أي مفسدة، وإنما تكون القراءة فاعلة إن ارتبطت بغاية أسمى، كأن توظف من خلالها تلك الأشعار أو العبر المستقاة من القصص في بناء جيل عقدي حضاري مثمر .
وحينما نعود إلى النص القرآني البديع، الذي شكل بداية التعرف على منهج الله في التغيير " سورة العلق" نجد أن السورة اعتمدت البنية الفعلية لتدل على أن القراءة المطلوبة هي قراءة الفعل أي الفاعلة فما يجعلها قراءة ذات توجه مشروعي، ثم إن ربطها بالقلم يجعلها قراءة ذات صبغة عملية، ثم إن ربطها بنتائجها بنسبة محدثة جديدة " علم الإنسان ما لم يعلم " يجعل هذه القراءة أساسا للكسب المعرفي، وتطور النوع البشري فالمعرفى العابرة إلى قاموسه آتية من ممارسة الفعل "إقرأ"
الشباب والقراءة
عجيب أمر جيل الشباب المسلم اليوم،إذ عزف كثير منهم عن الكتاب ولم يأخذ بقاعدة السلف " تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا " متناسيا أو ناسيا أسس الدعوة التي تحتاج إلى رصيد كاف "وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة : 122] (
ثم إن سألته لم لا تقرأ ؟ قال لك - كأن في ذلك عذرا – :لا قدرة لي ولا أصبر على القراءة، وسرعان ما بنتابني ملل كلما نظرت إلى كتاب .وذلك دليل واضح على انكماش مساحة الوعي في ذاكرة هذا الداعية، وهل أصل الدعوة إلا أن نحصن بالعلم ؟ونزكى بإطالة النظر في مساحات المعرفة ...
لذا لا بد من توجيه الطاقة الشبابية الى هذا الكنز الدفين، وربط القراءة بمشاريع دعوية عملية، والا اصبحنا غثاء كغثاء السيل.فبالقراءة والتفقه فقط يتكون جيل واع قادر على فهم متطلبات المرحلة وبناء استراتيجيات المستقبل، ومجابهة القضايا الشائكة دون زلل او تعثر، فهو جيل يعرف فقه الأولويات ويدرك اهمية التفكير الاستراتيجي،والبحث العلمي، دون ان ينسلخ عن اصول دينه ومنهاج رسوله.
القراءة الفاعلة ومنظومة القيم التعليمية:
الناظر لمناهجنا التعليمية- في المدارس والجامعات-يجدها تعاني من الحصانة المرجوة لبناء مجتمع له رسالة؛ ففي كثير منها تنحو نحوا غربيا في الانبهار والتقليد، وتؤثر كل عابر على الاصول والثوابت، ولا تربط بوظيفة رسالية، بل بوظيفة استهلاكية قائمة على شهادة مبتغاة لوظيفة مرتقبة، ينشا معها طالب العلم مشدودا الى الكرسي الذي يدر عليه ربحا ماديا، لا علاقة له بالنص القراني الحاث على التعلم.
ومن هنا فان الحوافز العقدية المستقاة من هذه المناهج ليست عالية الجودة ولا تحمل معنى القداسة أو الوجوب.
وإذا كان الحال كذلك فان تفعيل دور القراءة من خلال عمل حركي منظم يعد واجبا استراتجيا في فن الدعوة، ولا اجد عذرا لداعية لا يتحصن بعلم وافر ولا لجماعة لا تؤثر العلم على غيره في مرحلة التكوين فالفهم أولا لان الفهم يحمي من الزلل والغي . ولتفعيل هذا الدور على جمهور العاملين في الاصلاح والتغيير وبناء الدولة من الدعاة الصادقين ان يقوموا بما يلي:
· الاهتمام بمراكز البحث العلمي ووضع ميزانيات كافية لها وتسخير طاقات الكتاب المخلين على تغذيتها بالمفيد النافع
· فتح دورات متعددة لصناعة الكوادر الفكرية وتعريف العاملين في حقل الدعوة بالكتب النافعة ومنهج السلف في التلقي.
· عدم الابقاء على الدروس الوعظية الارتجالية وتعزيز منطق الدرس العلمي القائم على التفاعل بين المستمع والملقي من خلال منهج واضح.
· عمل مؤتمرات وندوات تحي نضارة القراءة وتبين اهميتها وتحث الشباب على قرع باحاتها.
· عمل مسابقات مجزية تتكئ على موضوع القراءة لتفعيلها.
· ربط القراءاة بنشاطات بعينها، وجعلها مشروعا لا هواية.
· التواصل مع الجهات المسؤولة والحوار معهم حول دور القراءة الفاعلة وربطها بهوية الامة الدينة والوطنية، والتصدي لمحاولات تجفيف منابع التلقي السليم التي تقوم بها جهات مغرضة لتدمير طاقة الامة.
· تشكيل جمعيات ومؤسسات تعنى بهذا الجانب، وتقوم على تفعيله وفق خطط ممنهجة ومدروسة.
[1] محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي ، الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه صحيح البخاري ( 1 / 25 ) باب الإغتباط في العلم والحكمة ، تحقيق ،محمد زهير بن ناصر الناصر،دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة: ألأولى 1422هـ.
[2] - محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279هـ)
سنن الترمذي ( 5 / 48) . سنن الترمذي ، تحقيق: أحمد محمد شاكر (جـ 1، 2)،ومحمد فؤاد عبد الباقي (جـ 3) الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر ،الطبعة: الثانية، 1395 هـ - 1975 م
[3] -ر ))[ أخرجه مسلم]. ( 3/ 1255) .