هيمنجواي في قصته (العجوز والبحر)
هيمنجواي في قصته
(العجوز والبحر)
د. حمدي شعيب
لقد كان أمراً مراً، ألا يظفر الصياد العجوز بأي سمكة طوال أربعة وثمانين يوماً لقد ساءت سمعته بين الصيادين ولكن راوده الأمل في ذلك اليوم بعودة الحظ وبطرق بابه، وعليه أن يصمم على أن يصيد في محاولة أو مغامرة جديدة، بعيداً وراء المنطقة التي اعتاد غيره الصيد فيها، في محاولة لإثبات الذات، ولإعادة كبريائه كرجل له تاريخ، وأن عليه أن يتوغل وحيداً حيث منع والدا صديقه الغلام ولدهما من الصيد معه منذ أربعين يوماً، خشية عليه و"تشاؤماً" من صديقه ومعلمه العجوز.
وبعد أيام من التعب المضني حصل على السمكة التي كانت في أضعاف حجم مركبه، وبعد معركة عظيمة معها نجح في ترويضها وإضعافها ثم إماتتها، وسحبها وراءه في سعادة.
وفي الطريق خرجت عليه جماعات من سمك القرش وبعد مقتلة رهيبة معها، وصراع طويل، استطاعت هذه الجماعات المهاجمة تمزيق سمكته.
ووصل الشاطئ ولم يبق من سمكته إلا هيكلها العظمي، وخلع العجوز الصاري من مكانه، وطوى شراعه، وحمله على كتفه ومضى إلى كوخه وهو يتمايل، وهناك يتمدد فوق فراشه وينام.
وجاءه الغلام بالطعام والقهوة وجلس يراقبه ويقول لمعلمه:
يجب أن تسترد عافيتك سريعاً، فهناك الكثير الذي أستطيع أن أتعلمه، ويمكنك أن تعلمني كل شيء، وإلى أي مدى عانيت؟!
ذلك هو مجمل قصة رائعة من الأدب العالمي هي (العجوز والبحر) للكاتب الأمريكي (أرنست هيمنجواي) الحائزة على جائزة (بوليترز) عام 1952م، وجائزة نوبل في الآداب عام 1954م.
عندما قرأت هذه التحفة الرائعة، انطلاقاً من قواعد أدبية مطردة، وسنن اجتماعية ثابتة، تحدد الرؤية أو الإطار الفكري الذي على أساسه تقرأ الأدبيات وهي:
1- أن أدبيات كل عصر ما هي إلا مرآة للحقبة الزمانية والمكانية التي تصدر عنها.
2- أن الأدبيات تعتبر أيضاً خير شاهد على عصر الفكرة التي تدور في عقل صاحبها والمرحلة الفكرية والثقافية، بل والتربوية التي يمر بها.
3- أن سلوك أي فرد أو جماعة أو أمة من البشر، ما هو إلا ترجمة صادقة لما يحملونه من أفكار.
أي أن السلوك يكون حسناً أو سيئاً تبعاً للفكرة المحركة.
وهذه القواعد كما تنطبق على حاملي الأفكار وأصحابها، فهي كذلك تنطبق على قارئي ومحللي أو منتقدي تلك الأفكار ولهذا فلقد كثرت آراء النقاد حول هذه الأدبية العالمية الرائعة.
فمنهم من صور صراع الصياد مع القرش على أنه يمثل حياة الكاتب وصراعه مع النقاد وخصومه المعاصرين له، ومنهم من حلل القصة، على أنها تمثل الصراع الإنساني في الحياة، ومنهم من حلل القصة على أنها تمثل صورة من العلاقة المنشودة بين جيل الشيوخ ذوي الخبرة وجيل الشباب المتحمس، ولكننا عندما نقرأها، قراءة معاصرة، من خلال منظور فكري إسلامي منهجي شامل، نجدها تجيب عن إشكالات خطيرة على المستوى الفردي والجماعي، خاصة الجانب الحركي الإسلامي، وذلك حول قضية الصراع من أجل الثمرة، وهي القضية التي يمكن تحليلها إلى مراحل خمس:
المرحلة الأولى مرحلة القراءة الصادقة للواقع:
وهي التي يمثلها في القصة: رؤية الصياد لوضعه بعد هذه السن والتجربة، وفشله في الصيد لمدة طويلة، واهتزاز هيبته، وهي المرحلة التي تمثل نقطة البدء، أو القاعدة في الانطلاقة الفردية أو الجماعية، نحو أي هدف. وهي تمثل ضرورة القراءة العميقة للواقع، وذلك في محاولة مهمة وجدية لتشخيص الداء ووصف الدواء والعلاج. وأي حركة فردية أو جماعية لا تقوم على استقراء الواقع، تعتبر حركة بلا قواعد، أو بنياناً بلا أساس وأي حركة غير محددة الهدف أو الغاية تعتبر قفزة طائشة إلى المجهول.
المرحلة الثانية: مرحلة الانطلاق:
وتأمل الأهداف التي وضعها الصياد للانطلاق، لقد قرر أن يقوم بمحاولة غير تقليدية، ومغامرة لا يقوم بها إلا من له تاريخ، فيقتحم ما لم يقتحمه من سبقه، وذلك لإثبات ذاته ولإعادة كبريائه كرجل له تاريخ معروف. وهي المرحلة التي تبين مرتكزات أو مسوغات التحرك نحو الغاية وهذه المرحلة لها ضوابط مهمة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار:
1- أن تكون مبنية على أساس استقراء.
2- أن تكون محددة الأهداف والغايات.
3- أن تكون قائمة على أساس معروف الإمكانات الذاتية، والقدرات المتاحة، ولذلك فإن كان الصياد قد فقه ظروفه ووضعه، وقرر التحرك نحو غاية معينة، ولكن يؤخذ عليه أنه سار نحو تلك الغاية الجديدة بنفس القارب المتواضع، ولم يصاحبه الغلام أي سار نحو غاية غير تقليدية بإمكانات تقليدية، بل ويبدو فيها بعض القصور وكذلك فمن أراد أن يترك أثراً، فعليه أن يقوم بعمل مميز، وأن يبدع، وأن يجدد ولا ينسى مقدار إمكاناته وإلا كان الإحباط من نصيبه!
المرحلة الثالثة مرحلة الصراع للحصول على الثمرة:
وهي المرحلة التي تتمثل في صبر وقوة احتمال الصياد وهو يسير وحيداً إلى المكان الجديد وهو على ثقة من أنه سيحصل على ما يريد.
وهي المرحلة التي تصور الصراع وأشكاله المنوعة في سبيل الحصول على الهدف، وتعتبر هذه المرحلة هي المحور أو الجزء الأكبر من القصة، وهذه المرحلة على المستوى الفردي أو الجماعي هي المرحلة الأصعب ولكنها على صعوبتها يكون لها من الميزات الكثير حيث تكون القوى الفردية أو التحدي، والنظر دوماً إلى الغاية، لذا فإن البذل وإن كان شاقاً ولكنه يبدو لذيذاً وهي من أخصب الفترات تربوياً. وهي التي لا يثبت فيها إلا الرجال وهي من نوع الابتلاء بالشدة.
المرحلة الرابعة: مرحلة الحصول على الثمرة:
وتأمل مدى النشوة التي أخذت الصياد العجوز، وهو يرى الحبال، تنجذب بقوة فيتخيل حجم ونوع السمكة التي حصل عليها، وهي المرحلة التي تصور السعادة والنشوة الغامرة التي تصاحب الحصول أو الوصول إلى الهدف، أو اقتطاف ثمار النصر، وهي اللحظات التي يستشعر فيها الفرد أو الجماعة مدى السعادة عندما تطأ الأقدام الغاية، وتتحسس الأيدي الهدف وهي لحظات!! بل لحظات قليلة لأنها لا تدوم طويلاً، وتصبح مهددة من قبل تحديات ومشكلات المرحلة الأخطر والأصعب وهي المرحلة الأخيرة. وهي التي تعتبر من أقسى منعطفات الطريق، فقد تنسي هذه النشوة مدى توابع ذلك النجاح فكثير هم الذين يجيدون فن تناوش الثمرة، والقليل هو الذي يجيد فن المحافظة عليها، وملفات التاريخ وأحداث الواقع تفيض بالتجارب الكثيرة لمن نجح في الوصول إلى قمة الجبل، ولكنه يسقط لأنها قمة ولا تتسع إلا للقليل! وهي من نوع الابتلاء بالنعمة.
المرحلة الخامسة: مرحلة الصراع لحماية الثمرة.
وهي المرحلة التي أخذت الحجم الثاني بعد مرحلة الصراع في القصة، وإن كان الكاتب قد أبدع وتعمق في تصويرها لأنها تتظلل بالأحداث المأسوية حيث نعيش مع الصياد المخضرم (سانتياجو) كيف يضيع حلمه الكبير منه، لحظة بلحظة! وتنتهي بمأساة ضياع السمكة من بين يدي الصياد العجوز الخبير، وهي أخطر المراحل وأشدها حرجاً، حيث تصور الصراع الرهيب والحنكة المطلوبة، في حماية الثمرة، والمحافظة عليها وهي المحك الذي يظهر عمق التربية التي نشأ عليها المنتصرون، وهي المرحلة التي تتساقط عندها الأحلام، وهي المرحلة التي تعتبر العقبة الكئود، أمام تجارب الحركة الإسلامية مع الثمرة، وهي بيت القصيد الذي نركز عليه في تلك القراءة المعاصرة، وذلك لأن معظم ظواهر النكوص وأكثر أسباب الخلل، بل إن أخطر الانتكاسات إنما تبرز في تلك المرحلة حتى راجت مقولة (الإسلاميون: بذل وتضحيات ولا ثمرة) ومن خلال ظلال القصة تبرز تلك التساؤلات التي تحتاج إلى دراسات جادة، من أجل الإجابة عنها!.. وتحتاج إلى صياغة معينة وتربية خاصة من أجل محاولة العلاج!
ومن هذه التساؤلات والتي سنحاول من خلالها استقراء وتحليل أسباب ضياع سمكة الصياد، واللبيب هو – بل هو فقط – الذي يفقه مغزى هذه التساؤلات.
أولاً: هل أخطأ الصياد، عندما توغل وحيداً، دون مساعدة أحد؟
فهل كان عيباً أو نقصاً في عقليته أن يطلب المعاونة والتنسيق مع غيره فجنى حظه من أسلوبه الانفرادي؟
ثانياً: هل كان حظه أن السمكة كانت أكبر من حجم قاربه؟
هل كان خطأ الصياد أن حلمه كان كبيراً، أي أن الهدف كان أكبر من الإمكانات؟
هل نسي المثل الأجنبي (لا تملأ فمك بما لا تستطيع مضغه)!
ثالثاً: هل مثلت التجربة تجربة الشيوخ ذوي الخبرة ولم تمتزج بحماسة الشباب، حيث لم يخرج معه الغلام؟
وهل كان يشفع له أنه كان خلال تلك المرحلة، يصيح مرات مفتقداً صديقه وتلميذه الغلام؟
رابعاً: هل كانت مشكلته أن والدي الغلام، قد رفضا خروج ولدهما معه، خوفاً عليه من حظ أستاذه العاثر؟!
هل كانت مشكلته أن هذين الوالدين وكذلك الجيران الذين استهزأوا به لم يعيشوا مشكلته معه ولم يشاركوه ألمه وقضيته.
أي أن العيب كان فيه وفي انعزاله عن جماهير الصيادين حوله!!!
خامساً: هل كان الخلل الأكبر في فشله هذه المرة، كان مرجعه الأساسي إلى الظروف المحيطة والعوامل الخارجية مثل البداية السيئة وهي عدم المشاركة الجماهيرية له فتركوه وحيداً يصارع من أجل حلمه الكبير، ومثل النهاية المأساوية حيث الهجوم الرهيب من أسماك القرش، الذين قفزوا على سمكته والتهموها بقسوة، ولم يكن مرجعه إلى العوامل الداخلية والأسباب الشخصية التي ألمحنا إليها في التساؤلات السابقة؟!
وتأمل حواره الحزين الأخير مع غلامه وتلميذه المخلص (مانولين) وهو يقيم نفسه، ويراجع أخطاءه، وينتقد تجربته.
لقد تغلبوا علي يا (مانولين) حقاً لقد انتصروا علي!
فقال الصبي:
- إن السمكة لم تهزمك!
- حقاً ولكن حدث ذلك فيما بعد!
ولكن..
تبقى التجربة ملك التاريخ، ورصيداً للأجيال حيث تصور نهاية القصة، بعض السائحين الذين قدموا وسألوا معجبين عن صائد تلك السمكة العظيمة.
وكذلك يبقى الأمل دوماً.
ويبرز الثبات كضرورة وركن أساسي في حركة العاملين على الطريق وقد يأتي هذا الثبات على لسان أصغر فرد!!
وتدبر قول الغلام في حواره الأخير مع أستاذه العجوز (سانتياجو) وهو يعطي معلمه الأمل، ويصمم على مصاحبته في محاولة أخرى، تصحح الأخطاء وتستدرك الخلل:
- يجب أن تسترد عافيتك سريعاً فهناك الكثير الذي أستطيع أن أتعلمه، ويمكنك أن تعلمني كل شيء، وإلى أي مدى عانيت؟!
- وماذا ستقول لأسرتك؟
- لا يعنيني هذا!
- يجب أن تأتي برمح قاتل قوي.. وتعيد القصة في كلماتها الأخيرة القليلة، منظر الصياد وهو يحلم بتجاربه السابقة، ويستعيد رصيده القديم، لقد كان يستعيد حلمه بالسباع والأسود!
فالإحباط ليس من شيمة الرجال، واليأس ليس من شيمة المؤمنين، المؤمنين بربهم.. ثم بإمكاناتهم.. ثم بغاياتهم..
المجتمع العدد 1385 – 19 شوال 1420 هـ 25/1/2000م.