بن لحسن عبد الرحمن
القراءة والنص
الأستاذ بن لحسن عبد الرحمن
جامعة بشار
القراءة
لعل القبض على القراءة ليس بالأمر الهين ولا بالحكم النهائي، وإنما قراءة قراءة التي يمكنها أن تتعدد إلى أكثر من مفهوم حسب رؤية القارئ، وذكائه الثاقب، وحسب طرائق المعالجة لهذه القراءة أو تلك، ولا يمكن بأية حال من الأحوال الوصول والكشف النهائي عن مقاصد المبدع أو الشاعر، والأغراض والدوافع التي يسعى إليها، وإنما مجرد رأي قد يكون صائباً وقد يكون خاطئاً، ومن الحيف والغرور والظلم الجزم بالحكم عليه أو الظفر به... وفي هذا المضمار يقول عبد الملك مرتاض " من السذاجة أن نزعم أننا نبلغ من النص الذي نقرأه منتهاه إذا وقفنا من ما حوله مسعانا على منظور نفساني فقط، أو منظور اجتماعي فقط، أو بنيوي فقط مثلاً... من أجل ذلك تميل الاتجاهات المعاصرة إلى التركيب المنهجي لدى قراءة نصها، مع محاولة تجنيس التركيبات المنهجية حتى لا نقع في التلفيقية، وقد دأبنا نحن في تعاملنا مع النصوص التي تناولناها على محاولة المزاوجة أو المثالثة أو المرابعة بين جملة من الأجناس باصطناع القراءة المركبة التي لا تجتزئ بمنظور أحادي إلى النص لأن مثل ذلك المنظور مهما كان كاملا دقيقا، فلن يبلغ من النص كل ما فيه من مركبات لسانية، وإيديولوجية، و جمالية، ونفسية." (1)
والنص " عالم ضخم متشعب، متشابك، معقد " (2) حتى وإن كان هذا التشابك وذاك التعقيد يقعان بعيداً عن منشئه، ولكنه عالم متشعب، وإذا كنا قد سجلنا رفض "عبد الملك" للمنهج الجاهز الذي يأتي به صاحبه إلى النص كما يحمل الميكانيكي علبة أدواته، فلأن المعاشرة النصوصية
أكدت للباحث أن الأداة الواحدة التي كانت صالحة في عين الموضع، في نص مقارب أو مشابه تصبح عاجزة كل العجز أمام الموقف الجديد، وكأن المواقف وإن تشابهت تركيباتها وأدواتها البنيوية، يستحيل أن تتشابه شحناتها العاطفية، والدلالية، لذلك كان إجراء المنهج الواحد في نصوص متعددة مختلفة امتهانا لحق هذه النصوص، واعتسافا شديد الغلطة، يركبه ذوق هجين على جهل مطبق بحقيقة النص و الأثر. لقد كتب " عبد الملك " في كتابه البنيوي الشكلاني -كما ينعته البعض-: " إن النص الأدبي عالم منغلق، ولكنه قابل للانفتاح، بيد أن مفتاحه لا نأخذه في يدنا و نمضي لنفتح أبوابه و نستكنه أسراره، و إنما نبحث عن هذا المفتاح في ثناياه ذاتها." (3) ويرجع هذا الأخير اختلاف القراءات وتنوعها عند القراء: " لاختلافنا في الذوق، ولاختلافنا في مستويات المخزون الثقافي، ولاختلافنا في درجات التحسس بالجمال العظيم " (4) كما يجعل اختلافنا في إدراك اللوحة الزيتية يعود- باعتبار قراءة – إلى السن و اللغة والتجربة و الثقافة والأيديولوجية و الميول والهوايات... هو التصنيف الذي يوحي بوجود مستويات للقراءة تقابلها مستويات للقراء وكما يقابل المستوى في هذا الشطر المستوى المماثل في الشطر الثاني، فإن الحديث عن القراءات يأخذ صفتين: صفة الدرجة، وصفة اللون، مادامت الدرجة تعني الثقافة، و الذوق والسن و التجربة، و الاهتمام الإيديولوجي.
لقد حاول " حميد لحميداني" رسم تقابلات بين مستويات المعرفة، ومستويات القراءة التابعة لها، وتحديد الوظيفة القائمة وراء كل قراءة، متجاوزا اعتبارات الذوق، والسن، والتجربة فكان هذا الجدول:
مستويات المعرفة |
مستويات القراءة |
الوظيفة |
- المعرفة الحدسية - المعرفة الأيديولوجية - المعرفة الذهنية - المعرفة الابستمولوجية |
-القراءة الحدسية - القراءة الأيديولوجية - القراءة المعرفية - القراءة المنهاجية |
- التذوق، المتعة - المنفعة - التحليل - التأويل، المقارنة، إدراك الأبعاد |
ويستدرك الباحث على جدوله قائلا: ".....ولا ينبغي الاعتقاد بأن هذه القراءات جزر متباعدة، بحيث لا يمكن أن تلتقي أو تتداخل فيما بينها. فالقراءة المعرفية قد لا تستغني عن القراءة الحدسية، ولكن حدس الناقد ليس في مستوى حدس القارئ العادي، أو حدس دارس الأدب المتهيب من المنهج، ومن كل معرفة منظمة. هناك إذن التقاء ممكن بين جميع المستويات، وإن كان التمايز بينها تفرضه هيمنة إحداها في كل مستوى من مستويات تلقي النص الأدبي. (5)
وهو استدراك لا يوحي بتعدد القراءات وتلونها، بقدر ما يشير إلى قراءة واحدة، ينتقل فيها الاهتمام من المتعة إلى المنفعة إلى التحليل ثم التأويل، وهو تصور يمكن قبوله – من زاوية الجشطالت - على اعتباره تدرجا قائما، يقدم الحدس لتلمس سطح الصنيع بحثا عن ثغرات التولج إلى صميمه.
بيد أن حديث " عبد الملك " لا يلامس القراءة الواحدة، و إنما يتجه صوب الاختلاف فيها، فيرده إلى الذوق، والثقافة و السن، و الاهتمام الأولي وهي خانات يمكن أن تصنف فيها قراءة عددين، كأن يجعل لكل قارئ خانة، على اعتبار اختلافه ضرورة عن غيره، حتى وإن تساوت الدرجات بينها ذوقا، وثقافة، وسنا،... وأمام تعذر مثل هذا التصنيف يلتفت "عبد الملك" إلى جهة القراءة ليجعلها ألوانا يعرضها كاشفا عن وظيفة كل واحدة منها (6).
ومن هنا نقول أن قراءة القراءة لا تسعى– أبدا- إلى إصدار الأحكام، وتقويم القراءات لأن ذلك من شأن النقد وحده، ولكنها تعمل جاهدة على تثمين القراءة الأولى، وإعانة القراء على تلمس مواطن الجدة فيها، وتمكين تعدد الأصوات ووجهات النظر، وفتح حدود النص على شعرية الانفتاح، وإنتاجية الغموض غير أن " قراءة القراءة " ليست هي " نقد النقد " لأنها تسعى إلى " الحد من غلواء السلطة الصارمة القاصمة التي كان النقد يتصف بها عبر تاريخه" (7) ومن هنا نقول:إن القراءة هي الإسهام في النفاذ إلى دواخل النص الشعري ورصد قوانين التي تديره وتبني شعريته، وهي قوانين متكتمة على نفسها في صميم ذلك النص ذاته، متسترة في أقاصيه وأغواره تتراءى أحيانا إيماء ولمحا تم تتوارى في نبعها (أقاصي النص وأصقاعه) فتستعصي، تبعا لذلك على التحديد والضبط، ولما كان النص لا يمنح من شعريته إلا بالقدر الذي يحجب، "فإنه من الطبيعي أن تظل تلك القوانين مقفلة على نفسها، متسترة غاية التستر وأنه من الطبيعي أيضا أن يتطلب الكشف عنها تسليما من الدارس بأن النص ليس شيئا مواتا، بل إنه كيان زاخر بالحركة طافح بالهدير و الاندفاعات، أي أنه ليس مجرد وعاء الذي يحمل معاني تمنح نفسها للقراءة مهما كانت عادية ومتعجلة، بل إنه هو الذي يبتني معانيه، من صميمه يستلها ومن حركاته، حركات كلماته وصوره ورموزه يبني دلالته، وإيقاعه و شعريته". (8)
من ذلك أن الكلمات في النص ليست مجرد وسائل يستخدمها الشاعر كما اتفق، وليست مجرد خواء يسكنه معنى محدد معلوم، إنها ليست مجرد جسد (لفظ) تسكنه الروح (المعنى) ذلك أن المعنى إنما ينتج ويكون فيما يتم إنتاج الكلمات ونهوض النص أي تأسسه وحضوره بيننا، لأن معاني النص ليست في ظاهر لفظه، وسطحه ليس غوره، إنه عبارة عن حشود من الأبعاد المتناوبة، بعضها يطفح به السطح، فيما يظل البعض الآخر رابضا في العمق، متسترا يستعصي على المسك وينتظر الكشف. وبذلك فإن قراءة النص بالاستناد إلى منهج مسبق معلوم أو نظرية محددة مسقطة عليه من خارجه، أمر في غاية الخطورة، إذ أنه يجعل الدارس يمارس على النص نوعا من القهر والإقصاء، إذ الدارس سيبحث فيه عما يفي بحاجات ذلك المنهج المسبق،
و ما يستجيب لرغبات تلك النظرية سواء كانت تلك النظرية مستمدة من نظرية العرب القدامى في الشعر والشعرية أو وافدة من المناهج المبتدعة في الثقافة الأوروبية، ويكون وقتها قد ألغى النص فيما هو يدعي أنه إنما يقوم بقراءته ومحاصرة شعريته.
ومن هنا يتبين لنا أن القراءة ليست فعلا بريئا، وينكشف لنا في الآن نفسه أنها عبارة عن فعل لا يمكن أن يفتح مجراه إلا داخل حشود من المخاطر تظل تترصده، وحشود من المزالق تظل تجتذبه من المحتمل أن يتردى فيها، فيمكن أن تمارس القراءة على شعرية النص المدروس ضربا من الحجب في أغلب الأحيان، فيما هي تدعي الكشف عنها، " ذلك أن شرط تشكل النقد وشرط نهوضه كإسهام في عملية الإبداع إنما هو الوقوع على سر قوة النص المدروس والوقوف على مكوناته البانية لشعريته وحركاته الحاضنة لهويته، حركات رموزه وصوره وإيقاعه ". (9) وكذلك " إن القراءة ليست مجرد شرح للنص المدروس أو تقييم له، بل إنها تعني الوقوف عند الأسئلة المركزية التي يثيرها حضور نص ما في ثقافة ما عبر مجمل تاريخها". (10)
و من هنا " إن النص الشعري الأصيل المؤسس سواء كان قديما أو معاصرا إشكالي بطبيعته، إنه بمعنى أكثر وضوحا يمتلك طريقتين في الوجود والحضور:
الطريقة الأولى هي التي بموجبها يكون متنزلا في التاريخ مستجيباً لمتطلبات لحظته التاريخية، وهذا بالتدقيق ما يجعله يفي بحاجات معاصريه، إنه يتضمن من الأبعاد حشوداً تفي بمتطلبات تلك اللحظة، تأتي الطريقة الثانية متناقضة للأولى تماماً وهي التي تؤمن للنص بقاءه واستمراره، فلا يطاله البلى، وتضمن له الإفلات من سلطان التاريخ فيوجد تبعاً لذلك وجوداً لا تاريخيا... يظل يفتن قراءه ومتلقيه عبر أكثر من عصر هذا ما يفسر بقاء نصوص امرئ القيس والمتنبي والمعري مثلا، واستمرارها عالقة من ذاتنا كالوشم في قاعها، دائمة الفعل... تفتن شعراء الحداثة أنفسهم " (11)
و بالتالي يصعب تحديد مفهوم القراءة، ذلك أن (القراءة) مصطلح بعيد عن التحديد والانضباط، وهي تتراوح بين تهجي الحروف، وقراءة الأدب عبر مستويات متعددة: فقارئ التسلية يعد قارئاً، وكذلك قارئ الروايات البوليسية، وقارئ الفلسفة، وقارئ الكتاب المدرسي، ولكن نتائج هذه القراءات تختلف، ومع تسليمنا بضرورة القراءة في أي مجال كان، وفي أي زمان ومكان، فإننا ندعو(القراءة الفاحصة) الصبورة، المتأملة الكاشفة عن القيم اللغوية والوصفية في النص الأدبي، وعن الرموز المستخدمة فيه، وعن المعنى الحقيقي الكامن في النص، وعندئذ نكون قد امتلكنا النص، بعد أن يكون هو قد امتلكنا في مرحلة القراءة، وبالطبع فإن هذه القراءة الصعبة ينبغي أن ترفدها ثقافة واسعة.
هكذا يمكن القول إن القراءة إذا لم تتم على نحو من التأمل، والشرود، والتذكر، والتداعي، فهي ليست أكثر من تتبع للسواد على البياض أو التقاط لأفكار النص فحسب، والمطلوب هو أن تكون الكلمات المكتوبة محرضاً ومثيراً لانطلاق الفكر والذهن في آفاق المعرفة وراء تفرعات الموضوع، أما الاكتفاء بما هو مكتوب، فليس أكثر من قراءة أحادية تستمد دون أن تتفاعل، وتذخر من أجل قراءات مستقبلية.
إن " القراءة" الواعية للنص الأدبي هي وحدها القادرة على سبر كوامنه عن طريق تفكيك جسد النص، من أجل إعادة بنائه من جديد، وبشكل آخر، ومثل هذه القراءة، وإن اعتمدت التذوق الجمالي، فإنها ترفض الانطباعية الساذجة، وتعتمد الموضوعية، من أجل اكتشاف جماليات النص ومفاتنه " وهكذا تتداخل في نظرية القراءة ثلاثة حقول هي:
1- (النص): باعتباره مجموعة من الدوال التي ينبغي تأويلها ذلك أن النص لا وجود له إلا بوجود القراءة، M.Otten وإن التأويل لا يبدأ إلا بعد أن يستحوذ القارئ على النص، ويرى ميشيل أوتان. في مقاله (سيميائية القراءة) أن ما يحسن تحديده في النص يتمحور حول قطبين هما: مواضع اليقين، ومواضع الشك، أما مواضع اليقين فيه الأمكنة الأكثر وضوحا وجلاء في النص، وهي التي ينطلق منها القارئ لبناء التأويل، وتختلف مواضع اليقين باختلاف العصور الأدبية، وباختلاف سياقات التلقي (12).
2-(نص القارئ): المكون من نصوص سابقة ومعاصرة، ومن رموز لا متناهية أصلها موجود أو مفقود، فكل معارف القارئ ورموزه ورغباته تشترك في عملية التأويل التي تعقب القراءة، وإذا كان التصور الكلاسيكي للقارئ يركز على ضرورة السيطرة على الرمز اللغوي، فإن المنظور المعاصر للقراءة يظهر قصور هذا الموقف، على اعتبار أن لغة الأدب هي لغة (رمزية) يشيع فيها الاستشهاد والمحاكاة، وأن القارئ مدفوع إلى استخدام مجموعة غير محددة من الرموز الثقافية التي تشكل جزءاً كامناً في(نص القارئ).
3-(العلاقة بين النص والقارئ): فمن خلالها يتم توضيح هذا اللقاء، واستخلاص النتائج وتفسير الدلالات، وفهم أي نص يقتضي فرضية تتضمن أن هناك معرفة ضمنية بالنص، أو بمجموعة من النصوص السابقة المقروءة والمفهومة من قبل.
وللقراءة جانبان: وجداني و إدراكي، وقراءة العمل الأدبي تتم بمشاركة هذين الجانبين،
ومعلوم أننا لا نستطيع أن نستمر في قراءة العمل الأدبي إذا لم نشعر بشيء من الاندماج الوجداني معه، ونحس بأننا مشاركون فيه، كمعجبين أو ساخطين. و هذه المشاركة الوجدانية هي(إدراك) في الوقت نفسه " (13).
ومن هنا تصبح القراءة عملاً إبداعياً يوازي إبداع النص نفسه. ولهذا طالب النقاد بقراء ممتازين فقال أيزر بـ (القارئ الضمني أو المضمر)، وقال وولف بـ (القارئ المرتقب) الذي يضعه الكاتب في اعتباره أثناء الكتابة، وطالب ريفاتير بـ(القارئ المتفوق) وفيش بـ(القارئ المثالي)، وبارت بـ(القارئ غير البريء) الذي يختزن عدداً لا نهائياً من النصوص والإشارات، والواقع أن القارئ هو مفتاح الأثر الأدبي الخالد الذي لا يستمر خلوده إلا لأنه يظل قادراً على إحداث ردود فعل واقتراح تأويلات لدى القراء، فخلود الآثار الأدبية يأتي من فاعليتها في نفوس القراء في كل زمان ومكان.
" فالقراءة عملية بصرية ذهنية تحول الرمز صورة والسياق معنى، والمعنى معان، فثمة معنى لكل حالة، زد على ذلك تبدل الدلالة في الاقتران، مثلا(آه من شوقي) تتبدل دلالة هذه العبارة بالاقتران، فإذا قيلت للأب، إذا قيلت للأخت الصغرى، للزميلة، للخطيبة، فالسياق يغير شحنات الدلالة، فلا بد من مناسبة بين القراءة والدلالة، باعتداد المعنى حصيلة التقاء نصين اثنين: نص القراءة، نص القارئ، ففعل القراءة عملية ممارسة يتفاعل القارئ مع النص استنادا إلى معارفه وتقاليده ورغبته أيضا، بحيث تجري القراءة وفق المستويات التالية:
1- النص في حد ذاته بوصفه مجموعة دوال ينبغي تأويلها.
2 - نص القارئ باعتداده نصا.
3- التقاء النص وقارئه لإنتاج الدلالة ". (14)
ولقد تطرق حبيب مونسي بخرجة أخرى في كتابه " فعل القراءة – النشأة والتحول " إلى استنباط تعدد القراءة في قوله: " لقد عرض القرآن الكريم طبيعة هذا الفهم في آيات كريمات، وفي قوله عز وجل " والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون " (15) ويترتب الشكر على نعمة مسداة. ولم يقدم الله - عز وجل - المعرفة جاهزة، وإنما قدم منافذها حساسة، ورتب أولوياتها، فجعلها سمعاً يشترك فيه جميع الناس أمام الصوت، وجعلها أبصاراً تتعدد للمنظور الواحد من طرف الفئة من الناس، وكأن كل بصر سيسلك زاوية خاصة تجعل إبصاره خاصا به، يختلف عن غيره، وكما عدد البصر عدد الأفئدة لأنها مناط الخصوصية في كل ذات، بيد أن ما يجعلنا نعتقد أنها منافذ قراءة أولية، هو مقابلها لدلالات محايثة لها على النحو التالي:
- السمع التلقي(الخبر– الرواية – المشافهة...)
- الأبصار القراءة( الخط – العلامة – النصية...)
- الأفئدة الفقه(معرفة الأسباب، وإدراك العلل...)
ولم يجعل الله - عز وجل - هذا اللون من القراءة مرتبطاً بمكتوب، ولكنه ربطه بالعلم (لا تعلمون شيئاً) وسبق القراءة - على هذا النحو - يجعل الكتابة تقييداً في حدود الخط، وضيق مجاله " (16)
و الناتج أن " القراءة " تستوجب بدورها " قراءة " اصطلح عليها" تحليل عملية الفهم" في نظريات التلقي، والتي هي أقرب ما تكون إلى " تاريخ الأدب " بصورة جديدة وأقرب ما تكون إلى التحليل النفسي للذهنيات والمواقف والفهم.
هكذا نرى أن مفهوم القراءة غير محدد نظريا ومنهجياً، ولا يمكن تعرفه أو التعريف به إلا ضمن حالة إنجاز تترجم علاقة ما بالنص، فهو تبعاً لذلك لا يخصص النقد بمنهج أو نظرية، ولكنه يقحمه في مجالات تحاول أن تشمل النقد أو تريد من النقد أن يحتويها، مما يضيف إلى الإشكال الأصلي تعقيدات جديدة أقوى مظاهرها دخول مصطلح " النقد" ضمن شبكة مفهومية خاصة بمصطلح " القراءة " وهذه الشبكة الدالة على إمكانات تعريف إذا اقترنت بالنقد خلقت احتمالات القول:
1- بالترادف: إن النقد قراءة والقراءة نقد؛
2- التماهي: لا وجود لقراءة دون اعتبارها نقداً، ولا وجود لنقد إلا لأنه قراءة؛
3- التفرع: القراءة شكل من النقد، والنقد شكل من أشكال القراءة؛
4- التعارض: القراءة بديل النقد؛
5- الخلافية: القراءة ممارسة لا صلة لها بالنقد، ممارسة علمية نوعية.
إن هذه الاحتمالات يمكن أن يحتملها النقد ويدعمها بسبب الإشكال الأصلي الذي شرحناه سابقاً، ولعل تواتر مصطلح قراءة في تسمية عدد من الممارسات التي تنتسب إلى النقد ما يؤكد ذلك، بحيث تصير " القراءة " عدة وأجهزة للنقد، وللتعامل مع النقد نفسه لقراءة القراءة (17)
ومن ثم فمفهوم القراءة متعدد ليس له أدوات واضحة ولا مرجعية قارة، ولا موضوع خاص، ويمكن أن يظهر في كل مرة ضمن احتمال مفهومي ضمن الاحتمالات المذكورة، مما يعني أن اقترانه بالنقد يزيد في تقوية درجة الإشكال ولا يحله قط، وجلاه في صورة بدائل مثل: قراءة تشريحية، قراءة سيميولوجية، قراءة بنيوية، قراءة نقدية، قراءة سياسية، قراءة سوسيولوجية، قراءة أسلوبية، قراءة موضوعاتية... الخ... وكل قراءة تعمل ضمن خطاطة أولية:
القارئ النص القراءة النص
ثقافة النص(صورة أولى) قراءة نفسية
رصيد مرجعية - مقومات قراءة اجتماعية صورة ثانية
آليات - عناصر قراءة لغوية
سياق قراءة سياسية
استيراتيجية أفق انتظار قراءة تشريحية
أهداف
هذا إضافة إلى أن كلمة قراءة حظيت ببريق خاص تنعكس عليه آثار الحداثة النقدية الغربية التي أغرت عدداً من النقاد العرب ومنظري النقد بالاهتمام بالقراءة ونماذج القراءة، مما سرب إلى النقد العربي مفاهيم توتر المعرفة النقدية، وخاصة حين شغف عدد من الدارسين والكتاب بتقديم خطابات لتعريف القراءة، والقراءة النقدية على وجه مخصوص.
" إن هذا النوع من خطابات التعريف لقضايا القراءة ومناهجها، اكتفى بخطاب العرض وتقديم التصورات الأساسية المتداولة في الآداب الأوروبية وخصوصاً لدى الذين مارسوا أنواع القراءة من أمثال " رولان بارت" في كتابه S/Z ومقالات "طودوروف" و " ريفاتير"، وعرجوا بعد ذلك على أنواع أخرى من القراءات التي تعاملت مع النص من منظور سوسيولوجي(إسكاربيت) أو سوسيولوجي تكويني (غولدمان) أو سياسي(لينهارت)، وانتـهت أحياناً إلى مدرسـة كونستـاس ممثـلة في
الباحثين الألمان أمثال " ياووس" و" ايزر" (18).
إن التعدد الذي يتحقق من " القراءة " هو تعدد مقاربات أي خلق قراءات، كل واحدة متفردة بأسئلتها ورؤيتها وأدواتها، غير ملزمة بشروط مسبقة سوى ما يمكن أن يبوح به النص، فهي قراءة متفردة بنصها وقواعدها الخاصة التي تعطيها المعقولية.
وكون القراءة هنا – ترجمة اكتشاف " النص" - فهي تحاول أن تميز نفسها على أشكال النقد المألوفة التقويمية والتفسيرية، لكنها لا تبتعد كثيراً عنها ولا تؤسس منهجا يمكن اقتفاؤه ورسم حركته بالضبط ، لأنها تفتقر إلى أدوات واضحة، ولا تسمي إجراءاتها بدقة، فهي قراءة واقفة بين النقد التقليدي والنقد البنيوي الشكلي، وتجتمع فيها القيمة والشكل أو التشكيل الجمالي والمعرفة، إذ الاكتشاف ليس منهجاً وإنما هو غاية تتأثر بأساليب وإجراءات لا حصر لها " ويقتضي ربطه بآليات منهجية مخصوصة كالتي يقترحها من يتبنى البنيوية كما هي، أو يتبنى التشريحية كما يفهمها، فتكون القراءة جملة خطوات منهجية مثل:
1- قراءة عامة لكل أعمال الشاعر، وهي استكشافية تذوقية؛
2- قراءة تذوقية(نقدية) مصحوبة برصد المحاولات مع محاولة اسـتنباط النماذج الأساسية التي تمثل(صوتيمات) العمل، أي النوى الأساسية؛
3- قراءة نقدية تعمد إلى فحص " النماذج " بمعارضتها مع العمل، على أنها كلمات شمولية تتحكم في تصريف جزئيات العمل الكامل الذي هو مجموع ما كتبه الشاعر؛
4- دراسة النماذج على أنها وحدات كلية؛
5- وبعد ذلك تأتي الكتابة، وهي إعادة البناء التي يتحقق بها النقد التركيبي، إذ يصبح النص هو التفسير والتفسير هو النص ". (19) و هكذا يمكننا أن ندعي أن مفهوم " قراءة القراءة " إلى يومنا هذا ما زال مفهوما يشيد ويبنى. فهو في بدء الأمر وغايته، مثل كل المفاهيم التي لها حياة تنتقل من التسميات والتصورات العامة، وتمر بمراحل الصقل والاختبار قبل أن تستقر على مدلول اصطلاحي مخصص .
فـ " نقد القراءة، هذه مسألة تكاد تكون غائبة عن مجال اهتمامنا الأدبي. وفي ظني أنها قضية أساسية ملحة لا بكونها نوعا من نقد النقد وحسب، بل إن للقراءة أيضا جماليات خاصة تفقد - حتى تفقدها - جدواها وقيمتها ". (20)
مستويات القراءة
قبل التطرق إلى آلية هذه القراءة، لابد أن نقف عند بعض القضايا و التي توضح لنا المعالم العامة لعملية القراءة والشرح، وتكون معبرا للوصول إلى هذه الآليات التي وظفها الشارح في عمله، فلنا أن نتساءل كيف تتم عملية القراءة (شرح)؟، ما هي مكانة المتلقي ودوره في إبداع النص الأدبي؟.
فكانت الشروح الشعرية، ومازلت موردا خصبا للنقاد ولدارسي الأدب، يرجعون إليها كلما دعتهم إلى ذلك ضرورة، بل لنقل إنها من أهم مصادر التراث الذي خلفه السابقون، ويمكن العودة إليه عند القيام بأية دراسة، لأن للاتجاهات التي قادته دورا مهما في إثرائه، وللرجال الذين اهتموا بهذه الاتجاهات دور هام كذلك، فهناك من اهتم بجانب النحو كالنحاس، وهناك من اعتنى باللغة كابن الأنباري، وهناك من كان اتجاهه نقديا أكثر من باقي الاتجاهات كالمرزوقي وغيره، وعلى الرغم من هذا فإننا لانعدم عند أي طرف جانبا من تلك الاتجاهات، فشروح المرزوقي على سبيل المثال حوت اللغة والنحو وأمورا أخرى. (21)
وهكذا تتعدد مستويات القراءة من قارئ إلى آخر، حسب ثقافة القارئ الفنية، وخبرته الجمالية، حتى لقد قيل إن هناك عددا من القراءات يساوي عدد القراء أنفسهم، بل إن بعضهم ليذهب إلى أن القارئ الواحد نفسه يقدم في كل قراءة قراءة جديدة تختلف عن قراءته الأولى، وذلك بحسب الزمان والمكان والسن، ويؤكد تودوروف أن القراءة كفعالية موضوعها النص، وهدفها إظهار أنساقه وبنياته، ووظيفتها، ينبغي ألا تقتصر على تقديم اهتمام متساو بجميع عناصر النص، بل ينبغي أن تعطي اهتماما أكثر لبؤر النص المهيمنة،
لا انطلاقا من موقعها في نفس المؤلف، أو اعتمادا على معايير خارجية، وإنما من دورها في النص الأدبي. وإذا كان الأدب لا يتحقق إلا بالقارئ، فإن القراءة تصبح عملية تقرير مصيري بالنسبة للنص، ومصير النص إنما يتحدد حسب استقبال القارئ له، والقراءة فعالية ثقافية ذات نوعية هامة، ومادام ينتج عنها تقرير مصير النص، فإن من الضرورة أن نعرف أنواعها التي تستطيع تحقيق مهمتها بقدر من الكفاءة يؤهلها للحكم الصحيح.
"ولعل إسهام تودوروف في مقالة(كيف نقرأ؟)(تودوروف– شعرية النثر ص: 235)
لا يقل عن إسهام بارت في هذا المجال، وقد عرض تودوروف ثلاثة أنوع من القراءة هي:
1- القراءة الإسقاطية: Projectivité وهي نوع من القراءة التقليدية، لا ترتكز على النص، ولكنها تمر من خلاله، ومن فوقه، متجهة نحو المؤلف، أو المجتمع، وتعامل النص كأنه وثيقة لإثبات قضية شخصية أو اجتماعية أو تاريخية، والقارئ فيها يلعب
دور المدعي العام الذي يحاول إثبات التهمة.
2- قراءة الشرح أو التعليق: Commentary وهي قراءة تلتزم بالنص، ولكنها تأخذ منه ظاهر معناه فقط، وتعطي المعنى الظاهري حصانة يرتفع بها فوق الكلمات، ولذا فإن شرح النص فيها يكون بوضع كلمات بديلة أو تكريراً ساذجاً يجتر نفس الكلمات بخلاف القراءة التي تقوم على عبور النص إلى ما وراءه.
3- القراءة الشاعرية: Poetica وهي قراءة النص من خلال شفراته، بناء على معطيات سياقه الفني. والنص هنا خلية حية تتحرك من داخلها، مندفعة بقوة لا ترد لتكسر كل الحواجز بين النصوص، والقراءة الشاعرية تسعى إلى كشف ما هو في باطن النص، لتقرأ فيه أبعد مما هو في لفظه. وهذا ما يجعلها أقدر على تجلية حقائق
التجربة الأدبية، وعلى إثراء معطيات اللغة. (22)
القراءة التفسيرية
(قراءة الشرح=الناقد أكبر من النص)
القراءة التأويلية القراءة الإسقاطية
(النص يحتمل أكثر من قراءة ) ( الناقد يفترض النتيجة قبل السبب )
قد نجد هذه الأنواع الثلاثة في شرح واحد، يجول الشارح بينها، فتارة يفسر ويشرح، وتارة يحكم ويقرر، وتارة أخرى يحتمل ويقترح...
ولا يمكنه الاستغناء عن هذه الثلاثة، فلا بد أن يمر عليها ولو عرضاً، وتلتمسها في الشروحات.
وهكذا تبدو القراءة جهداً تحويليا يتمثل الرموز والعلامات. وتبدو القراءة العميقة التي ينبغي التفسير اجتهاداً وفتحاً وانتهاكاً، ويبدو النص غير ذي وجود بمعزل عن القارئ الذي يعطيه قيمته عندما يفك مغاليقه، لقد أصبح للقراءة ثقلها في إبراز هوية النص وتجسيد بنيته. فالنص نداء والقراءة تلبية لهذا النداء. وقد تدرج الاهتمام بالقراءة من مركزية مؤلف النص وعصره، ومن تصور القارئ مستهلكاً للنص في المناهج النقدية التي تدرس الأدب من خارجه، إلى نقل هذه المركزية إلى النص وحده، لينفعل به القارئ كما في المناهج النقدية ما بعد الحداثية، تلك التي لم تعد ترى القراءة مسحاً بصرياً للنص، أو تفسيراً معجمياً لألفاظه، أو استنباطا لمعانيه. وإنما هي فعل خلاق ونشاط إبداعي كالكتابة نفسها.
لقد جاء الاهتمام بالمتلقي ودوره الفاعل في إبداع النص الأدبي رد فعل على هيمنة المؤلف في المناهج النقدية الحديثة، وعلى سلطة النص في المناهج المعاصرة، فتنبه نقاد(ما بعد الحداثة) إلى أهمية القارئ، على الرغم من أن بذور هذا الاهتمام قد وجدت قبل هذا لدى ت. س. إليوت الذي يقول: "إن وجود القصيدة هو في منطقة ما بين الشاعر والقارئ." (23) ولدى سارتر الذي شبه العمل الأدبي بخذروف دوار بين المؤلف والقارئ. (24) ورأى أن القارئ يكشف ويخلق في الوقت نفسه، فيكشف بوساطة الخلق، ويخلق بوساطة الكشف. والعمل الأدبي بالنسبة للقارئ معين لا ينضب.
والقارئ يقرأ ويعيد القراءة دون أن يمسك بالمقروء بشكل نهائي. والعمـل الأدبي ذاته قابل للخلق بوساطة القراءة.ودون قراءة يظل العمل الأدبي مجرد علامات على الورق.
وهكذا حظيت عملية القراءة في هذا العصر باهتمام لم تحظ به من قبل، في النقد القديم، على يد النقاد الألمان، والبنيويين الفرنسيين. ثم جاء التفكيكيون فأخذوا بمقولة بارت (موت الكاتب) ليبقى القارئ وحده، وجهاً لوجه، أمام النص الأدبي، وقالوا إن كل قراءة هي أساءة قراءة، تلغيها القراءة التالية. وإن كل تفسير هو تفسير خاطئ يلغيه التفسير اللاحق.
وهكذا انتقلت سلطة الأدب من (الكاتب) و(النص) إلى (القارئ) الرأس الثالث للمثلث الذهبي الأدبي. بعد أن أعلن "موت الكاتب". هكذا أصبح النص لا وجود له دون قارئ يمنحه بنياته وعلاقاته ودلالته، وأصبح النص بناء ينتظر القارئ الذي يخلق منه الذي يريده، ولم يعد القارئ مجرد متلق سلبي، أو مستهلك خاضع لسلطة النص، وإنما هو خالق النص. وبهذا تصبح القراءة عملية إنتاجية، لا عملية تلق دون فعل، ولهذا جاءت (جماليات التلقي) لتؤكد تعدد قراءات النص الواحد، ولا نهائية دلالته، حتى لدى القارئ الواحد.
ومن هنا نقول كذلك: هل يقرأ قارئ الشعر من أجل أن يفهم شيئاً معينا؟، أومن أجل أن يعمق معرفته، ويوسع ثقافته؟ أم يقرأ من أجل صقل ذوقه، وإمتاع روحه، وإيناس قلبه؟ أم أنه يقرأ الشعر من أجل أن يتناص، ويتشرب، ويتساءل ويملأ الفراغ الذي لم يتمكن النص المقروء من ملئه، ويبحث– مع الشاعر– عن النص الغائب وعن اللامقول وعن اللامفكر فيه أثناء الكتابة؟
وكثيراً ما يقع الاختلاف بين التأويل بحثاً عن مقصدية التأليف (الناص)، وبين التأويل من حيث هو بحث عن مقصدية الإبداع (النص)، وبين التأويل من حيث هو فرض- أو إملاء- لمقصدية القراءة (تلقي النص).
ويحتدم النقاش الكلاسيكي من حول الاختلاف بين برنامجين اثنين:
ا- هل يجب البحث في النص كما كان المؤلف يريد قوله؟
ب- أم هل يجب البحث في النص كما يقوله المؤلف فعلاً، بمعزل عن مقصديات هذا المؤلف؟ وإذا وقع التسليم بالاحتمال الثاني، فإن الاعتراض سيحدث حينئذ بين:
ا- هل يجب أن نبحث في النص كما يقوله هو بالإحالة على نسقه السياقي، وبالإحالة على وضع أنساق الدلالة التي يحيل عليها؟
ب- أم هل يجب البحث في النص كما يجده فيه المتلقي بالإحالة على أنساق دلالته، و/أو بالإحالة على رغباته، أو ميوله، أو مشيئاته؟
وإن من الجائز وجود جماليات للاتأويلية القائمة على محدودية النص الشعري المتوافق مع سيميائية التأويل المرتبطة بمقصدية المؤلف. كما يمكن أن توجد سيميائية للتأويل القائم على أحادية النصوص التي تنفي على كل حال الوفاء لمقصدية المؤلف مع حق الإحالة على مقصدية الإبداع.
وفعلا، فإنه يمكن قراءة نص ما، على أساس أنه قابل للتأويل إلى ما لا نهاية له من الوجوه، بينما مؤلفه لم يقدمه إلا على أساس أنه وحيد المعنى، كما هو الحال بالقياس إلى قراءة جاك دريدا لنص صارل. كما يمكن قراءة نص ما على أنه قابل للتأويل إلى ما لا نهاية بينما هو وحيد المعنى فيما يعود إلى مقصدية الإبداع. بينما يمكن قراءة نص ما على أنه وحيد المعنى من حيث كان مؤلفه يريد أن يؤول بلا حدود. ويمكن قراءة نص مفتوح على أساس أنه وحيد
المعنى، وتخضعه مع ذلك لتأويلات مختلفة من حيث وجهة نظر مقصدية الإبداع. (25)
ويمكن أن نستنتج من هذه الصور المتعددة لتأويلية النص عبر مراحله المختلفات، أن القراءة الأدبية ما يكون ليكون لها حدود معينة تنتهي لديها، كما يزعم ذلك "ڤريماس".
إن النص الخصيب مفتوح على عدة قراءات والتي كلما توالت عليه زادته خصوبة وأعماقا وأبعادا وغزارة... وثراء. (26)
وهذا يعني أن كل قراءة تؤدي بالضرورة إلى إبداع (نص)– شفوي أو كتابي– يبوح عن نفسه ويستدعي قراءة للكشف عن كنهه. والنص– كما يقول ثعلب في المجالس:- (النص كشف وإظهار، وكل مظهر فهو منصوص)، فالنص من هذا المنظور: كشف وإظهار، ويأتي الدارس أو الناقد ليقوم بكشف الكشف، أي بالقراءة،
وهذه الثنائية على غرار ما ذهب إليه عبد المالك مرتاض ومونسي حبيب متبادلة الأسبقية، فقد أنطلق من القراءة لأبدع نصا، وقد أنطلق من الكتابة لأقرأ نصا، غير أن
هذه الثنائية تظهر في شكل معادلتين متعاكستين على النحو التالي:
فكر(تحليل الظاهرة) + قراءة ـــــــ نص(كتابة)
نص(كتابة) + قراءة ـــــــــــ فكر ( تحليل)
وهذا يعني أن القراءة في المعادلة الأولى هي التركيب الإبداعي، وفي الثانية هي التحليل الكشفي. (27)
الهوامش
1 - أدونيس – سياسة الشعر – دار الآداب – بيروت 1985 ص: 49.
2- ينظر: محمد تحريشي– النقد الأدبي في شروح الشعر العربي ص: 45.
3- عبد الملك مرتاض- التحليل السيميائي للخطاب الشعري– مجلة علامات ج5 م2ص:145-1992
4- عبد الملك مرتاض –النص الأدبي ص: 42.
5- عبد المالك مرتاض – النص الأدبي ص: 53.
6-عبد المالك مرتاض – القراءة بين قيد النظرية وحرية التلقي ص: 15.
7-حميد لحميداني– مستويات التلقي، القصة القصيرة نموذجا مجلة، دراسات سيميائية أدبية عدد:6 –1992 المغرب ص:99.
8 – ينظر: حبيب مونسي – كتاب فعل النشأة والتحول ص: 152، 153
9- عبد الملك مرتاض – القصة في الأدب العربي ص: 184.
10- محمد لطفي اليوسفي – كتاب المتاهات والتلاشي في النقد والشعر ص: 05.
11- محمد لطفي اليوسفي – كتاب المتاهات والتلاشي في النقد والشعر ص: 06، 07.
12- نفسه ص: 07.
13 - محمد لطفي اليوسفي- كتاب المتاهات والتلاشي في النقد والشعر ص: 08.
14- ميشيل أوتان: (ترجمة: محمد خير البقاعي مجلة البحرين الثقافية عدد 06 عام 1995)
15 - محمد عزام – النقد بين النص والتلقي – جريدة الأسبوع الأدبي العدد 920 تاريخ : 21/08/2004.
16 - عبد الله الصائغ – الخطاب الإبداعي الجاهلي والصورة الفنية ص: 293.
17- سورة النحل - الآية: 78.
18- حبيب مونسي – كتاب فعل القراءة – النشأة والتحول ص: 155، 156.
19 - محمد الدغمومي – نقد النقد و تنظير النقد العربي المعاصر ص: 272.
20 - محمد الدغمومي – نقد النقد ص: 274.
21 - عبد الله محمد الغذامي- الخطيئة والتكفير – نادي جدة الأدبي – جدة 1985 ص: 89.
22- ينظر: تودوروف- الأدب الفرنسي اليوم، جامعة كمبردج 1982 وكذلك محمد عزام– النقد بين النص والتلقي.
23- ت. س. إليوت– فائدة الشعر وفائدة النقد، تر: يوسف نور عوض، بيروت 1982 ص: 38.
24- سارتر- الأدب الملتزم، تر: جورج طرابيشي، بيروت 1961 ص: 120
25- عبد المالك مرتاض– مجلة إبداع ص: 8 العدد: الثالث 1996.
26-جان بول سارتر– ما الأدب، استشهد به حسين الواد ص: 56.
27- جيلالي حلام– في القراءة والمنهج، مجلة إبداع ص: 60.