غزوة وادي السيسبان
مخطوطة من الأدب الشعبي..
د. محمد عقل
عثر الدكتور محمد عقل على مخطوطة أدبية نادرة في قرية عرعرة من قضاء حيفا بفلسطين بين مخلفات الشيخ أحمد الخطيب إمام القرية الأسبق ووالده الشيخ داود الخطيب المصري المكنى أبا فايد والمشهور باسم أبي دميسي إمام القرية ومعلم الأولاد في الكُتّاب. روى لنا لفيف من المعمرين أن الشيخ داود كان عالماً أزهرياً، قدم إلى فلسطين أيام حكم إبراهيم باشا، وكان يملك كتباً دينية وأدبية كثيرة. والمخطوطة من الإرهاصات الأولى للقصة الفلسطينية، من الأدب الشعبي.
وصف للمخطوطة:
في المخطوطة إحدى وعشرون صفحة يضاف إليها صفحتان مفقودتان، كما أن صفحة العنوان مفقودة وقد تعرفنا على اسم المخطوطة من الصفحة الأخيرة حيث ورد فيها ما يلي: "هذا ما انتهى من غزوة وادي السِّيسَبان"، وهي مخطوطة نادرة كُتِبَت بالخط الفارسي المسمى بنسخ تعليق، وقد أشار الناسخ إلى ذلك في الصفحة الأخيرة حيث ورد: "وكان الفراغ من تعليق هذه القصة..". في الصفحات الأولى من المخطوطة ثقوب كثيرة ناتجة عن انتشار السوس والبلى، وهي من القطع الصغير إذ يبلغ طول الصفحة 16سم وعرضها 11سم وفيها 17سطراً.
تاريخ نسخ المخطوطة:
في نهاية المخطوطة إشارة واضحة إلى زمن الفراغ من نسخها حيث ورد هناك ما يلي: " وكان الفراغ من تعليق هذه القصة نهار الثلاثاء المبارك في ثمانية عشر يوماً خلت في ربيع أول الذي هو من شهور 1264 سنة ألف ومائتين وأربعة وستين من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم"، وهذا التاريخ يوافق 23 من شهر شباط سنة 1848 ميلادية.
هوية ناسخ المخطوطة:
ورد في آخر المخطوطة أنه تم "رسم القصة بقلم العبد الضعيف له، راجي عفو ربه يوم أشد المخيف مصطفى بن الخليل"، أي أنه نسخها بالخط الفارسي المسمى بنسخ تعليق عن أصل مكتوب وليست من بنات أفكاره. فمن هو مصطفى بن الخليل؟ نحن نعتقد بأنه مصطفى بك الخليل الذي كان ملتزماً لجمع الضرائب في قضاء حيفا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ثم أصبح رئيساً لبلدية حيفا ما بين 1885-1903، وهو من أسرة قوقازية هاجرت إلى تركيا ثم إلى فلسطين، ومن أقاربه يوسف الخليل قاضي محكمة الصلح في حيفا. يجمع الرواة الذين قابلتهم في قرية عرعرة على أن الشيخ داود الخطيب المصري قبل أن يصل إلى عرعرة عمل إماماً في قرية خبيزة، وقبل ذلك عمل كاتباً لمصطفى بك الخليل حين كان الأخير ملتزماً لجمع الضرائب في العهد العثماني. يبدو لنا أن مصطفى تتلمذ على يد الشيخ داود الخطيب كون الأخير عالماً أزهرياً وقدم إلى فلسطين في عهد حكم إبراهيم باشا. ليس من المستبعد أن يكون نسخ المخطوطة جزء من واجبات ذلك التلميذ المدرسية. وجود المخطوطة بين مخلفات الشيخ داود وابنه الشيخ أحمد في قرية عرعرة يعزز فكرتنا القائلة بأن ناسخ المخطوطة هو مصطفى بك الخليل قبل أن يحصل على لقب باشا حينما كان يقطن في كفر لام وقبل أن يعمل في التجارة، أو يشتري أراض كثيرة أو يصبح ملتزماً.
النوع الأدبي للمخطوطة:
بحثت في كتب السيرة النبوية والمغازي فلم أجد ذكراً لغزوة اسمها غزوة وادي السيسبان، كما أنني لم أجد في كتب الخراج والبلدان أية معلومة عن وادي السيسبان، وقد ورد في المخطوطة أن هذا المكان يقع بالقرب من الغورضات، وربما كان يقع في غور الأردن في المنطقة المسماة بغور الصافي ناهيك عن أنه ترد أسماء أشجار مثمرة وأطيار جميلة منتشرة في فلسطين وشرق الأردن. ذكرت الدكتورة نبيلة ابراهيم في كتابها "أشكال التعبير في الأدب الشعبي" أن في مصر حكاية شعبية بطلها علي بن أبي طالب اسمها "غزوة مؤتة" وقد صنفتها ضمن حكايات الأخيار والأشرار، وقالت عنها أنها حكاية شعبية ذات طابع شيعي، وقد أوردت مقطوعة من هذه الحكاية تشبه كثيراً ما ورد في مخطوطتنا ما يجعلنا نعتقد بأننا أمام نفس الحكاية رغم أننا نعتقد بأنها أخطأت في عنوان الحكاية فقد ذكر الكاتب والشاعر أزراج عمر في مقالة له بعنوان "القصة الشعبية الجزائرية وأصولها العربية" أن غزوة وادي السيسبان قصة شعبية لا تزال منتشرة في الجزائر وقد صنفها كقصة بطولية دينية تعتمد على التاريخ الإسلامي وهو ما نعتقد أنه غير دقيق فالقصة خيالية، عجائبية أبطالها شخصيات إسلامية ولكن لا تسرد تأريخاً موثقاً. كما لا تزال حكاية غزوة وادي السيسبان منتشرة في المغرب إذ ذكر عبد الهادي التازي في مقالة له بعنوان "الإمام علي عليه السلام في الأدب الشعبي بالمغرب" أن في المغرب ملحمة شعرية بعنوان غزوة النمسي أو وادي السيستبان وتسمى كذلك غزوة وادي السيسبان وقد لخص مجريات الملحمة وشخوصها بما يلي:"[ كان في إحدى ممالك الكفر ملك يقال له عرفجة بن بغيل من كبار الشجعان. وكان له أربعون ولداً ، فقال يوماً: لا يوجد في العالم شخص يقدر على ملاقاتي! فقال له أحد وزرائه: بل يوجد ببلاد العرب شخص يسمى علياً بن أبي طالب لا يقدر عليه أحد لا في العجم ولا في العرب. فقال الملك: ولا أنا؟ فقال له: ولا أنت! فخرج في أبنائه الأربعين راكبين خيولهم قاصدين الحجاز. وقد ترك الملك ابنته (حُسْنَى) في الملك، وذهب فالتقى في الطريق بسيدنا علي، وسأل عنه فعرف من هو، وقابلهم كل عشرة مرة وقتلهم جميعاً، وقتل أباهم! فطلب منه أحد عبيد الملك أن يترك الرؤوس ليحملها إلى (حُسْنَى) فتركها له، ولما رأت الأميرة ذلك غضبت غضباً شديداً وأرادت الانتقام ، فأشار عيها أحد الوزراء الاستعانة بالغطريف النمسي لأنه شجاع، ففعلت وعرضت نفسها عليه، فقصد المسلمين وخرجوا له فضيّق عليهم الخناق.. وأخيراً توسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله في إرجاع سيدنا علي من الكوفة (كذا!)، فرجع وطويت له الطرق ووصل وقضى على الكفار وشتت شملهم وقتل زعيمهم الغطريف..وتسمى هذه الغزوة أيضاً غزوة وادي السيسبان]". من الجدير بالذكر أنّ ما ورد أعلاه يُساعدنا في استرجاع ما في الصفحتين المفقودتين من مخطوطتنا.
كان سارد السيرة الشعبية على السامعين يسمى في مصر بالراوي وفي المغرب بالمحدث وفي سوريا بالحكواتي. في مخطوطتنا يُستعمل التعبيران: "قال الراوي" و"قال صاحب الحديث" بكثرة وبتفاوت ما يدل على أن هذه المخطوطة وصلت من شمال إفريقية إلى مصر ومنها إلى فلسطين. هذان التعبيران استعملا لاستحضار الأذهان وشد انتباه السامعين ويدلان على أن المؤلف الأول مجهول رغم أن النص قد دُوّنَ في فترة متقدمة. يرد اسم علي بن أبي طالب كثيراً في المخطوطة كونه بطل القصة مسبوقاً دائماً بلقب الإمام ومختوماً في كثير من الأحيان بكرم الله وجهه، بينما أعطي هذا اللقب مرة واحدة لكل من عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وأبي بكر ما يدل على أن القصة ذات طابع شيعي وربما وصلت إلى مصر زمن الفاطميين وكثر استعمالها أيام الغزو الصليبي لبث روح الإقدام والحماسة والشجاعة والبسالة في جمهور السامعين. ورد في المخطوطة أن غزوة وادي السيسبان هي قصة والمقصود بهذا التعريف أنها حكاية وليس التعريف الفني لهذا المصطلح رغم أن هيكل القصة التقليدي الموساباني موجود فيها، وهي في نظرنا تعد من الإرهاصات الأولى للقصة الفلسطينية؛ وفي ما يلي ملخص مقتضب للحكاية: "[...أخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بخروج ملك اسمه الغطريف من بلاد الكفر على رأس أربعمائة وأربعة وعشرين ألف فارس قاصداً المدينة المنورة ليأسره وعلياً كرم الله وجهه ويقدمهما هدية للأميرة حَسْناء كي تقتلهما؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد فحضر جميع الصحابة ما عدا الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لأن الأخير كان في بيت عمته عاتكة في مكة المكرمة، فلما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يعقد للقادة الرايات بكى بكاءً شديداً لعدم مشاركة الإمام علي في هذه الغزوة، وسارع في الخروج فلما التقى الجمعان في وادي السيسبان رجحت كفة الكفار فراح النبي صلى الله عليه وسلم ينادي الإمام علياً ويستغيث به والملائكة تنقل صوته إلى الإمام علي في مكة، فلبى علي النداء وخرج قاصداً المدينة المنورة ليحضر أهله، فطويت له المسافات فوصلها في ساعة، ثم طويت له المسافات فوصل إلى وادي السيسبان في بضع ساعات، وهناك بارز عبداً للملك فقتله وهزم الكفار وشتت شملهم، فولوا هاربين، ودخل قسم كبير منهم في دين الإسلام...]". من الجدير بالذكر أن عدد فرسان الكفار يتكرر كثيراً في المخطوطة وهذا ما يميز الحكاية الشعبية، كما أن وزير الغطريف كان قد أسلم سراً قبل الخروج إلى المعركة أي أن الحكاية غير مسطحة.
منهجنا في تحقيق المخطوطة:
حرصنا في التحقيق على تصويب الأخطاء الإملائية وهي كثيرة، وأبقينا بعض الكلمات على ما هي عليه بالعامية حتى يستمتع القارئ بالأداء الشفوي المباشر ويتذوق نكهته، ويتعرف على طريقة السرد أمام جمهور المتلقين في ذلك الزمان. بسبب العطوب التي لحقت بالمخطوطة حاولنا تخمين الكلمات المضروبة ووضعناها بين معقوفين. لم نكتب تراجم لكبار الصحابة لأنهم معروفون، وصححنا أسماء بعض الصحابة استناداً إلى كتب الرجال والطبقات. وقد أشرنا إلى الصفحة في المخطوطة ب(ص) ووضعنا رقمها بين خطوط مائلة، أما الأرقام التي في داخل النص فهي أحالة إلى الملاحظات في الهوامش. وقد نشرنا المخطوطة محققة مع تقديم علمي على الشبكة الإلكترونية في" إي كتب" بلندن.
(د.محمد عقل باحث فلسطيني من قرية عرعرة بالمثلث- قضاء حيفا- لديه أرشيف كبير يضم وثائق ومخطوطات).