نجيب محفوظ عندما رد تحية سيد قطب بالتي هي أسوأ

نجيب محفوظ

عندما رد تحية سيد قطب بالتي هي أسوأ

سيد قطب رحمه الله

نجيب محفوظ

محمد سيد بركة

[email protected]

في مرايا نجيب محفوظ التي صدرت منذ أربعين سنة- صدرت الطبعة الأولى 1972 م - صوراً رسمت بعبقرية أدبية لشخصيات بعضها عرفناه من النص وبعضها تمت معرفته من صاحب النص. ومن الشخصيات التي عرفناها من المصدرين شخصيةً قصد بها المؤلف سيد قطب (9 /10 / 1906 – 20 /8 /1966 م ) الذي عرفه نجيب محفوظ ( 11/12 / 1911 – 30 / 8 / 2006م ) جيدا خلال النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي كما كان سيد قطب من أوائل الذين قدموا نجيب محفوظ للقراء منذ أكثر من ستين سنة ، فسيد قطب هو الذى أعطى نجيب محفوظ شهادة ميلاده كروائى، وروائى عالمى، وهذا ما كان يتذكره نجيب محفوظ دائما بوفاء وامتنان حيث قال ذات مرة : لم يكن أحد يعبرنا، وكان أول من كتب عني سيّد قطب، وبعد ذلك أنور المعدّاوي .. لأنهما أدباء شبان لديهم شيء جديد، وأنا أيضا كنت شابا ولدي الجديد .

ويقول محفوظ في مذكراته الصادرة عن دار الشروق: سيد قطب هو أول ناقد أدبي التفت إلي أعمالي وكتب عنها، وكان ذلك في الأربعينيات، وتعرفت عليه في ذلك الوقت حيث كان يجيء بانتظام للجلوس معنا في كازينو أوبرا.. كانت العلاقة التي تربطنا أدبية أكثر منها إنسانية..

سيد قطب أول من اكتشف نجيب محفوظ

في العدد 587 من مجلة الرسالة الصادر في 2/10 / 1944 كتب سيد قطب مقالا حارا للترحيب بقصة كفاح طيبة وهي من بواكير إنتاج نجيب محفوظ يقول قطب :

أحاول ان اتحفظ فى الثناء على هذه القصة فتغلبنى حماسة قاهرة لها، وفرح جارف بها! هذا هو الحق، أطالع به القارئ من اول سطر، لأستعين بكشفه على رد جماح هذه الحماسة، والعودة الى هدوء الناقد واتزانه!!

ولهذه الحماسة قصة لا بأس من اشراك القارئ فيها: لقد ظللت سنوات وسنوات اقرأ ذلك التاريخ الميت الذى نتعلمه فى المدارس عن مصر فى جميع عصورها، والذى لا يعلمنا مرة واحدة ان مصر هذه هى الوطن الحى الذى يعاطفنا ونعاطفه، ويحيا فى نفوسنا وأخلادنا بحوادثه وأشخاصه، وظللت أستمع الى تلك الاناشيد الوطنية الجوفاء التى لا تثير فى نفوسنا إلا حماسة سطحية كاذبة لانها لا تنبع من صلة حقيقية بين مصر وبيننا، وإن هى الا عبارات صاخبة، تخفى ما فيها من تزوير بالصخب والضجيج .

ويضيف قطب: وكنت أرى الطابع القومى واضحا بجانب الطابع الإنسانى فى آداب كل أمة، ولا سيما فى الشعر والقصيدة، بينما أرى الطابع المصرى باهتا متواريا فى أعمالنا الفنية مع بلوغها درجة عالية تسلك بعضها بين أرقى الآداب العالمية، وكنت أعزو هذا اللون الباهت الى ان مصر القديمة لا تعيش فى نفوسنا، ولا تحيا فى تصوراتنا، إلى أننا منقطعون عن هذا الماضى العظيم لا نعرفه، ولا نتمثله صورا ووشائج حية الى اننا نفقد من تاريخنا المجيد حقبة لا تقل عن خمسة آلاف سنة من الفن والروح والعواطف والانفعالات .

إلى ان يصل الى الحديث عن رواية كفاح طيبة فيقول : واليوم أتلفت فأجد بين يدى القصة والملحمة كلتاهما فى عمل فنى واحد فى كفاح طيبة فهى قصة بنسقها وحوادثها، وهى ملحمة وإن لم تكن شعراً ولا أسطورة بما تفيضه فى الشعر إلا الملحمة.

هى قصة استقلال مصر بعد استعمار الرعاة على يد أحمس العظيم قصة الوطنية المصرية فى حقيقتها بلا تزيد ولا ادعاء، وبلا برقشة أو تصنع، قصة النفس المصرية الصميمة فى كل خطرة وكل حركة وكل انفعال .

وحول الأسلوب الفنى للرواية يقول قطب: ولم يكن الشعور القومى وحده هو الذى يصل نبضاتى بنبضات أبطال القصة، بل كان الطابع الإنسانى الذى يطبعها، والتنسيق الفنى الذى يشيع فيها، هما كذلك من بواعث إحساسى بصحة ما يجرى فى القصة وكأنه يجرى فى الواقع المشهود، بكل ما فى الواقع من عقد فنية، وعقد نفسية، ينسق المؤلف مواضعها بريشة متمكنة ويد ثابتة، تبدو عليها المرونة، والثقة بمواقع التصوير والتلوين .

ويختتم قطب مقاله قائلا: ولقد قرأتها وأنا اقف بين الحين والحين لأقول: نعم هؤلاء هم المصريون، إننى اعرفهم هكذا بكل تأكيد، هؤلاء هم قد يخضعون للضغط السياسى والنهب الاقتصادى ولكنهم يهبون حين يعتدى عليهم معتد فى الأسرة أو الدين هؤلاء هم المصريون الخالدون، هؤلاء هم ثقة عن يقين.

لو كان لى من الامر شيء لجعلت هذه القصة فى يد كل فتى وكل فتاة، ولطبعتها ووزعتها على كل بيت بالمجان، ولأقمت لصاحبها الذى لا اعرفه حفلة من حفلات التكريم التى لا عداد لها فى مصر، للمستحقين وغير المستحقين! .

كما كتب سيد قطب مقالا ثانيا عن رواية خان الخليلي في مجلة الرسالة عدد 650 في 17 ديسمبر 1945 م قائلا عنها إنها خطوة حاسمة في طريقنا إلى أدب قومي واضح السمات متميز المعالم ذي روح مصرية خالصة من تأثير الشوائب الأجنبية مع انتفاعه بها في الوقت الذي يؤدي فيه رسالته الإنسانية ويحمل الطابع الإنساني العام ويساير نظائره في الآداب الأخرى وبعد أن يستعرض الرواية يختم مقاله برجاء إلى المؤلف الشاب ألا تكون كلماته مثيرة لغرور المؤلف الشاب المرجو في اعتقاد سيد قطب ان يكون قصاص مصر في القصة الطويلة فما يزال أمامه الكثير لتركيز شخصيته والاهتداء إلى خصائصه واتخاذ أسلوب فني معين توسم به أعماله وطابع ذاتي خاص تعرف به طريقته وفلسفة حياة كذلك تؤثر في اتجاهه.

 ثم يكتب سيد قطب مقالا ثالثا عن رواية القاهرة الجديدة في مجلة الرسالة عدد 704 في 30 ديسمبر 1946م يستنكر ما وصفه بغفلة النقد في مصر، إذ كيف تمر هذه الرواية دون أن تثير ضجة أدبية أو ضجة اجتماعية، ثم يقول: إن أعمال نجيب محفوظ هي نقطة البدء الحقيقة في إبداع رواية قصصية عربية أصيلة، فلأول مرة يبدو الطعم المحلي والعطر القومي في عمل فني له صفه إنسانية.

محفوظ يرد التحية بالتى هى أسوأ

 ولشديد الأسف قد رد محفوظ التحية بالتى هى أسوأ، إذ رسم لسيد قطب صورة قبيحة فى كتابه "المرايا" باسم عبد الوهاب إسماعيل لا تليق به ولا بسيد قطب رحمه الله.

يقول في ذكرياته عن سيد قطب لرجاء النقاش : ولتأثرى بشخصية سيد قطب وضعتها ضمن الشخصيات المحورية التى تدور حولها رواية المرايا مع إجراء بعض التعديلات البسيطة، ولكن الناقد المدقق يستطيع أن يدرك أن تلك الشخصية فيها ملامح كثيرة من سيد قطب.

المرايا تدور بمجملها حول آراء محفوظ بمجموعة من الشخصيات الحقيقية، الأدبية والفكرية والسياسية، التي عاصرها، مع التمويه عنها في الرواية بأسماء مستعارة، وإضافات خيالية لإكمال الحبكة .. رغم أننا نستطيع أن نهتدي إلى الملامح والأسماء الصحيحة لكثير من تلك الشخصيّات الواقعية .. فيا ترى تحت أي قناع في الرواية يكون سيّد قطب ؟؟؟

هناك شبه اتفاق بين النقاد أن سيّد قطب هو نفسه عبد الوهاب إسماعيل في الرواية . فماذا جاء عن تلك الشخصية في الرواية ؟

يقول نجيب محفوظ : إنه اليوم أسطورة وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير، وبالرغم من أنني لم ألق منه إلا معاملة كريمة أخوية إلا أنني لم أرتاح أبدا لسحنته ولا لنظرة عينيه الجاحظتين الجادتين، وقد عرفته في صالون الدكتور ماهر عبدالكريم في أثناء الحرب العظمي الثانية، كان في الثلاثين من عمره يعمل مدرسا للغة العربية في إحدي المدارس الثانوية، وينشر أحيانا فصولا في النقد في المجالات الأدبية أو قصائد من الشعر التقليدي، كان أزهريا لا علم له بلغة أجنبية ومع ذلك آثار اهتمامي واحترامي بقوة منطقه وهو يناقش اشخاصا من المعروفين بثقافتهم الواسعة وإطلاعهم العميق علي اللغات الأجنبية ... وأمتاز بهدوء الأعصاب وأدب الحديث فما أحتد مرة أو انفعل ولا حاد عن الموضوعية ... فاقتنعت بحدة ذكائه ومقدرته الجدلية وإطلاعه الواسع رغم اعتماده الكلي علي التراث والكتب المترجمة ..

عبدالوهاب إسماعيل فى المرايا مع تعديلات بسيطة غير جوهرية، يعبر عن شخصية سيد قطب التى عرفها نجيب عبر أطوارها المختلفة، فهو رجل مهذب، واثق، يتحدث بلطف، دون الخوض في الدين، يتبني العادات الأوروبية في المأكل و الملبس، يستمتع بالذهاب إلي السينما، إلا أن مظهره الحداثي ليس سوي واجهة، يكمن تحتها نموذج لمصري من الطبقة المتوسطة التي كان يطلق عليها الأفنديات، لا يري فيه محفوظ شيئا مقلقا أو حتي شريرا.

ويستمر نجيب محفوظ في سرده لسيرة عبد الوهاب إسماعيل وكيف أصبح إخوانيا .. وكيف أصبحت أفكاره متطرّفة ضدّ القوانين المستوردة وضدّ عمل المرأة، وضد الاشتراكية والوطنية والحضارة الأوروبية وضدّ الجاهلية المعاصرة ..

ثم ينتقل محفوظ مجسدا التحولات الهائلة التى مر بها المفكر المعروف، منتقلاً من مجال الإبداع الشعرى والنقد الأدبى إلى التبشير بالأفكارالإسلامية التي يسميها محفوظ المتطرفة وتكفير المجتمع الجاهلى!

 بعد الإفراج عنه يزوره الراوى، ويستمع إلى آرائه وأفكاره الجديدة - المتطرفة- فى جميع مناحى الحياة كما يقول محفوظ ، والتى تمثل الزاد الفكرى لجيل جديد من الشباب، بدأ مع الإخوان ثم انشق عليهم وغالى فى أفكار التطرف وممارسات العنف.

يرى عبدالوهاب "سيد قطب " أن القرآن يجب أن يحل مكان جميع القوانين المستوردة، ويحمل بعنف على الاشتراكية والوطنية والحضارة الغربية، فهى خبائث علينا أن نجتثها من نفوسنا.

ولا ينجو العلم من حملته الشعواء: لن نتميز به، نحن مسبوقون فيه وسنظل مسبوقين مهما بذلنا، لا رسالة علمية لنا نقدمها للعالم، ولكن لدينا رسالة الإسلام وعبادة الله وحده لا رأس المال ولا المادية الجدلية.

يقول محفوظ : استمعت إليه طويلا ضاغطا على انفعالاتي حتى لا أخل بواجب المجاملة ..

وفي الحقيقة تبدو مشاعر نجيب محفوظ غير ودية تجاه سيد قطب عند رسم صورة عبد الوهاب إسماعيل بما يتجاوز مجرد الخلاف الفكري .. برغم الطابع الروائي الخيالي في رسم الشخصية، وبرغم أن سيد قطب هو خريج دار العلوم ولم يدخل الأزهر يوما كما يظن كثير من ناقديه أو الكاتبين عنه ، وأن سيد قطب في الحقيقة راح ضحية الخلاف بين الإخوان وحكام ذلك الوقت في مصر ..