المكان الروائي ودلالته

شرحبيل المحاسنة

[email protected]

يعد المكان من العناصر المهمة في بناء الشخصيّة الروائية فلا يمكن أن توجد شخصيّة بدون مكان. فالمكان فضاؤها وحيّزُها الذي تتحرك فيه، فهوَ لا يقلُّ أهمية عن دور الزمان في بناء الشخصيّة، فكلاهما يشكلان دوراً ذا أهمية كبيرة في بناء الشخصيّة وهما متصلان ومتلازمان "فلا يمكن تناول المكان بمعزل عن تضمين الزمان كما يستحيل تناول الزمان، في دراسة تنصب على عمل سرديّ، دون أن لا ينشأُ عن ذلك مفهوم المكان، في أيّ مظهر من مظاهره"([1]). ومن الجدير بالذكر أن تجربة الإنسان التي يعيشها ضمن ظروف معينةٍ وعامل الحس الإنسانيّ في نفس الإنسان قد يدفع إلى الميل نحو الزمان أو المكان. تقول نبيلة إبراهيم: "إنّ تجربة الإنسان مع الزمان أو المكان تعتمد إلى حد كبير على ميل الحس الإنساني نحو الزمان أو المكان"([2]). وقد يرتبط الزمان مع المكان في العمل الروائيّ وهذا ما يطلق عليه "الزمكان الروائيّ" الذي يعني -على حد تعبير "باختين": "العلاقة المتبادلة الجوهرية بين الزمان والمكان المستوعبة في الأدب استيعاباً فنيّاً"([3]).

إنّ المكان بالنسبة للشخصيّة الرئيسة يعد الوعاء الذي تتحرك فيه، فالشخصيّة لا يمكن أن تعيش خارج إطار المكان ففي المكان ولدت، وعليه ترعرعت ونشأت، وفيه تموت. فهو الحيز الذي تحويه طيلة حياته وهو ليس جامداً غير قابل للتفاعل بل هو متفاعلٌ معها يستجيب لها ويتأثر بها: "فالمكان في حركة أخذ وعطاءٍ مع الشخصيات الروائيّة وأحداثها يتوجه بوجهتها، ويرتبط بحركتها، ويقدم بما يدفع أحداثها إلى الأمام دائماً"([4]). فلا مناص من القول: إنّ الشخصيّة والمكان دائماً في حركة تبادليّة يؤثر كلٌّ منهما بالآخر، ولا يمكن أن يتوقف التأثر ببعضهم بعضاً: "فبقدر ما يصوغ المكان الشخصيات والأحداث الروائيّة، يكون هو أيضاً من صياغتها، وإنّ البشر الفاعلين، صانعي الأحداث هم الذين أقاموه وحددوا سماته، وهم قادرون على تفسيره، ولكنّهم بالطبع بعد أن يقوموا -أيُّ البشر- بذلك فهم يتأثرون بالمكان الذي أوجدوه"([5]). واللافت للنظر أنّ هذا التأثر يجعل المكان يعكس الحقيقة النفسيّة للشخصية؛ فالمكان ينعكس على نفسيّة الشخصيّة فينتقل من التأثيرات الخارجيّة إلى الباطن النفسيّ لها، لذا يمكن القول: "إن سطوة المكان تتعدى في الواقع ما يبدو على السطح من تأثيرات وفاعلياتها المباشرة إلى أعماق التكوين النفسيّ للشخصيات"([6]). وهذه التأثيرات التي تتجاوز الظاهر لتصل إلى أعماق النفس ليست مقتصرة على شخصيّة واحدة فقط، بل تشمل جماعات في بيئات مختلفة. وهذه التأثيرات التي يحدثها المكان فيها تجعل بعض الجماعات تتسم بطابع نفسيّ خاص مختلف عن طابع جماعات تسكن في موطن آخر كلٌّ حسب رغبتها ووجودها فنحن نجد "تكوين الإنسان ذهنياً ونفسياً يتحدَّد بالمناخ والطبيعة التضاريسيّة للمكان، فابن المناطق الباردة يختلف عن ابن المناطق الحارة، وابن الجبل غير ابن السهل، فنجد وفق هذا أنّ أغلب الجبليين في حياتهم العادية أكثر انطواءً وصمتاً من سكان السهول وهذا مفهوم. ففي الجبال يضطّر الناس عادة إلى العيش في مجموعات مغلقة صغيرة، وإمكان الاختلاط بينهم أقل"([7]). فيبدو أنّ لكل مكان له خصوصيّة في التأثير على الشخصيات الروائيّة، ونوعيّة التأثير لا بدّ أن تختلف من مكان لآخر بحسب طبيعة المكان الذي تعيش فيه الشخصيات، فالأماكن الضيقة تنعكس على الأشخاص الذين يقطنون فيها بالضيق والسأم فالسجن مثلاً يُعَدُُّ من الأماكن الضيقة ذات الأبعاد المحددة التي لا تستطيع الشخصيّة أن تتحرك فيه كما كانت خارج السجن. إنّ الشخصيّة في السِّجن معدومة الحرية بسبب السجن الذي يعد من الأمكنة التي "تحاصر الشخصية حصاراً مادياً يقاس فيه على مستوى الجسد كفاعليّة حيوية وتصعيد لمفهوم العفوية"([8]). أما الأماكن المفتوحة ذات الفضاء الواسع فتنعكس أيضاً على نفسية أصحابها الذين يقطنون بها، فالناسُ الذين يقطنون في الضواحي الشعبية يتسمون بصفات مختلفة عن الناس الذين يقطنون في الأماكن الراقيّة، وكذلك فإنّ الذين يقطنون في القرى يختلفون في طبائعهم وأمزجتهم عن الذين يقطنون في المدن، فكلُّ منهم له من الخصائص النفسيّة والذهنيّة والذوقيّة ما يجعله يختلف عن الآخر. والفضاء المكانيّ يلعب دوراً كبيراً في تحديد الشخصيّة الروائيّة "فالشخصيّة الروائيّة تتحدد من خلال الفضاء، ويتحدد الفضاء من خلال رؤيتها وبهذا يتحقق التفاعل بين الذات والموضوع"([9]). فالفضاء المكانيّ بما يحويه من أبنية وتضاريس وهيكلةٍ ينعكس على سلوك الشخصيات الروائيّة؛ فالشخصيّة الروائيّة شديدة التأثر بكلِّ ما يدور حولها وبكلِّ ما تراه، فالبيت الذي تسكنه الشخصيات مثلاً يشهد حركة وعلاقات اجتماعية وحتى شكله وما يحويه من منافذ ومداخل قد يدلُّ على الشخصيّة التي تقطنه فالروائيّ عندما يصف البيت فكأنّه في الوقت نفسه يصف الشخصيّة "فبيت الإنسان امتدادٌ لنفسه، فإذا وصفتَ البيت فقد وصفت الإنسان"([10]).

إنّ تتابع حركة الشخصيات الروائيّة داخل الرّواية قد يوحي بصورة غير مباشرة بالمكان الذي تعيش فيه؛ لذلك فنحن عندما "نتابع حركة الشخصيات ينشأ لدينا شعورٌ بصورة غير مباشرة بوجود المكان"([11]). وشعورنا لا يمكن أنّ يتأتى إلا من خلال براعة الروائيّ وقدرته على متابعة حركة الشخوص وتتابعها في ثنايا السرد، وكلما كان الروائيّ مدركاً للعناصر الداخليّة والخارجيّة للشخصيّة ونجح في توظيف هذه الشخصيّة مع الأحداث في الواقع الروائيّ لمسنا إحساساً خاصاً بوجود أماكن تلك الشخصيّات، أي لمسنا إحساساً بصورة الأماكن الفنيّة التي لا يستطيع الروائي تحقيقها من خلال الوصف المباشر بل من خلال حركة الشخصيات في أماكنها: "فنحن لا نقرأ أيّ وصف للمكان ولا للشخصيات ولكنّنا نتعرفها معاً. من خلال تفاعلهما ووجودهما وحركتهما معاً، وبالأحرى نتعرف ملامح المكان وجغرافيته من حركة الشخصيات فيه من خلال أسلوب خطِّ السير، وليس أسلوب المشهد، ومن خلال منظور المشارك وليس منظور المراقب: "فالمكان ليس موصوفاً، أو حتى مقدماً، من خلال وجهة نظر الكاتب وإنما تختلف صورة المكان من خلال الحركة فيه والحياة به ومن خلال التعامل معه بوصفه بديهية كحقيقة من حقائق الحياة، إن لم يكن هو حقيقة الحياة الأساسيّة"([12]). وهذا ما يجعلُ مهمة الروائيّ أكثر صعوبةٍ وبحاجة إلى براعة أكبر حتى يستطيع أن يخلق الروح المكانيّة التي لا يمكن خلقها بدون شخصيات، فالمكان ملتصق بالشخصيّة والإنسان؛ لذلك "فاختيار المكان وتهيئته يمثلان جزءاً من بناء الشخصيّة البشريّة، قل لي: أين تحيا أقل لك: من أنت فالذات البشريّة لا تكتمل داخل حدود ذاتها، ولكنّها تسقط خارج هذه الحدود لتصبغ كلّ ما حولها بصبغتها وتسقط على المكان قيمتها الحضاريّة"([13]).

إنّ المكان مهما بدت درجات التغير فيه فإنه يبقى ثابتاً نسبياً يحافظ على طابعه الذي يؤثر على نفسية الشخصيّة وطبعها، ومهما بلغت درجة التغير فيه فإنّ الشخصيّة الروائيّة تبقى في حالة اقتران معه لا تستطيع الانفلات منه، فهي دائماً تسعى إلى التعرّف على ذاتها من خلاله: "فالمكان يتسم بدرجة من الثبات النسبي يساعد الأنا على التعرف على ذاتها، ويساهم في حمايتها من عواطف التشتت والضياع، التي توشك عمليّة التغيير، أو بالأحرى التشويه، إن تطيح بها بلا
هوادة"(
[14]). إنّ الثبات النسبيّ للمكان يساعد الروائيّ على تجاوز الإطار الماديّ الشكليّ للمكان ليصبح يحمل في طياته كلَّ ما يختص بالإنسان من عادات وأفكار وأخلاق، فالمكان بذلك يصبح: "كياناً اجتماعياً يحتوي على خلاصة التفاعل بين الإنسان ومجتمعه، لذا شأنه شأن أيّ نتاج اجتماعيّ آخر يحمل جزءاً من أخلاق وأفكار ووعي ساكنيه، ومن خلال الأماكن يستطيع قراءة سيكولوجيّة ساكنيه وطريقة حياتهم، وكيفيّة تعاملهم مع الطبيعة"([15]). ولكن مع كلّ هذه السمات الواقعيّة للمكان يجب أنّ لا يغيب عن البال أنّ المكان في النصِّ الروائيّ ليس مكاناً جغرافياً بحتاً، بل هو مكان خياليّ من إبداع الروائيّ الذي ينفر من الصور الواقعيّة المجردة ويميل إلى جعل المخيلة هي الأساس في إبداعه، فالروائي يضفي على الواقع الذي يختاره شيئاً من فكره وشعوره وخياله ليصبح الواقع فنيّاً يتلاءم مع الفن الروائيّ، وحتى حركة الشخصيات في المكان لا يتضمنها في النصّ الروائيّ كما هي، بل يضيف الروائيّ إليها بخياله، وحسّه وذوقه ما يجعل عمليّة التفاعل بين الشخصيّة والمكان تفاعلاً فنيّاً يبدعه الروائي بملكته الفنية: "فالمكان الروائي يتجاوز الحدود الجغرافية والفيزيائية، ليكون مكاناً خيالياً وإن كان موجوداً على أرض الواقع، لكنه يتخذ أبعاداً عميقة من خلال ارتباطه بعناصر العمل الروائيّ، لذلك تتعدى صورة المكان باعتباره رابطاً جغرافياً بين الشخصيات ليتخذ ملامح نفسية من خلال علاقته بالشخصية الروائية"([16]). وعندما يقترن المكان بعناصر النصّ السرديّ فإنّ المكان يصبح ذا دلالات وإيحاءات فنيّة بما قد يتضمنه المكان من أشياء ومناظر طبيعية وأشكال مختلفة وسمات لونيّة مختلفة أو ما قد يتسم به المكان من ضيق أو اتساع أو ما قد يتسم به المكان من نور وظلام، وهذه الدلالات والإيحاءات التي يوحي بها المكان تحتاج إلى متلقٍ جيد صاحب حدس وخبرة في قراءة العمل الروائي "فالمكان حامل للمعنى والدلالة أكثر مما هو مجرد شيء مصمت"([17]). وهذا ما يعزز القول: بأنّ فنيّة المكان الروائي تحتم على الروائيّ أن يبحث عن روح الحياة في الأمكنة التي يختارها.

إنّ قدرة الروائيّ على بناء شخصيته من خلال الاتصال بمكان حركتها ونموها تساعد الروائيّ على تحقيق رؤيته الفنيّة التي يسعى إليها، وتساعده على كشف آليّة التفكير لدى الجماعات والكتل الاجتماعيّة "فالمكان يقف دلالة على قيم محددة خاصة، كما يفصح عن عقلية الهيئة الاجتماعية وطرائق تفكيرها ومن خلالها أيضاً يمكن الغوص في طبقات المجتمع ووعيها الطبقي"([18]). ومن هنا نستطيع القول: إنّ المكان وحركة الشخصيات فيه لم يكن عبثاً في الرواية وليست وظيفته الإيهام بالواقع حسب، بل له دلالات، ووظائف تتعدى ذلك، فله وظائف قد تحمل مهمة الكشف عن أيدلوجية المجتمع والرؤية التي يريد الكاتب إيصالها للقارئ "فالعمل الأدبيّ في الواقع تشكيل فنيٌّ معادل للمشكلة الاجتماعية أو السياسية أو غيرها من المشكلات التي يعالجها وهذا التشكيل المعادل يوازي- ولا يعكس- المادة الأولى التي يعالجها، والموازاة تقتضي المغايرة بطبيعة الحال ويترتب على هذا أنّ الأدب كيان جديد مستقل عن موضوعه، وهذا الكيان الجديد هو رؤية الأديب الخاصّة للموضوع الذي يعالجه، ولا يتم تشكيل هذا الكيان إلا بوسائل فنيّة محددة تأتي اللغة على رأسها. إنّ الشخصية الأدبيّة شخصية مصنوعة وهي من خيال الأديب ومن عمله... فالصلة بينها وبين الشخصية هي أنها رمز فنيّ لها"([19]). والمكان كذلك لا يسلم من خيال الروائي وإبداعه، والمكان كالشخصية؛ لأنَّهما لا يخرجان عن دائرة التفاعل المستمر، ولا يمكن القول بفصلهما عند الحديث عن حركة الشخصيات في الرواية فكلاهما يخضعان لعملية التأثر والتأثير؛ مما يؤدي إلى خلق عالم روائي يلبي هدف الفنان ومبتغاه فالروائي يقدم عالماً أكثر مما يقدم قضية، حادثاً أو شخصية، الروائيون الكبار جميعهم يملكون مثل هذا العالم، ويمكن التعرف عليه باعتباره يقبض ويتداخل مع العالم التجريبي و"إن كان متميزاً لكونه قائماً بذاته، هذا العالم لدى الروائي .. هو ما يجب أن تتفحصه حين تقوم بمقارنة الرواية بالحياة. إن الصدق مع الحياة أو الواقع لم يعد يُحكم عليه بالصحة الواقعية، هذا الجزء أو
ذاك"(
[20]). إنّ الفن الروائي لا يقام في الأساس على معيار الصدق البحت في تصوير الواقع ونقله، بل هو دائماً يحاول خلخلة هذا الواقع والتمرد عليه ضمن حدود رؤية الكاتب الفنيّة التي لا يمكن أن يحققها إلا ضمن آليات فنية تستطيع بناء النص الفني.

إن تفاعل الشخصية مع المكان لا بد أن ينتج عنه عدة مستويات تختلف عن بعضها بعضاً كلّ حسب الظروف التي تعيشها الشخصيّة في المكان ويمكن عرض هذه المستويات كالتالي:

الانتماء

تبدو هذه العلاقة عندما يحدث اتصال، وتفاعل، بين الشخصية والمكان، وهذا التفاعل يخلق علاقة حب للمكان الذي تعيش فيه الشخصية، أي أن الشخصية تشعر بأنّ هناك رابطاً روحياً قوياً بينها وبين المكان الذي تعيش فيه. فالغالب إنّ الإنسان يحب المكان الذي ترعرع فيه ونشأ، وعلى أرضه ولد، ويتجلى الشعور بهذا الحب والانتماء عندما يغادر الإنسان هذا المكان ويبتعد عنه؛ إذ سرعان ما ينتابه الحنين والشوق إليه ويزداد هذا الحنين كلما زادت فترة البعد والاغتراب عن مكانه ووطنه، وهذا الانتماء الكامن في أعماقه لا بدّ أن يدفعه للعودة لذا فإننا "نجد العديد من الشخوص، وبالأخص الفواعل المركزيين، مهما ابتعدوا عن موطنهم الأصلي يعودون"([21]). ولا نقول: إنّ هذا الانتماء هو العامل الوحيد الذي يدفع الإنسان أو الشخصية إلى العودة إلى الوطن، وإنما هناك عوامل أخرى فرعيّة كعدم الاتزان الفكريّ والثقافي والاجتماعي مع الموطن الغريب الذي تقطن فيه.

إنّ الانتماء إلى المكان ليس شيئاً طارئاً على الشخصية بل إنّ هناك عوامل وظروفاً عززّت الانتماء في نفسها كذكريات مرتبطة بذاكرتها وخاصة ذكريات الطفولة التي جرت في مكان نشأته، فهي ترتبط بشعور وعاطفة الشخصية، وتسهم في خلق علاقة الانتماء والحب للمكان، وبذلك فإن حبّ المكان يرتبط مع الإنسان منذ نشأته وهو محفورٌ في أعماق الحس الإنساني يقول الشوابكة: "إنّ حبَّ المكان هو حسُّ أصيل وعميق في الوجدان البشري، وخصوصاً إذا كان المكان هو وطن الألفة والانتماء"([22]). ولكنْ لا يعني ذلك أن الانتماء للوطن والمكان مستوى واحد وصفة لصيقة بالإنسان لا يمكن أن تتغير بل قد تنشأ ظروف تحولُ دون هذا الانتماء وقد تصل بالعلاقة بين الشخصية والمكان إلى حالة تنافر.

التنافر

تظهر حالة التنافر بين المكان والشخصيّة عندما يتحول المكان بالنسبة للشخصية إلى مقرٍّ غير مرض يجعل الشخصية تنفرُ منه وتعيش حالةً من الاغتراب النفسي والذهني والفكري قد تكون بسبب طبيعة المجتمع الذي تشهده الشخصية على مكانها: "فالشخص قد يجد نفسه عاجزاً تماماً أمام ما يسود المجتمع الذي يعيش فيه من أنظمة اجتماعية فاسدة. هذه الأنظمة تقف حائلاً دون تحقيق أهدافه وتطلعاته ورغباته"([23]). وعندما يفشل في تحقيق أهدافه ورغباته يعيش حالة من الاغتراب النفسي قد تدفع به إلى الانتحار والموت؛ لأنه فقد الرابط بينه وبين المكان والمجتمع الذي ينتمي إليه "فانعدام تكامل الفرد كفرد مع المجتمع يصل ببعض الأفراد إلى أن يجدوا أنفسهم عاجزين عن الاستجابة أو الخضوع لأيّة سلطة غير تلك التي تصدر منهم هم أنفسهم، يؤدي بهم في النهاية إلى الانعزال عن المجتمع وفقدهم لتأييد الجماعة التي يعيشون فيها، وبالتالي استحالة الحياة في هذه الجماعة مما يدفعهم إلى الانتحار"([24]). 

وقد يكون سبب التنافر بين الشخصية والمكان هو سبب سياسي بحت بحيث تصطدم الذات بواقع ونظام فاسد، وهنا تحاول الشخصية التمرد على هذا النظام من أجل إصلاحه ولكنها سرعان ما تُواجهُ بالقمع والاضطهاد من أجل منعها من القيام بدورها فيدفعها ذلك إلى الانفصال عن هذا النظام "فالنظام إذا ثبت عدم صلاحيته فإنّ الذات ينبعثُ منها الإحساس بالانفصال بين الفرد والنظام السائد"([25]). ومن الطبيعيّ أن يؤدي هذا الانفصال إلى تنافر بين الشخصيّة والمكان الذي يمارس فيه مثل هذا النظام. ومن الجدير بالذكر أنّ هناك أسباباً أخرى قد تزيد من حدة التنافر بين الشخصيّة والمكان كالعامل الاقتصادي؛ حيثُ تؤدي الظروف الاقتصاديّة التي تشهدها الشخصيّة إلى النزوح عن مكانها والاغتراب الذي يتجلى عندما "تنتشر كثيرٌ من الأنظمة المتضاربة كالنظم الاشتراكيّة والرأسماليّة وفي ظلِّ هذه النظم المتعاقبة المتضاربة الأفكار والمختلفة في الأداء يفشل الفرد في مجتمع ما عن تلبية حاجاته الملحة. هذا على مستوى الفرد، أما على مستوى المجموع فتكون الدولة ونظامها الاقتصاديّ هي الضحية ومن ثم ينعكس هذا على الفرد في المجتمع فيجد أنّه لا سبيل له سوى الاغتراب"([26]). فتصادم الأنظمة الاقتصادية وتضاربها يؤزم الشخصيّة ويجعلها تعيش حالة من التوتر والقلق ويدفع بها إلى الاغتراب، وخلاصة القول: إنّ كلَّ هذه العوامل مجتمعة تصعّد من حدة التنافر بين الشخصيّة والمكان وتدفع بالشخصيّة إلى الانسلاخ التام عن مكانها الذي تعيش فيه، وتخلق في نفسه الكراهية لكلِّ ما يمتُّ للمكان بصلة، وهذا ما يسمى باللامنتمي "الذي لا يولد منتمياً، بل تدفعه ظروفه ومحيط حياته الذي يعيش فيه إلى أن يتأمل داخل نفسه وفي طبيعة الأشياء التي تحيط به، حتى ينتهي إلى هذا الموقف الذي يتخذه تجاه الحياة عامة، وليس هناك من سبب واحد، ولا حتى سبب رئيسي، يكون هو المسؤول عن اندفاع امرئ في هذا التيار، إنّما هي عدة عوامل مختلفة"([27]). تمّت الإشارة إليها.

الحياد

يبرز مستوى الحياد عندما ينعدم الرابط بين الشخصيّة والمكان الذي تعيش فيه، فلا يمثل لها المكان سوى محطة عابرة تمكث فيها الشخصيّة حقبة من الزمن ثم تمضي دون أي رَبْط بينها وبين المكان، فهي لا تتخذ أيَّ موقفٍ فلا هي منتميةٌ له ولا هي في علاقة تنافر معه، كالعمال الذين يأتون من بلدانهم للعمل في بلد آخر لكسب المال وتحسين معيشتهم ثم يعودون لأوطانهم، لا يعني لهم البلد الآخر الذي يذهبون إليه سوى أنّه مكان لكسب المال وتحسين الأوضاع، وكذلك السياح الذين يأتون من كل بقاع العالم ليزوروا موطناً سياحياً مهماً يمكثون فيه أيضاً حقبة بسيطة من الزمن من أجل التعرف والمتعة ثم يعودون إلى ديارهم، وكلُّ أولئك لا يتجاوز اهتمامهم بالسطح المكانيّ فلا يمثل لهم المكان أيّ قيمةٍ إنسانيةٍ رفيعةٍ وبذلك يتخذون منه موقف الحياد.

ومما تقدم نستطيع القولُ: إنّ علاقة الشخصيّة بالمكان الذي تعيش فيه ليست خاضعةً لمعيار واحد فقط، وليست ثابتة على مستوى واحد، بل إنّها خاضعةٌ لميزان التغير الذي قد يتصاعد فيصل إلى مستوى الانتماء وقد ينخفض فيصل إلى مستوى التنافر والذي يتحكم بهذا الميزان هو "الظروف النفسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، إذ قد تتحول نظرة الإنسان للمكان الواحد من الودِّ إلى الضدِّ في ظلِّ ظروف معيشية"([28]).

               

([1]) مرتاض: تحليل الخطاب السردي، 227.

([2]) إبراهيم، نبيلة: فن القص في النظرية والتطبيق، مكتبة غريب، مصر، د.ت: 160.

([3]) باختين، ميخائيل: أشكال الزمان والمكان في الرواية، ترجمة: يوسف خلاق، وزارة الثقافة، دمشق، 1990: 5.

([4]) شاهين، أسماء: جماليات المكان في روايات جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، 2001: 17.

([5]) هلسا، غالب: المكان في الرواية العربية، مجلة الآداب، بيروت، ع 2-3، 1980: 73.

([6]) حافظ، صبري: الحداثة والتجسيد المكاني، مجلة فصول، ع 4، 1984: 172.

([7]) صالح، صلاح: قضايا المكان الروائي في الأدب المعاصر، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط1، 1997: 131.

([8]) جنداري، إبراهيم: الفضاء الروائي عند جبرا إبراهيم، دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 2001م: 242.

([9]) يقطين، سعيد: الرواية والتراث السردي "من أجل وعي جديد بالتراث"، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 1992: 67.

([10]) ويليك، رينيه، وأوستين وارين: نظرية الأدب، ترجمة: محيي الدين صبحي: 288.

([11]) عبد اللطيف، أحمد: الزمان والمكان في قصة العهد القديم، مجلة عالم الفكر، مج 16، ع 3، 1985: 82.

([12]) حافظ، صبري: الحداثة والتجسيد المكاني، مجلة فصول، ع 4، 1984: 172.

([13]) لوتمان، يوري وآخرون: جماليات لمكان عيون المقالات، الدار البيضاء، دار قرطبة، ط2، 1988: 63.

([14]) حافظ، صبري: الحساسية الجديدة، واستخدامات المكان، الأقلام،ع 11-12، 1986: 70.

([15]) نصير، ياسين: الرواية والمكان، ج2، وزارة الثقافة، بغداد، 1995: 16. وانظر: بورنوف، رولان، وريال أوئيلية: عالم الرواية، ترجمة: نهاد التكرلي، ط1، 1991: 95، وأحمد مساعدة، نوال: البناء الفني في روايات مؤنس الرزاز، دار الكرمل للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 2000: 26، والخروبي، غدير عثمان طه: المكان في رواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، إشراف: إبراهيم السعافين، رسالة ماجستير، الجامعة الأردنية، 1993: 54.

([16]) عوض، مها حسن يوسف: المكان في الرواية الفلسطينية (1948-1988)، إشراف إبراهيم السعافين، رسالة ماجستير، جامعة اليرموك، 1991: 332.

([17]) عثمان: بناء الشخصية الرئيسة في روايات نجيب محفوظ: 94.

([18]) الشوابكة، محمد: دلالة المكان في مدن الملح لعبد الرحمن منيف، مجلة أبحاث اليرموك، مج 9، ع 2، 1991: 17.

([19]) الربيعي، محمود: عن قضية الأدب المجتمع، الكاتب، ع 185، 1976: 8-20.

([20]) ويلك، رينيه، وأوستين وارين: نظرية الأدب: 277-278.

([21]) يقطين، سعيد: قال الراوي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 1997: 242.

([22]) الشوابكة،: دلالة المكان في مدن الملح: 31.

([23]) السيد، حسن سعد: الاغتراب في الدراما المصرية المعاصرة بين النظرية والتطبيق (1960-1969) الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1986: 18. وانظر: العبد الله، يحيى: الاغتراب (دراسة تحليلية لشخصيات الطاهر بن جلّون، دار فارس للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2005: 25.

([24])السيد: الاغتراب في الدراما المصرية المعاصرة: 18.

([25])السيد: الاغتراب في الدراما المصرية المعاصرة: 19.

([26]) المرجع نفسه: 21. وانظر: العبد الله: الاغتراب (دراسة تحليلية لشخصيات الطاهر بن جلّون): 26.

([27]) البطوطي، ماهر حسن:  كمال عبد الجواد... اللامنتمي، مجلة الآداب، بيروت، ع1، 1963: 30.

([28]) الفيومي، إبراهيم: المكان ودلالاته، مجلة جامعة البعث، مج 19، ع 1: 1997: 19.