في رواية الإعصار والمئذنة

صفحة من التاريخ الحديث

في رواية

الإعصار والمئذنة

للدكتور عماد الدين خليل

محمد الحسناوي رحمه الله

نطالع في رواية (الإعصار والمئذنة) للمؤرخ الأديب الدكتور عماد الدين خليل، صفحة من تاريخ العراق الحديث، فأحداث الرواية تدور أيام ثورة العقيد عبد الوهاب الشواف في الموصل ضد حكم عبد الكريم قاسم عام 1958م، وذلك من خلال الصراع بين أنصار الاستبداد والإلحاد من جهة وأنصار الحرية والإيمان من جهة ثانية.

في صف الإيمان تبرز الشابة (سلمى) ابنة الضابط المتقاعد عبد الرحمن الداود، كما يبرز أبوها نفسه، وخطيبها عاصم الدباغ صاحب معمل الدباغة، والشيخ هاشم عبد السلام إمام جامع الشيخ عجيل وخطيبه، ثم صديقه حازم صبري، في الصف الثاني نتعرف إلى يونس سعيد عتالة العضو في الحزب الشيوعي، وإلى حنا جرجيس الذي يعمل في مديرية المعارف، وإلى عبد الله الجزار الزعيم الشيوعي الذي توليه الغوغاء منصب رئيس محكمة.

الشابة (سلمى) بطلة هذه الرواية، يخطبها عاصم الدباغ – على الرغم منها – بعد وفاة أمها بأربع سنوات، وهي على وشك الانتقال إلى بيت الزوجية.

جريمة هذه الفتاة الطاهرة أنها تصلي الجمعة في المسجد الذي يخطب فيه الإمام هاشم عبد السلام، قائد الحملة الشعبية المناهضة لاستبداد عبد الكريم قاسم، ولإلحاد الشيوعيين، حين يقرر عبد الكريم قاسم محاصرة مدينة الموصل وتفجيرها من الداخل والخارج بإرساله (أنصار الإسلام) للتظاهر في شوارع المدينة لاستفزازها، وليعقدوا مؤتمرهم في كنيسة (مار كوركيس).

تواجههم المدينة بعلمائها وشبابها، وباللواء العسكري الذي يقوده العقيد عبد الوهاب الشوّاف، الذي يعلن الثورة، على أمل أن تنضم قوات العاصمة، وبقية القطاعات العسكرية، ومن باب الاحتياط يتم اعتقال الشيوعيين في الموصل، لكن بعد أيام قليلة تخفق ثورة الشوّاف، وتتعرض الموصل ودفاعاتها العسكرية والمدينة لهجمات الطيران الرسمية، فيستشهد الشوّاف، ويطلق سراح المعتقلين الشيوعيين الذين يتحولون للانتقام المفرط ممن يسمونهم أعداء الجمهورية والزعيم والديمقراطية، بدءاً بأسرة عبد الرحمن الداود وابنته سلمى، ومروراً بالشيخ هاشم عبد السلام، وانتهاء بكل مواطن شريف.

شخصية المكان

للمكان في هذه الرواية – بدءاً من عنوانها "الإعصار والمئذنة" – حضور واضح، سواء في تأثيره بالأحداث والشخصيات أو كونه وعاءاً وانعكاساً للتصور الإسلامي، أو توظيفه في البنية الفنية للرواية.

خدمة المكان للبنية الفنية تتجلى في صور الطبيعة الموصلية المشرقة – لاسيما موسم الربيع – في عيني عبد الرحمن الداود، من خلال شرفة بيته، التي تعوّد الإطلال منها عصر كل يوم، مما عمّق في نفسه ونفس ابنته وأهل المدينة حب الطبيعة، ومن ثمّ حب الوطن، والتعلق بالبقاء فيها، برغم إمكانية الانتقال المؤقت إلى العاصمة، ريثما تمر العاصفة الأمنية، ومثل ذلك تلوّن السحاب والشمس بلون الأرجوان أو احمرار الدماء إرهاصاً وموازاة لأحداث العنف الدامية.

وتأثير المكان في الأحداث والشخصيات نلحظه في نسق اصطفافي، كاصطفاف عسكريين متقابلين، فمعسكر الاستبداد والإلحاد له مواقعه مثل، مطبعة جريدة الأنوار، و"دير مار كوركيس" والمقهى المحروق والشارع الذي يحلو للشيوعيين أن يطلقوا عليه شارع موسكو، وهنا أيضاً تمكن التنظيم من إحكام قبضته، وسعى جاهداً لجعل الشارع بأزقته الملتوية كالأفاعي، ودوره الصغيرة المزدحمة ككتل حجرية لا تعرف النظام، معقلاً للشيوعيين وحدهم (ص 113 – 114).

ومعسكر الحرية والإيمان له مواقعه كذلك، مثل مسجد الشيخ عجيل، والطراز الأصيل في العمارة الموصلية، ومئذنة جامع النوري الكبير: "أحسّ الشيخ هاشم وهو يحدّق بالمنارة العالية باطمئنان عميق وقال في نفسه: ها هي ذي المنارة المتفردة التي بناها يوماً نور الدين محمود قاهر الغزاة الصليبيين، الموحّد والمحرّر، واختار لها مكاناً في قلب المدينة، ومدّ أسبابها إلى السماء، لكي تبرز واضحة للعيان من أي مكان، يلقي منه المرء بصره، لقد ظلت قائمة عبر القرون المتطاولة، بانسيابها الجميل صوب الأعالي، شاهدة على أنه ما من أحد يقدر على تغيير وجه المدينة الأصيل (ص53).

على أن أهم مكان في الرواية لعب دوراً مؤثراً من حيث المساحة والدلالة هو "الشارع الموصلي" فقد دار كثير من الأحداث وأهمها في هذا الشارع، وضمّ تظاهرات المعسكرين، وصحّ ما قاله المؤلف في السرد معلقاً: "إنه قدر المدينة أن تبعث بشبابها وشيوخها، لكي يجعلوا من شوارع البلد برلمانهم الحقيقي، بعد أن عجز برلمانهم القابع في بغداد عن أن يوصل صوتهم الحقيقي إلى مسامع السلطة.

الطبيعة في التصور الإسلامي صديق لا عدو يتربص به كإحساس عبد الرحمن الداود تجاهها: "لطالما حدّثته بألف حديث، ولطالما قالت له كلمات وجملاً مما لا يقوله إنسان أو مذياع، كانت تحكي بلغتها الخاصة، وهي بحق لغة شفافة، لأنها تصوغ معانيها بالروائح والألوان" (164)، ولذلك يخلع عليها المؤلف العواطف والأحاسيس كالتي يحسها البشر أيضاً، يقول في عواطف الجدران الحجرية لبيوت الأزقة الموصلية: "حيث تميل الجدران المغلفة بالمرمر الأزرق الجميل على بعضها، وكأنها تتحدث إلى بعضها... كان سكان الزقاق يلجؤون إلى إسناد جدرانهم المتداعية بأعمدة غليظة من الخشب، خشية أن يهوي بعضها على بعض صبابة وهياماً" (51).

وهي التي احتضنت الحضارة الإسلامية: "إن الغرباء الذين يزورون هذه الأزقة، ويدخلون دورها، يتذكرون والحنين يعتصرهم، مدن الإسلام القديمة التي لا تزال تشخص بتكويناتها متحدية الزمن والتاريخ، قرطبة، غرناطة، دمشق، القاهرة القديمة، وبغداد" (51).

لعبة التقابلات

يتجلى ذلك في اعتماد المؤلف على تعانق التناقضات والثنائيات، في توازٍ أو تقابل أو تكامل أو صراع، بدءاً من افتتاح الرواية بالحب والغزل، واختتاماً بالسجل والقتل، وتعليق جثة الشابة الجميلة (سلمى) على عمود الكهرباء، تعليق المشنوقين. خاتمة مأساوية لبداية بهيجة، كما هي الحال في خاتمة مسرحية عطيل لشكسبير، وأمثالها من الخواتيم الجارحة.

الجدلية (إبراز تماسك المتناقضات ووحدتها)، ليست إنجازاً ماركسياً محضاً، بل هي تطوير للجدلية في فلسفة (هيجل) الألمانية، كما أن جدلية هيجل نفسه، ليست أكثر من قراءة فلسفية لحقائق ملموسة في الطبيعة والمجتمع والتاريخ، ثنائية الأبيض والأسود، الخير والشر، ثم الصراع بين النقيضين.

إن احتفال المؤلف بهذه الثنائية أو النقيضين في رواية، تضع التصور الإسلامي في مواجهة التصور الماركسي أمراً ذا بال، تصادفه ابتداء من عنوان الرواية التاريخية، الذي يعكس بعداً جغرافياً مكانياً، هو الإعصار والمئذنة، أو ثنائية بين الإعصار والمئذنة نفسيهما، ثم إدارة الصراع بين مدينتين اثنتين، إحداهما العاصمة بغداد، ثانيتهما الموصل، زد على ذلك ثنائيات تتجاوز الأمكنة والشوارع إلى الشخصيات والأفكار على حد سواء.

فالمنزل الموصلي القديم يقابله المنزل القصر الحديث الذي يريد عاصم أن ينقل خطيبته سلمى إليه، ومقابل الكنيسة التي يعقد فيها الشيوعيون مؤتمرهم، يبرز جامع الشيخ عجيل الذي يقود المقاومة الشعبية الإسلامية في المدينة.

والكتاب الذي يترجمه حنا جرجيس بعنوان (الغرب والإسلام) – وعنوانه جدلي في ذاته – للمستشرق برنارد لويس، يقابله كتاب يطالعه عبد الرحمن الداود عنوانه (تاريخ الاستراتيجية في العالم).

بل إن الداود نفسه، لا يكتفي بتلاوة القرآن الكريم، بل يقرأ كتاب الله في الطبيعة الجميلة أيضاً.

من التقابلات المعبرة فكرياً أن التدابير الأمنية لحركة الشواف اقتضت اعتقال الشيوعيين في سجن احتياطي، لا تعذيب ولا تصفيات، أما إخفاق الحركة وانتصار الشيوعيين، فقد تمّ تدشينه بعمليات انتقام وتصفيات دموية سحلاً وقتلاً وتعليقاً للمرأة على عمود الكهرباء بعد سحلها وقتلها، هذه طريقة فنية توضح الفرق والمقارنة بين التصور الإسلامي والتصور الماركسي للحياة في التمثلات والوقائع. لا في الشعارات المتناقضة مع الممارسات، ناهيك بذهاب الشيخ هاشم عبد السلام إلى مقابلة صديقه وخصمه الفكري حنا جرجيس في مطبعة الأنوار، يقارعه الحجة بالحجة سلمياً، على حين يهدّد يونس سعيد عتّالة زميله عاصم الدباغ، وينفذ تهديداته بقتل عمه عبد الرحمن وعروسه الشابة سلمى.

لم تقف الثنائيات عند حدّ، ولا عند النوع القائم على الصراع، لأن النقيضين – خلافاً للماركسية – قد يتكاملان كالرجل والمرأة، والليل والنهار.