القبض على الجمر
محمد الحسناوي
رحمه اللهسعدت بمطالعة كتاب حول (تجربة السجن في الشعر المعاصر) للباحث الفلسطيني الدكتور محمد حوّر، وأحيي مؤلفه على حسن اختياره واستواء منهجه، فقد جاء ضمن سياق تاريخي وطني إنساني كالماء للعطشان وكالحرية للسجين البريء.
بعد المقدمة والتمهيد اللذين لابد منهما حول الدراسات السابقة في الشعر القديم والحديث، يقسم الباحث سفره الجميل إلى أربعة فصول: يدرس في الفصل الأول الاتجاه الإسلامي في شعر السجن، وفي الثاني الاتجاه القومي، وفي الثالث الاتجاه الماركسي، وفي الرابع شعر المقاومة الفلسطينية، مع وقفات خاصة بالأناشيد في ختام كل فصل، وفي الخاتمة أجمل الخصائص العامة والفنية لهذه الاتجاهات كلها بإجمال ليته قد طال.
المنهج العام في الدراسة هو عرض الشعراء وأشعارهم من خلال تحليل يجمع البعدين: الفكري، أي المضمونات، والفني: بشكل مندمج لا يكاد يميز القارئ العادي فيه خطوط فاصلة بين هذه الأبعاد، وهو منهج ناجح من جهتين: الجهة الأولى طبيعة الموضوع والظرف التاريخي الذي يحيط به، فجاء عرضاً تعبوياً متزناً. والجهة الثانية، الإخلاص للأدب الذي لا يمكن أن ينفصل عن العمل النقدي، وبتوازن لائق أيضاً ويخيل إليّ أن المؤلف ليس صاحب تجربة في سجون غزة وحسب، بل هو أديب أيضاً إن لم يكن شاعراً مجيداً كهؤلاء الشعراء الذين اختارهم وأحسن الحديث عنهم، كأنه واحد منهم.
قد يوحي العنوان "القبض على الجمر" بموحيات، منها توظيف التراث الإسلامي في كتابة الدكتور حور، لأن العبارة جزء من حديث شريف "القابض على دينه كالقابض على الجمر"، لكنه على جماله وتوفيقه لم يجعل صاحبه يتحيز لأي من الاتجاهات الفكرية أو السياسية التي تحدث عنها وما سوف أسوقه، من عتاب حول إغفاله المتعمد لذكر الوطن السوري في حديثه عن شعراء الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي في سورية، كما أغفل ذكر التواريخ أيضاً، لا يقدح بمنهجه وتطبيقاته، لأنه كان يمارس "القبض على الجمر" وهو يكتب عن "المراقب العام" وأعضاء قيادة، ونشطاء أحياء، ومنفيين من بلادهم إن لم تقل (محكومين بالإعدام).
لا يستطيع الباحث في مثل هذا الكتاب أن يضم شعراء كل اتجاه من كل الأقطار العربية، فاختار شعراء التيار الإسلامي من مصر وسورية، وحسب! ربما لأهمية هذين القطرين من جهة بالإضافة إلى الساحة الفلسطينية، أو لاشتهار هؤلاء الشعراء في تيارهم، لكنه لم يعلل لذلك مع العلم أن الزاوية في اختيار الشعر والشعراء في تيارهم بتجربة السجن، وهذا عامل من عوامل الاختيار، وبوسعنا أن نضيف سبباً آخر، هو عنف الحراك السياسي في هذين القطرين أيضاً.
فبالإضافة إلى الشعراء الإسلاميين السوريين (محمد بهار ويحيى البشيري وعبد الله عيسى السلامة وعلي البيانوني) اختار عن التيار القومي من سورية سليمان العيسى، فأصبح نصيب القطر السوري خمسة شعراء وربما كانت الصفحات المخصصة للسوريين أوسع من غيرهم.
وكذلك أغفل الباحث موطن الشعراء السوريين وتواريخهم خلافاً لما التزمه مع بقية الشعراء من الأقطار الأخرى، وقد أغفل أيضاً الأسماء الحقيقية لمن اضطر منهم في الماضي إلى اتخاذ اسم مستعار، فمحمد بهار هو محمد الحسناوي، ويحيى البشيري هو يحيى بشير الحاج يحيى، ولعله لا يدري، في حين لم يهمل موطن سليمان العيسى وتنقله بين دمشق وحلب والإسكندرونة وتحديد محنته بالضبط أي قبل خمسين عاماً 1954م.
هل في ذلك سر؟ ما نظن الأمر يحتاج إلى شرح.
مع ذلك شعرت أن تصنيف الشاعر الجزائري مفدى زكريا في الاتجاه القومي اجتهاد ليس في محله. وهو أقرب إلى الاتجاه الإسلامي، فهو يقول مثلاً:
وقال الله كن يا شعب حرباً على من ظل لا يرعى جنايا
وقال الشعب: كن يا رب عونا على منا بات لا يخشى عقابا
فكان وكان من شعب ورب قرار أحدث العجب العجابا