الثورة وطبائع الأدب
الإخوان المسلمون في مواجهة السلطة
إبراهيم أمين الزرزموني
الشعوب العربية المقهورة تريد الحياة .. الحياة الحرة الكريمة، ومن أساسيات الحياة الأدب الصادق فناً وتعبيراً. ومن البدهي أن الثورات توفر للمبدعين زخماً للارتقاء بالفن عموماً وبالأدب خاصة. ولنقل: إن الثورات حجر نوراني يُلقى في مياه الإبداع لتحريك المعايير الجمالية وتوجيهها إلى بقعة نور ومساحة إبداع جديد.
ونجد – في بعض الأحيان – أنه يجري إغفال الأدب باعتباره شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي والسياسي وأسلوباً معتبراً لفهم الواقع الموضوعي. مع أن السياسي ينعكس في الأدبي، ويمثل موقعاً خاصاً وطليعياً يتفاوت ظهوره بتفاوت الأجناس الأدبية. والالتزام التقدمي يبقى جزءاً لا يتجزأ من عقيدة المبدع ، والتزامه هذا يمتد إلى ميدان الجماليات. كما يرى المفكر مالك بن نبي (1905 -1973 م) أن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة ثقافته وحضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته ما لم يرتفع بفكره إلى مستوى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها.
وهذا هو موضوع دراستنا النقدية الجادة للدكتور إبراهيم عبد العزيز زيد تحت عنوان ’’الثورة وطبائع الأدب .. دراسات تطبيقية في بنية الاستلاب والمقاومة‘‘ يبين من خلالها أن الأدب – عموماً – يقوم على فكرة ’’الاستشراف‘‘ وهي الفكرة التي راجت في الأدب العربي، ونضجت من خلال المدرسة الرومانسية حيث الشاعر ’النبي‘، ولذا كان ’الاستشراف‘ وقراءة الآتي من أهم سمات الأدب الأصيل.
وتحاول الدراسة الإجابة عن سؤال رئيس: هل تنبأ الأدب بالثورة؟ الأمر الذي يقودنا إلى أسئلة أخرى أهمها: هل الثورات العربية عموماً - والمصرية بخاصة – كانت ثورة سياسية أم ثورة اجتماعية تحمل قيماً إنسانية؟
وفي تقدير المؤلف أن كل الثورات المؤثرة في تاريخ الأمم رفعت شعارات تجعل منها ثورة اجتماعية، فالإخاء والحرية والمساواة شعار الثورة الفرنسية، والمساواة والحرية أبرز ما نطق به عرابي أمام الخديوي، وحتى ثورة يوليو 1952م التي قام بها الجيش رفعت مجموعة من المبادئ الاجتماعية تدعو إلى الإصلاح والمساواة .
أما إذا قيدنا ثورة 25 يناير المجيدة بشعاراتها السياسية، وتحديداً ’’الشعب يريد إسقاط النظام‘‘، وجب علينا أن نتفهم أن هذا النظام الفاسد الذي ملأ الدنيا ظلماً وفساداً وشغل الناس ذلاً وهواناً، هو نوع من طبائع الاستبداد في الحكم، ولك عزيزي القارئ أن تتخيل أن ابن قتيبة (ت276هـ) أشار في كتابه (عيون الأخبار) أن قاعدة الملك الظالم: ’’وسعوا لهم الرجاء، وضيقوا عليهم العطاء‘‘ ولا أرى – كما رأى المؤلف - في خطابات الرئيس السابق وحكوماته إلا تطبيقاً لهذه القاعدة، وقد رسخت مجموعة من الكتابات طبائع الحكام ، منها ما كتبه الماوردي في نصيحة الملوك ، ومنها ما كتبه ابن الأزرق في بدائع السلك في طبائع الملك ، وما كتبه الكواكبي في طبائع الاستبداد ، ولعل هذه العناوين تكشف عن ثبات مجموعة من الطبائع للحكام المستبدين، وبدهي أن تواجه هذه الطبائع بطبائع الأدب الجاد الذي يعمل على إرساء القيم النيلة، أو ما يسميه غالى شكري في كتابه ’ثورة الفكر في أدبنا الحديث‘ بـ "يقظة الضمير" وهو يرى فيه غاية أدب الثورات.
وتتناول الدراسة التي بين أيدينا عدداً من الأعمال الأدبية سرداً وشعراً، وجاءت فصولها كما يأتي:
** الفصل الأول: العارية المستردة في رواية " وقائع جبلية "
يتناول المؤلف فيها بالنقد والتحليل رواية (وقائع جبلية .. المتعاقدون)، وهي إحدى روايات ثلاث للكاتب (فكري داود) هذا بالإضافة إلي مجموعتين من القصص هما "الحاجز البشري" عام 1996 ، و"صغير في شبك الغنم" عام 2001 ، ومجموعة قصصية للأطفال هي " سمر والشمس " عام 2004 ، ومسرحية فاز بها في مسابقة جريدة الجمهورية بالتعاون مع اتحاد الكتاب في مايو 2009 ، وهي مسرحية " لعبة الحياة والموت " كما أن له العديد من المشاركات البحثية والنقدية. والرواية تتناول تجربة المؤلف الإنسانية خلال رحلة إعارته للعمل مدرساً بالمملكة العربية السعودية في منتصف تسعينات القرن الماضي.
الفصل الثاني: صورة الأنا المتحولة إلي آخر
يتناول رواية (محلي ومارينز) للقاص والروائي المغربي ميلود بنباقي، التي ترصد ظرفاً عربياً ودولياً يصعب المرور عليه بسهولة، متخذة من المأساة اليومية للإنسان العراقي ومن تناقضات ما بعد العولمة والقطب الوحيد مادة حكائية في لغة شفافة تجمع بين السلاسة والوضوح والشاعرية والبساطة.. وبين العمق. بين الفصحى وبين اللسان اليومي.
الفصل الثالث: الإخوان المسلمون في مواجهة السلطة
يتناول فيه رواية " شغل الليل والنهار " لـ ثروت مكايد التي تصور جانباً من جوانب التاريخ الاجتماعي لمصر إبان العصر الناصري ، أعني علاقة السلطة بالتيارات الفكرية المعاصرة لها بكل تنوعاتها ، وقد شغلت هذه القضية الكاتب المصري عموما من بداية السبعينات إلى الآن ، وتتلخص في أن المفكرين رأوا أن ثورة يوليو أممت قناة السويس ، وأممت معها – قهرا – كل ألوان النشاط الثقافي على حد تعبير محمود نسيم في مجلة فصول ، وهي بذلك لم تفرق بين التيارات الشيوعية أو التيار الإسلامي أو الماركسي وإنما حاولت أن تستقطب من كل هؤلاء ما يروج لأهدافها ، ومن يخالف ذلك مجاهرا فالسجون والمعتقلات مصيره ، ومن يخالف ذلك صامتا فقد اختار محبسه بالموت كمدا.
الفصل الرابع: البنية والدلالة في رواية واسمه المستحيل
تعد رواية واسمه المستحيل التجربة الروائية الأولى للقاص محمود الديدامونى بعد مجموعتين قصصيتين هما " أتراني أحيا حقا " و " ليست كغيرها " وديوان شعري هو " الشمس تشهد والقمر " وقد تخصص الكاتب في دراسته الجامعية في " العلوم الاجتماعية " وقد أفاد منها في بناء روايته . ويسعى الباحث في هذه الدراسة إلى الكشف عن البنية الدالة في هذه الرواية وهو ما يتطلب الكشف عن البنية الجمالية في النص والمتمثلة في آليات البناء السردي ووضعها في النسق المعرفي الذي تمثله الرواية .
الفصل الخامس: الثورة الفرنسية في الرواية المصرية
وتطرح الكاتبة نجلاء محرم في روايتها (الغزو عشقاً) صورة من صور علاقة الأنا بالآخر، وهو ما يطرح هذا التساؤل: إلى أي الأشكال الثلاثة ستنحاز الرواية؟ وهل تعالج رواية تكتب في زمن العولمة زوايا أخرى لعلاقة الأنا بالآخر ؟
ولم تخرج معظم هذه الروايات التي تناولت علاقات الشرق بالغرب عن أشكال ثلاثة إما الانبهار التام بالآخر، أو الرفض التام له، أو محاولات للتوفيق أو التلفيق بينهما. وكانت الدراسات النقدية على وعى بهذه المدارات فرصدت هذه الصور في رحلتها إلى الغرب حيث موطن الآخر أو في الاتجاه المعاكس بحثاً عن (حوار/ لقاء/ صدام/ إطار) حضاري بين الأنا والآخر، وصارت هذه الثنائية – إشكالية العلاقة بين الأنا والآخر – في هذا السياق أشبه بالثنائيات الكونية، مما يؤهلها للاستمرارية إبداعاً ونقداً.
الفصل السادس: مواجهة الذات والآخر في ديوان لمحمد الشهاوي
يتناول فيه بالدراسة والتحليل ديوان (مسافر في الطوفان) للشاعر الكبير "محمد الشهاوى" قراءة في ضوء النقد الثقافي.
الفصل السابع: الموروث في مواجهة الواقع
دراسة في قصيدة الشاعر الدكتور محمد أحمد العزب (معلقة جديدة لامرئ قيس جديد) ويهدف إلى الكشف عن جماليات نص لاحق يتعالق نصياً مع نص سابق، على أن يتم التعامل معها وفقا لمفهوم إجرائي محدد للتناص بوصفه آلية لقراءة نص متداخل مع نص آخر.
وبعد استئذان المؤلف ننشر فصلاً كاملاً من الكتاب، وهو الفصل الثالث، تحت عنوان:
الإخوان المسلمون في مواجهة السلطة
رواية ’’شغل الليل والنهار‘‘ نموذجاً
يتناول ثروت مكايد في روايته" شغل الليل والنهار " جانبا من جوانب التاريخ الاجتماعي لمصر إبان العصر الناصري ، أعني علاقة السلطة بالتيارات الفكرية المعاصرة لها بكل تنوعاتها ، وقد شغلت هذه القضية الكاتب المصري عموما من بداية السبعينات إلى الآن ، وتتلخص في أن المفكرين رأوا أن ثورة يوليو أممت قناة السويس ، وأممت معها – قهرا – كل ألوان النشاط الثقافي على حد تعبير محمود نسيم في مجلة فصول ، وهي بذلك لم تفرق بين التيارات الشيوعية أو التيار الإسلامي أو الماركسي وإنما حاولت أن تستقطب من كل هؤلاء ما يروج لأهدافها ، ومن يخالف ذلك مجاهرا فالسجون والمعتقلات مصيره ، ومن يخالف ذلك صامتا فقد اختار محبسه بالموت كمدا.
أدى ذلك إلى بزوغ النظريات الفلسفية التي أنتجت ما يعرف ب( الالتزام الفكري ) وهو مصطلح يقترن دوما بمصطلح " الحرية " ، بمعنى هل الالتزام قيد ؟
ويختزل الكاتب ثروت مكايد هذا الإطار الكبير في روايته في علاقة السلطة بالتيار الإسلامي ، كما اختزل هذه الصورة أيضا لتصبح السلطة هي ( الجندي / الشرطي / الضابط ) الذي يأتي وصفه دائما مقترنا بالحقير ، أو يشبَّه بخزنة جهنم ، أو يقيم علاقة تضايف بين ( الشرطي / الضابط ) و ( الكلب ) وهي علاقة تبادلية يصلح معها أن يكون الكلب صفة والشرطي موصوفا والعكس صحيح . وهكذا يكون " في كل زاوية من زوايا الحجرة المتسعة كلب وشرطي ، كلب يعوى والآخر يصيح ويضحك . لعل الكلب يحتج على تلك الصورة المرزية التي يراها للإنسان " ص36 .
ولا بأس كذلك مع تغيير المنظور الروائي أن يوصف أصحاب التيار الإسلامي بالكلاب في نظر الشرطي ، كما يتضح في هذا الحوار الروائي بين المحقق البوليسي والبطل عبده إسماعيل .
" عليك أن ترصد حركة الكلاب في زنزانتك
قلت والعجب قد استولى علىّ: لا توجد كلاب في زنزانتي يا سيادة الر...
قاطعني باصقا على وجهي للمرة الثالثة :
كلاب مثلك يا غبي " ص54
وكما اختزل الكاتب السلطة في صورة الشرطي ، اختزل أصحاب التيار الإسلامي في مجموعة من الشخصيات تقدم وجهة نظر واحدة بما فيهم مدحت شكري المسيحي ، المؤمن بالإسلام السياسي أو الإسلام الدولة ، وقد أشار الصديق محمود الديداموني إلى هذه الملاحظة في تقديمه للرواية ، لكن ما تجدر الإشارة إليه أن هذا التوحد بين الشخصيات لدرجة التطابق بين الأقوال مرده فنيا إلى انتساب هؤلاء جميعا إلى الشيخ عبدالسلام النمل ، فهو الذي أملى على ( مريديه / شخصيات الرواية ) هذه الأفكار ، ولا يخفى على القارئ دلالة الاسم ( النمل ) التي تشير إلى الكثرة والانتشار ، وهو ما ألحت في ذكره الرواية ، فهل يستطيع " الجنود / السلطة " أن تحطم جيوش النمل ؟
ينحصر الصراع في العالم الروائي إذن بين ( الشرطي / الضابط ) من جهة ، وحرمان هذه الشخصيات من الأسماء له مغزى فني تكمن دلالته في إفراغ هذه الشخصيات من قوتها ، فوجود الاسم دليل على المسمى ، وفي المقابل يواجه هذا " الشرطي " تلامذة الشيخ النمل الممثلة في مجموعة من الشخصيات " عادل النمل ، محمود سعيد ، مدحت شكري ، عباس المصري ، إبراهيم رمضان ، أما الراوي البطل " عبده إسماعيل " فسنشير له لاحقا ، والنتيجة التي نخرج بها في هذا المقام أن الرواية تسعى إلى الانتقال من التعميم إلى التخصيص ، وهو أمر مهم في رصد واقع اجتماعي معيش من تاريخ هذه الأمة .
أما الشيء المتصارع حوله فهذا ما " شغل الليل والنهار " عند كليهما من هنا كان سعي السلطة في القضاء على الطرف الثاني بإدخاله السجن " ولا يخرج من هنا إلا أحد رجلين : إما معتوه لا يصلح لشيء أو نسخة منهم بعد عمليات غسيل المخ وما يراه من صنوف العذاب " ص58 ، وهو ما يمثل الواقع القائم في الرواية ، من هنا كان سعي الطرف الثاني / أصحاب التيار الإسلامي لمحاولة تغيير هذا الواقع ، فكيف يتحقق لهم ذلك ؟
هذا هو التساؤل الذي يحتاج إلى إجابة
يقدم العنوان بنية نحوية تشمل جملة اسمية مكونة من مبتدأ محذوف ، وخبر هو ( شغل الليل والنهار ) وإذا كان الحذف قد أفاد الاهتمام بالمسند فإن المسند إليه يحتمل أن يكون ( السلطة ) أو ( أصحاب التيار الإسلامي ) ، وبامتلاك الرواية لراو واحد يرفض ( السلطة ) وإن لم يعترف بعد بأفكار الطرف الثاني ، فإنه يتم تغييب الصوت السردي للسلطة الأكثر هيمنة وهو ( الراوي ) ، وهو نوع من أنواع مقاومة القهر الذي تمارسه السلطة ، وقد اكتسب العنوان أهميته في سياقين ، الأول ورد في وصف الراوي البطل لأحوال تلامذة الشيخ عبد السلام النمل في السجن يقول : " أحاطني الصمت بهالة من الغموض والهيبة – والحق أنني لم أكن لأنطق بشيء مما يدور في خلدي من ضيق بالحياة .. بما أنه فيه ، بينما شغلهم الشاغل بل هم الليل والنهار لديهم دائر حول كيفية بعث هذا الجسد ... جسد أمتنا بحيث تصبح قادرة على أداء رسالتها العظمى " ص50 .
ولكي يتحقق هذا الهدف يقوم الكاتب بنقل هذا الواقع من التجريد إلى التجسيد حيث إن فكرة بعث الأمة فكرة مجردة يمكن تشخيصها في حالة البطل ( عبده إسماعيل ) ، ونجاح الرواية في بعث هذا الجسد هو بعث لهذه الأمة ، لأن التناص يتم بينهما على مستوى المبني ومستوى المعنى ، فقد وصف البطل جسده بأنه خرقة بالية ( ص57 ) ووصفه صاحبه عباس المصري ب (جثة هامدة ) ص23 .
فكيف يمكن تحقيق ذلك في البرنامج السردي للرواية ؟
حققت الرواية ذلك عبر مجموعة من الأشياء منها إدراك البطل لماهيته ، بمعنى أن رفقاء السجن لهم أسماء معلومة لدى الناس ، أما هو فيظل يلاحق دوما بهذا التساؤل : من أنت ؟ وهو التساؤل الذي لاحقه من زوجته ص21 .وأجاب ( عبده إسماعيل ) ، ومن صديقه عباس المصري وأجاب ( كافر ) ثم أردف ( كافر بالإنسان ) ص24 .، ومن د. إبراهيم رمضان في المستشفى ، وكانت إجابته ( ألا تعرفني ) وعندما أعاد التساؤل أجاب ( لا أفهمك ) ص85 ، ومغزى التساؤل لا يكمن في معرفة اسم الشخص لكنه يكشف حاجة البطل إلى البعث مرة أخرى .
هذا التيه مرده إلى قناعة الراوي البطل أنه يعيش دون ( اختيار ) لأن الاختيار يحتاج إلى ( حرية ) والحرية تقتضي ( معرفة بدائل ) ولأنه لم يختر زوجته ، فهو يشعر بأن الزواج ( قيد ) ، ووجود الطفل في الحياة قيد آخر ، فرفض هذا الطفل .
وتمثل حالة البطل هذه المعادل الموضوعي لما حدث في السجن ، فالسجن قيد وليس حرية ، لأنه لم يختاره ، وقد قضى خمس سنوات في معتقله الأول وارتبط هذا السجن / بالقيد بمنظر دماء الأم التي ماتت على يد الجندي لأنها تجرأت وسألت ماذا فعل الابن حتى يجر هكذا ؟
والنتيجة التي يمكن أن نخرج بها هنا أن محاولة فك هذا (القيد ) والانتقال إلى ( الحرية ) ، يعني بعثا لهذه الجثة الهامدة ، وهذا ما حدث للبطل في محبسه عندما رأى تلامذة الشيخ وهم يتوقون إلى الجنة عن طريق العذاب ، فبدأ يلتفت إلى أقوال هؤلاء ، وهي مقولات من شأنها أن تعيد تغيير مفاهيم رسخت في ذهنه عن طريق العادة ، وأهمها الصلاة ، فقد أشار إلى أنه كان يحافظ على أداء الصلاة في الجماعة " لم أستطع أن أتخلف عن حضور صلاة الجماعة يوما – اللهم إلا في الظروف القاهرة – رغم ما كنت أعانيه من شرود أثناء أدائها مما سبب لي الكثير من الضيق ، ثم تعودت على ذلك الشرود ولم أعد أفقه منها إلا قليلا .. لم يعد هذا يؤلمني .. المسألة أنني أجد لذة في ذلك الشرود " ص20 . كما لم يكن يؤلمه أن يصلي ثم يذهب لعشيقته لطيفة إبراهيم يرتمي في أحضانها ص93 .
أقول هذه المفاهيم تغيرت وهو في ( السجن / القيد ) لكنها ( حررته ) عندما أدرك أن الصلاة لها فقه يصنع حضارة الأمم ، لا يقتصر على الحركات ، لكنه يكشف الطريق للحرية والبحث في الآفاق كما ورد على لسان عادل النمل ص56 .
من هنا كان امتناع البطل ( عبده إسماعيل ) عن الصلاة عد خروجه من معتقله الثاني الذي لم يستمر أشهرا معدودة حتى يفقه الصلاة الكاشفة طريق الحرية ، وهو ما تحقق بالفعل ، وهكذا صار السجن الذي هو قيد طريق الحرية ، كما تحرر المعادل الموضوعي له ، وصار الزوج سكنا ومودة ، وصار الابن بشارة وخيرا ، كما حمل اسمه محمد عبده رمزا للاعتدال الديني الذي يقرأ فقه الواقع ، وبذلك تحرر هذا الجسد ، وأدرك أن ما عاش فيه قبل رؤية تلامذة الشيخ ، " ما هو إلا سجن ... سجن يكبل أشواق الروح وإبداع العقل " ص77
وعن طريق التحرر بدأ يعيد النظر في أشياء ظنها فقدت معانيها مثل القانون " القانون سيف في يد سادتنا .. هم صانعوه وهم يرفعونه شعارا لهم في وجه الدنيا وفي نفس الوقت يغمدونه في صدورنا نحن " ص24
ولأن الإنسان قد يتهم بلا سبب ، فكل شيء محتمل ، وهكذا وردت العبارة الأثيرة في حواراته ( ربما ) دالة على ذلك الإحساس ، وقد استخدمها ( 16 مرة ) توزعت كالآتي ( 8 مرات ) مع الزوجة ( 4 مرات )مع الضابط ، ( 3 مرات ) مع العشيقة ، ( مرة واحدة ) مع مدحت شكري وهذا الإحصاء يبرز هذه الحالة .
ولم يخفف من وطأة هذه العبارة في الحوار إلا عبارة أخرى استخدمها في حواراته أعني قوله ( هذا حق ) وقد استخدمها ( 10 مرات ) مع الزوجة ( 4 مرات ) ، ومرتان مع مدحت شكري ، ومرة واحدة مع لطيفة والضابط ومحمود سعيد وعادل النمل .
أعني أن العبارة الواحدة لم يستخدمها مع تلامذة الشيخ لكنه استعاد توازنه في قوله : هذا حق معهم على الأقل أربع مرات ، لذلك عندما اعتقل للمرة الثالثة بعد أن بعث جسده ، وسأل عن محمود سعيد ، وقيل له مات قال بل استشهد وهذا حق ص112 .
وهكذا وجد نفسه عبده إسماعيل رمزا كما كان عبد السلام النمل رمزا ، أو قل ناقلا لأفكاره عن طريق بعث علمه من خزائن الكتب المحكمة الغلق لتسري روح جديدة في الأمة وذك شغل الليل والنهار.
بيانات الدراسة:
* العنوان: الثورة وطبائع الأدب دراسات تطبيقية في بنية الاستلاب والمقاومة
* المؤلف: دكتور إبراهيم عبد العزيز زيد
* النشر: دار الوفاء لدنيا الطباعة – الإسكندرية – 2012م