الأدب والأدباء في سورية

محمد الحسناوي رحمه الله

موضوع الأدب والأدباء في سورية يلزمنا النظر إليه من خلال علاقته بالدولة، لا لأن الدولة الحديثة اليوم تدخل في شؤون الحياة العامة والخاصة أكثر من الدولة القديمة، بل لأن الدولة الشمولية تضطرنا إلى الأخذ بهذا المنهج، فالأدب في سورية اليوم – شئنا أم أبينا – مندرج تحت نوعين: أدب الحماية: أي الأدب الناطق – بشكل أو بآخر – بلسان النظام الحاكم، وأدب الممانعة: أي الأدب الذي يرفض هذا النظام ويختلف معه – بشكل أو بآخر.

نحن معفون من الحديث عن أدب الحماية في القطر السوري لا لأنه ناقص الجودة مطعون في قيمته الخلقية، بل لأنه أيضاً يتمتع بالتنوع والانتشار (بفضل) آلة الدولة الإعلامية، والمؤسسات الرسمية والدعم المالي والمعنوي غير المحدودين.

أدب الممانعة في سورية

هل هذا هو وجه سورية الحقيقي أو الأبيض؟ إنه في الفن أبيض ولو كان مصنوعاً من مواد الظلام والآلام والمرارات، وقد قيل: إن الأدب الروسي الذي سبق الثورة البلشفية ومهد لها أفضل منه بعد الثورة كأدب تولستوي وغوغول وغوركي ودستويفسكي، كما قيل عن أدباء الثورة الفرنسية كورنيه وموليير وهوغو وراسين.... القول نفسه.

وفي أدب القطر السوري يمكن أن نميز ثلاثة أجيال من الأدباء، الأول: الأدباء المقاومون للاحتلال الفرنسي ومعاصروهم (1920 – 1946م)، والثاني: أدب عهد الاستقلال (1946 – 1963م). والثالث: الأدب في عهد (البعث) الحاكم (1963 – 2006م).

وإذا قارنا بين أعلام الأدب السوري في الأجيال الثلاثة وجدنا أن جيل عهد الاحتلال الفرنسي (ربع قرن) أوفر عدداً وأبعد أثراً، وأكثر شهرة من أدباء العهدين التاليين، ولاسيما العهد الأخير الذي بلغ حتى الآن نصف قرن!! نذكر على سبيل التمثيل من العهد الأول: عمر أبو ريشة، وبدوي الجبل، وشفيق جبري، وأمجد الطرابلسي، وسامي البارودي، وخليل مردم، وأنور العطار وخير الدين الزركلي (انظر كتاب شعراء الحماسة في بلاد الشام – لأمجد الطرابلسي) ومحمد كرد علي، وعبد القادر المبارك، ومعروف الأرناؤوط، ووداد سكاكيني، وسلمى الحفار الكزيري، ونديمة المنقاري (انظر كتاب: الكاتبات السوريات – مروان المصري ومحمد علي وعلاني).

أما في عهد الاستقلال فلدينا علي الطنطاوي وعمر بهاء الدين الأميري ونزار قباني وسليمان العيسى وعبد السلام العجيلي وحنا مينة ومحمد المجذوب وفاضل السباعي وغادة السمان ومحمد الماغوط.

أما العهد الأخير فدون ذلك، كما نقدر، وسوف نتناول بعضاً منه.

على وفرة أدب (الممانعة) وخصبه وتنوعه سوف تصادفنا عقبة الوصول إليه، لأنه ممنوع أولاً، ولأن بعض أدبائه مضطرون لوأده أو إخفائه خشية المصادرة أو العقوبة، ولأن خيوط التواصل تكاد تكون مقطوعة لأسباب متعددة منها: إجراءات الأجهزة (القمعية) التي أشاعت الشك والحذر، وتصدعات المجتمع السوري الذي بات أشبه بـ (غيتوات) منغلقة على نفسها.

ومع تحرك الوعي السياسي مؤخراً باتجاه (الوحدة الوطنية) والتقاء الطيف المعارض حول هدف واحد (التغيير الشامل) فإن الأمل قريب بأن يفرج عن المخطوطات والمؤلفات الموءودة أو المؤجلة، وأن يصل الدارسون والنقاد والجمهور إلى هذا الأدب المبعثر المشتت.

ولما كان أدب الممانعة لا يقل حجماً عن أدب الحماية أو الموالاة مع الفارق في الجودة والصدق، نختار الزوايا التالية للحديث عن جوانب هذا الأدب.

الرقابة

في كتاب عن (انتهاكات حقوق الإنسان في سورية لعام 1990م) وهو (تقرير منظمة رقيب الشرق الأوسط) فصل خاص (الكتب والكتاب) من إحدى عشرة صفحة فيه توثيق لحال الرقابة على الأدب والأدباء في سورية، منها: تحويل اتحاد الكتاب – وهو في الأصل نقابة – إلى مؤسسة حزبية. اشتراك اتحاد الكتاب ووزارة الثقافة – بوصفهما ناشرين رسميين بالرقابة على المطبوعات. يجب أن يوافق الحزب الحاكم على كل مرشح لعضوية اللجنة التنفيذية إلا أربعة مقاعد تترك لأعضاء الجبهة التقدمية والمستقلين.

عام 1989م منعت السلطات علي عقلة عرسان رئيس اتحاد الكتاب من حضور مؤتمر يعقد في بغداد لاتحاد عموم الكتاب العرب الذي يشغل فيه منصب نائب الرئيس... (انظر الصفحات 256 – 276). وذكر التقرير وقائع عن منع مؤلفات لممدوح عدوان. أو سفر شوقي بغدادي أو اختطاف خليل برير الكاتب السوري من لبنان، وعددت أسماء خمسة من الشعراء والقصاصين الذين اعتقلوا بسبب كتاباتهم وآرائهم.

أما مجلة (الآداب) اللبنانية (عدد 7 و 8 – 2002م) فقد نشرت ملفاً عن (الرقابة في سورية) من إعداد وتقديم (محمد جمال باروت) فيه أبحاث لـ (حسان عباس وفاضل الكواكبي وخضر الآغا) ومقابلة لـ (أنطون مقدسي) وشهادات لعدد من الكتاب نختار منها بعض العناوين المعبرة: (قصة إتلاف كتابي منذر مصري. تجربتي مع الرقابة – سيريس. تكتبون ما تريدون وننشر ما نريد – كيلو. وجهة نظر في رقابة الكتاب على الكتاب – حداد. من يصنع الوحش فينا – الذهبي، حكاية رقابة مزدوجة في الدار الخاصة والمؤسسة الثقافية بهيجة مصري. تريد أن تمنع الكاتب أم تعدمه؟ - عادل محمود).

أدب السجون

يكاد يكون سجن الرأي القاسم المشترك لأدباء الممانعة، يقول الشاعر فرج بيرقدار: في الواقع إن ما هو معروف من أدب السجون أقل بكثير مما لم يعرف، وذلك لخوف البعض من نشر ما كتبوه، أو لخوف الناشرين، أو لمنع السلطات نشر وتداول ما يكشف (عطاءاتها) الحقيقية التي اتحفت بها شعوبها، أعتقد أن المستقبل سيرشحنا. لأن نكون أصحاب أكبر تراث عالمي في أدب السجون كمّاً ونوعاً. ولعل هذا سيكون أحد أهم وجوه تفوقنا المعاصر في حقل ما، على صعيد المجتمع البشري، (موقع الرأي – 30/1/2005).

ويقول فايز سارة في مقالة له: "لقد كشف السوريون فيما كتبوه وانتجوه من أعمال إبداعية مكتوبة ومرئية جوانب ما أحاط بالاعتقال السياسي، فوصفوا تفاصيل عمليات الاعتقال، والتحقيقات التي تجري في أقبية فروع المخابرات، وتشمل استخدام أفظع أدوات التعذيب، وأبشع أساليب وأنواع العنف والقوة إلى جانب التهديدات وعمليات الابتزاز التي تشكل فصولاً ممتدة لفترة التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان وامتهان الكرامة البشرية". (الوسط – 29/4/2006م).

من أدباء السجون السورية الذين علمنا بهم حتى الآن:

الشعراء: فرج بيرقدار، من دواوينه، وما أنت وحدك – رقصة جديدة – في ساحة القلب – حمامة مطلقة الجناحين – تقاسيم أسيوية. محمد الحسناوي: في غيابة الجب. مروان حديد: ديوانه. علي صدر الدين البيانوني: من ذكريات الماضي.

الروائيون: حسيبة عبد الرحمن من مؤلفاتها: رواية (الشرنقة) تحكي تجربة الأنثى في الاعتقال، ومجموعة قصصية (سقط سهواً) ست من تسع حول تجربة السجن. سمر يزبك روايتها الأولى (صلصال) والثانية (طفلة السماء) تنتقد عسكريي الريف الذين خربوا المدينة والمدن لا الريفيين البسطاء، كما تنتقد الحزب الحاكم من الأساس. لؤي حسين كتابه (الفقد) مذكرات عن تجربة السجن ومحيطاتها. محمد الحسناوي روايته (خطوات في الليل) مثل ذلك. هبة الدباغ كتابها (خمس دقائق. تسع سنوات في سجن الأسد) تتحدث عن واقع المعتقلات.

القصاصون: جميل صموئيل من مجموعاته: (الخطو الثقيل) و (الوعر الأزرق). جميل حتمل: قاص راحل، في بعض قصصه حديث عن تجربته خلال الاعتقال.

أما الروائي فاضل السباعي – وهو أحد أعلام القصة والرواية في سورية – فقد دخل سجن الرأي وهو ليس بمنتسب إلى حزب من الأحزاب، ونشر عدداً من القصص القصيرة والروايات في أدب السجون والرقابة مثل رواية (بدر الزمان) ومجموعاته القصصية (آه... يا وطني) و(تقول الحكاية)... وعلى الرغم من اشتهاره بالقصص والروايات ذات الطابع العاطفي أو الرومانسي فإن مؤلفاته الأخيرة تكاد تختص بأدب الممانعة والسجون والمنافي.

أدب المنافي

إن الوضع العام الذي أنشأ الرقابة الصارمة / القاتلة وأدب السجون يستتبع نشوء أدب المنافي حيث يحاول الأدباء مكرهين مغادرة أوطانهم، ومرابع فتوتهم وشبابهم، حيث الأهل والأصدقاء والطبيعة الجميلة، إلى أماكن مجهولة عليهم، أو غريبة عنهم، أو غير مرحبة بهم، وظروف لاتقل معاناتها أحياناً عن مرارات السجون والرقابة أيضاً.

من شعراء المنافي: عمر بهاء الدين الأميري – حيدر غدير – محمد وليد – سليم عبد القادر – يحيى حاج يحيى – سليمان العيسى – محمود مفلح – محمد الحسناوي – مأمون شقفة – عبد الله عيسى السلامة – شريف قاسم – خالد البيطار – محمود دغيم – هادي دانيال – براء الأميري – هيفاء علوان – محمد راجح الأبرش – أحمد الخاني.

من القصاصين: شريف الراس – حسيب الكيالي – نوال الساعي – غادة الهيب – رهف المهندس – جلال عكاب اليحيى – محمد حسن بريغش – عبد الله الطنطاوي – نعماء محمد المجذوب – محمد السيد – محمد علي شاهين.

من النقاد: د. محمد علي الهاشمي – د. محمد عادل الهاشمي – د. عبد الباسط بدر – منير العكش – د. بسام ساعي – د. عبد القدوس أبو صالح – عبد الرزاق ديار باكرلي – د. محمد وليد قصاب – د. محمد الصباغ.

وسواهم كثيرون من الكتاب والمفكرين أمثال: عصام العطار – عبد الفتاح أبو غدة – د. حسن هويدي – د. برهان غليون – د. حبيب حداد – د. منير الغضبان – د. محمد العجلاني – د. عثمان عبد القادر مكانسي – د. نبيل الطويل – مطاع صفدي – زهير سالم – الطاهر إبراهيم – محيي الدين لاذقاني – أميمة الرجبي – محمد رشيد العويد – صبحي الحديدي – حمود الشوفي – عبد الحميد حاج خضر – محمود ترجمان – عبد الحميد الأتاسي – حميدة نعنع – هيثم مناع – محمد خليفة – دندل جبر – سرور زين العابدين – زهير شاويش – عبد اللطيف الشيرازي الصباغ – د. محمد أبو الفتح البيانوني.

من أدب المواجهة

ليس بين يدي سوى مادتين: الأولى مجموعة شعرية ملتهبة للشاعر الشهيد محمد صالح نازي، وهو شاعر شاب من مدينة حماة ولد عام 1957م، واستشهد في الأسبوع الأخير من نوفمبر عام 1981م، مجموعته الشعرية المنشورة حافلة بالمراثي والوجدانيات والإهابات لإخوانه في الدرب، والتشديد بالطغاة، ذاعت قصيدته (أماه: الشهيد يخاطب أمه قبل الرحيل)، وتداولها المنشدون، جاء فيها:

أماه قد أزف الرحيل، فهيئي كفن الردى

أماه إني زاحف للموت... لن أترددا

أماه لا تبكي عليّ إذا سقطت ممددا

فالموت ليس يخيفني ومناي أن استشهدا

الثانية (مروان حديد – حياته وشعره لمحمد ناصر المزني)، وهو كتاب حافل بأشعار الحماسة والبطولة والتضحية والإشادة بإخوة الدرب، وفيه خمس قصائد تتحدث عن الشهادة والشهيد.

أدب الضحايا والشهداء

إذ استشهد في مجزرة تدمر عام 1980م خلال نصف ساعة ما لا يقل عن ألف مواطن من النخبة السورية، فما نسبة الأدباء فيهم؟ وقس على ذلك ما استشهد في جامع السلطان بحماة الذي قصفت مئذنته بالمدفعية عام 1964م، ومجزرة الجامع الأموي الذي اجتاحت المعتصمين فيه الدبابات عام 1965م، ومجازر بقية المحافظات السورية كحي المشارقة بحلب، ومجزرة الحجاب في شوارع دمشق، ومأساة حماة الكبرى التي استشهد فيها ثلاثون ألفاً، وكلها في عام واحد 1980م، لكن للأسف ليس بين أيدينا معلومات كافية عن الأدباء الشهداء حتى الآن إلا عن عدد يعد على أصابع اليد، منهم:

الشهيد إبراهيم عاصي صاحب المجموعات القصصية الساخرة الواعدة بمستقبل متميز: سلة الرمان – جلسة مغلقة – حادثة في شارع الحرية – ولهان والمتفرسون – للأزواج فقط – همسة في أذن حواء.

الشهيد عبد الودود يوسف صاحب المؤلفات المتعددة منها: حكايات حارثة 10 أجزاء – حكايات عن القرآن أكثر من 20 جزءاً – حكايات عن الصلاة 20 جزءاً – كانوا همجاً: رواية من الخيال العلمي – ثورة النساء: رواية عن المرأة في الصراع الحضاري.

الشهيد هيثم الخوجة: مجموعته القصصية (القحط) – سقط تحت التعذيب 1987م.

الراحلون في المنفى

وفاة الأديب مغترباً اغتراباً قسرياً بسبب رأيه أو أدبه مؤشر غير حضاري، ولوعة له ولذويه ومحبيه وقارئيه ونقاده وبقية المواطنين على حد سواء، وقد بدأت السلسلة تكر بوفاة المهجرين والمغتربين، ولا ندري متى تقف عن الكر والانفراط، وقد مضى على هجرة الكثير منهم أربعون عاماً.

الشوق أقتل ما يفري إذا احتجبا

والعمر ضاع إذا لم تستعد حلبا

خمس وعشرون من صد ومن صلف

ومن سكاكين ما أبقت لنا عصبا

كل الطيور إلى أعشاشها انقلبت

إلا معنى كسير القلب ما انقلبا

من هؤلاء الراحلين الشاعران: عمر بهاء الدين الأميري صاحب ديوان (مع الله) الذائع الصيت و(نجاوى محمدية) و(قلب ورب) وعشرات المؤلفات الشعرية والحضارية، وعبد القادر حداد الذي اشتهر بأقاصيصه: الشعرية التاريخية، ذات النفس الملحمي الرصين.

ومنهم القاصان الدمشقيان: علي الطنطاوي وشهرته لا يحتاج لتعريف بأقاصيصه وتراجمه ومؤلفاته الكثيرة، وأسلوبه التعبيري الطلي (السهل الممتنع) كما قيل. ومحمد حسن بريغش الذي جمع بين النقد والقص، وكان لمعاناته الأمراض في الغربة وقع فني على آثاره الأدبية.

ومنهم الناقد الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا صاحب كتاب (علي بن الجهم) وروايته (أرض البطولات) (الراية الثالثة) وكل من (صور من حياة الصحابة) و(صور من حياة التابعين)، وهو أحد مؤسسي رابطة الأدب الإسلامي العالمية، والمشرف على عدد من الرسائل الجامعية حول (الأدب الإسلامي) في أدبنا القديم.

ومنهم الشاعر عمر أبو ريشة أحد أعلام الشعر السوري الداعي الصيت.

والناقد الدكتور شكري فيصل، والناقد الدكتور محمد خير الحلواني، وكثيرون ممن لا يسعهم حصر، ولا تنقطع لفقدانهم حسرة.

هذه حال الأدب والأدباء في سورية، وهي حال لا تسر صديقاً، وهي جزء من الحال السورية بعامة، ومع ذلك سوف يظل هؤلاء الجنود الحضاريون المجهولون أصحاب القلوب الكبيرة أحد مشاعل (الممانعة)، فالتغيير الشعبي، فتحقيق الطموح المشروع لقطرنا وأمتنا في المعترك العالمي الذي لا يرحم الطغاة والكسالى والطفيليين والمزيفين.