عُكَاشِيَّاتٌ 1
عُكَاشِيَّاتٌ 1
تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ "مُذَكِّرَاتِي فِي السِّيَاسَةِ وَالثَّقَافَةِ"
لِلدُّكْتُورِ ثَرْوَتْ عُكَاشَهْ
د. محمد جمال صقر
نُزُوعُ الْعِرْقِ
قَالَ:
كُنْتُ أَحْمِلُ نَفْسًا تَوَّاقَةً إِلَى الْأَدَبِ وَالْفَنِّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا عَنْ نَاظِرِي أَيْضًا مَا كَانَ عَلَيْهِ جَدِّي وَأَبِي -فَلَقَدْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا رَجُلًا عَسْكَرِيًّا- لِهَذَا نَزَعَتْ نَفْسِي مَنْزِعَيْهِمَا؛ وَإِذَا أَنَا دُونَ عِلْمٍ مِنْ أَبِي أَلْتَحِقُ بِالْكُلِّيَّةِ الْحَرْبِيَّةِ، وَكَأَنَّ الْقَدَرَ الَّذِي قَدَّرَ لِي هَذَا، قَدَّرَهُ لِكَيْ أُشَارِكَ فِي ثَوْرَةٍ وَطَنِيَّةٍ! وَهَا أَنَا ذَا أَخُطُّ مَا أَخُطُّهُ الْآنَ لِكَيْ أُسَجِّلَ ذِكْرَيَاتِ تِلْكَ الْأَحْدَاثِ!
قُلْتُ:
أما أنا فقد سافر عني أبي سنة 1983م، على أن أنضم إلى أختي بكلية السياسة، فخالفته إلى كلية دار العلوم، وكنت مطبوعا مثله على علوم العربية وفنونها وعلوم الإسلام وفنونه، فبرعت منذئذ، فلم يملك ما يزجرني به عما اخترت!
خُلُودُ الْأَفْذَاذِ
قَالَ:
لَمْ يَكُنِ الْبِكْبَاشِي أَحْمَدْ عَبْدِ الْعَزِيزْ قَائِدًا فَذًّا وَبَطَلًا لَا يُبَارَى وَقُدْوَةً جَدِيرَةً بِالِاحْتِذَاءِ فَحَسْبُ، بَلْ كَانَ إِلَى جَانِبِ هَذَا مُعَلِّمًا يَبُثُّ فِي وُجْدَانِ تَلَامِذَتِهِ أَسْمَى الْمَبَادِئِ الَّتِي تَخْلُقُ مِنْهُمْ رِجَالًا عَلَى طَابَعِهِ وَشَاكِلَتِهِ. وَمَا طَافَ بِخَيَالِنَا وَنَحْنُ نُوَسِّدُهُ الثَّرَى، أَنَّا غَيَّبْنَاهُ فِي بَاطِنِ الْأَرْضِ، بَلْ كُنَّا نُحِسُّ أَنَّنَا قَدْ نَصَبْنَا نُصُبًا عَالِيًا يَبْقَى شَامِخًا مَدَى الْحَيَاةِ!
قُلْتُ:
رضي الله عن أحمد عبد العزيز وثروت عكاشة الفارسين النبيلين الفذين، وأرضاهما، ولم يحرمنا أجرهما، ولم يفتنا بعدهما، آمين!
رِحْلَةُ الْإِيمَانِ
قَالَ:
كُنْتُ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ يَتَنَاوَبُنِي الشَّكُّ الَّذِي يُسَاوِرُ كُلَّ شَابٍّ يُعْمِلُ فِكْرَهُ فِي مُسْتَهَلِّ حَيَاتِهِ؛ فَلَمْ أَتْرُكْ بَابًا يَقُودُنِي إِلَى الْإِيمَانِ إِلَّا طَرَقْتُهُ، وَلَمْ أَدَعْ عَالِمًا أَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ إِلَّا سَأَلْتُهُ. وَمَا أَظُنُّنِي قَدْ فَاتَنِي الْإِلْمَامُ بِالْعَقَائِدِ جُمْلَةً -سَوَاءٌ أَكَانَتْ سَمَاوِيَّةً أَوْ غَيْرَ سَمَاوِيَّةٍ- مُنْعِمًا الْبَحْثَ، مُسْتَقْصِيًا، مُقَارِنًا بَيْنَ مَا جَاءَ هُنَا وَمَا جَاءَ هُنَاكَ.
قُلْتُ:
نظرت الآن في شأني، فوجدتني كنت -وما زلت- أعرض ما أطلع عليه -مهما كان- على أصول العروبة والإسلام، فأرتاح لما وافقها، وأنبه على ما تمكن الاستفادة منه، وأتجاوز غيره.
صَاوِيُّ السَّاقِيَةِ
قَالَ:
لَمْ أَرَ دَاعِيًا إِلَى إِعَادَةِ النَّظَرِ فِي هَيْئَةِ تَحْرِيرِ الْمَجَلَّةِ (مجلة التحرير)، بَعْدَ خُرُوجِ أَحْمَدْ حَمْرُوشْ، لِأَنَّهَا كَانَتْ تَضُمُّ بَاقَةً مِنَ الْكُتَّابِ الْوَطَنِيِّينَ الشُّرَفَاءِ -وَكَانَ بَعْضُهُمْ خَالِصًا فِي نَزْعَتِهِ الْيَسَارِيَّةِ- تَضُمُّ الْأَسَاتِذَةَ: عَبْدَ الْمُنْعِمِ الصَّاوِيَّ -رَحِمَهُ اللَّهُ!- وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ الشَّرْقَاوِيَّ، وَمُصْطَفَى بَهْجَتْ بَدَوِي، وَكَمَالَ الْحِنَّاوِيَّ، وَسَعْدَ التَّائِهْ، وَصَلَاحْ حَافِظْ، وَسَعْدِ لَبِيبْ، وَالْفَنَّانِينَ: عَبْدَ السَّلَامِ الشَّرِيفْ، وَحَسَنْ فُؤَادْ -رَحِمَهُ اللَّهُ!- وَعَبْدَ الْغَنِيِّ أَبُو الْعَيْنَيْنِ، وَجَمَالْ كَامِلْ وَغَيْرَهُمْ. وَقَدْ كَاشَفْتُهُمْ فِي أَوَّلِ لِقَاءٍ بِأَنَّ الْهَدَفَ مِنَ الْمَجَلَّةِ هُوَ الْتِزَامُ النَّهْجِ الْوَطَنِيِّ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْبَرًا لِلْيَمِينِ أَوْ الْيَسَارِ.
قُلْتُ:
باسم عبد المنعم الصاوي أنشأ ابنه الجمعية الثقافية الشهيرة الآن "ساقية الصاوي"، وقد أحضرت لي تلميذتي الأستاذة منال إبراهيم طلب عضوية فيها مثل عضويتها، فملأته موافقا، ثم لم أتم الأمر!
الثَّقَافَةُ الْغَرْبِيَّةُ
قَالَ:
خَصَّصْتُ أَطْوَلَ وَقْتِي لِلْعَبْقَرِيِّ ميكلا نجلو الَّذِي عِشْتُ طَوِيلًا أُتَابِعُ إِنْجَازَاتِهِ الْمُصَوَّرَةَ وَالْمَنْحُوتَةَ فِي صَفَحَاتِ الْكُتُبِ وَالْمَجَلَّاتِ، حَتَّى أُتِيحَ لِيَ الْآنَ أَنْ أَرَى تِمْثَالَ مُوسَى الشَّهِيرَ بِكَنِيسَةِ الْقِدِّيسِ بُطْرُسَ فِي فينكولي، ثُمَّ تِمْثَالَ الْعَذْرَاءِ الْآسِيَةَ بييتا بِكَنِيسَةِ الْقِدِّيسِ بُطْرُسَ فِي الْفَاتِيكَانِ -وَأَنْتَهِيَ إِلَى مُصَلَّى سيستينا، لِأَشْهَدَ أَخِيرًا بِعَيْنَيْ رَأْسِي تَصَاوِيرَ سَقْفِهَا الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِلْهَامِ الْأُسْطُورِيِّ، فَجَّرَتْ طَاقَاتِ ميكلا نجلو، لِلتَّعْبِيرِ عَنْ رُؤَاهُ الْبَاطِنَةِ لِلْعَلَاقَاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْمَصِيرِ الْبَشَرِيِّ. وَاسْتَعْذَبْتُ الْعَنَاءَ الَّذِي سَبَقَ أَنْ طَالَعْتُ الْكَثِيرَ عَنْ تَكَبُّدِ الْمُشَاهِدِ لَهُ وَهُوَ يُتَابِعُ رُسُومَ السَّقْفِ، لِاضْطِرَارِهِ إِلَى ثَنْي عُنُقِهِ إِلَى الْخَلْفِ طَوِيلًا لِيَسْتَكْمِلَ جَوَانِبَ مَلْحَمَةِ الْخَلْقِ الشَّامِخَةِ؛ ذَلِكَ أَنَّنِي لَمْ أَكَدْ أَتَأَمَّلُ الرُّسُومَ حَتَّى أَحْسَسْتُ بِعَالَمٍ سِحْرِيٍّ يَحْتَضِنُ وُجْدَانِي، بَيْنَا تَنْسَابُ فِي أُذُنِيَّ مِنْ بَعِيدٍ أَصْدَاءُ الْأُورْغُنِّ يَعْزِفُ لَحْنًا قَوِيًّا صَاخِبًا لِشارل ماري فيدور، مَا يَكَادُ يَطْرُقُ أُذُنَايَ -هكذا والصواب أُذُنَيَّ- حَتَّى الْيَوْمِ، إِلَّا وَيَثُورُ فِي أَعْمَاقِي شَرِيطٌ هَادِرٌ تَتَتَابَعُ فِيهُ لَوْحَاتُ سَقْفِ مُصَلَّى سيستينا الْآسِرَةُ. وَغَادَرْتُ رُومَا بَعْدَ أَنْ أَحْسَسْتُ أَنِّي قَدْ أَجْزَلْتُ لِنَفْسِي الْعَطَاءَ بِمَا ارْتَشَفْتُهُ مِنْ رَحِيقٍ فَنِّيٍّ!
قُلْتُ:
جميل! ولكن خطر لي خاطر مؤلم: لقد نجح الغربيون أن يقنعونا بعلومهم وفنونهم أنها أحق من علومنا وفنوننا بالإيمان والتعلم والتعليم والتقليد؛ فصار أذكياؤنا ومبدعونا إلى أن يتمنوا الانخلاع منا والانغراس فيهم، ولو اطلع على الغربيين مطلع لرأى بسمة الاحتقار والسخرية والتشفي والحقد والضغينة! لا أدعو إلى معاندة الحق كما يعاندونه، ولكن إلى الإيمان بعلومنا وفنوننا العربية الإسلامية، وتعلمها وتعليمها...؛ فعندئذ يعرف كل مقامه، ويأخذ حقه، ويعيش حياته.
ثم أمس (27/4/2007م) في بيت أستاذنا محمود محمد شاكر -رحمه الله!- كلمت في هذا الأستاذ عبد الرحمن شاكر الذي حضر من أجلي؛ فقال: لقد مر عكاشة بمراحل؛ فقد كان في أوليته مأخوذا بالثقافة الغربية، مخدوعا بلويس عوض، ثم اتصل بعمي (أستاذنا محمود محمد شاكر)، فأهداه كتبه، فتغيرت آراؤه. قلت: فأين أجد علامة التغير؟ قال: لا أعرف. ثم قال: أي حرص على ثقافتنا في أن نهملها ونحشو عقول الناس بهذه الثقافة الغربية! للثقافة والتثقيف أصول ينبغي أن تتبع.