الِاطِّرَاْدُ وَالشُّذُوْذُ اللُّغَوِيَّاْنِ
د. محمد جمال صقر
تنازع بحث نظام اللغة قديما صنفان من الباحثين:
أما أولهما فكان منطق العلم والتعليم أغلب عليه منه على الآخِر. وأما الآخر فكان منطق الفن والإدهاش أغلب عليه منه على الأول.
ولقد أقبلا جميعا معا على الكلام العربي، استيعابا ونقدا؛ فكان صنفهم الآخِر أكثر رواية وحفظا؛ ففي حين يجمع الصنف الأول منهم النظير من الكلام العربي، إلى نظيره، وينفي عنهما من الكلام العربي نفسه غيرهما، موجبا على المتلقي عنه مراعاة ما جمعه، مانعا منه مراعاة ما نفاه -يورد الصنف الآخر منهما المثال من الكلام العربي، كيف مثل له، ويشفعه بغيره، مغريا المتلقي عنه بما أورده.
"وهما الطائفتان اللتان عَصَبَ بهما طُلّابُ العربية، وقد تضافرتا جميعا على استخراج هذه العلوم بعد أن كانت السابقة فيها للبصريين بما أصلوا وفرعوا؛ وكان في هؤلاء غريزة التحقيق والتمحيص دون الكوفين، فبغت لذلك إحدى الطائفتين على الأخرى نفاسة وحسدا، ثم استطار الجدال بينهم فوقعوا من المناظرة في أمر مستدير، وتباين ما بين الفئتين إلا حيث تتصلان في الكلام لتدفع إحداهما الأخرى؛ ومن ثم جعل الكوفيون يَتَمَرَّؤونَ (تَمَرَّأَ بِه إِذا طَلَبَ الْمُروءَةَ بِنَقْصِه) فينتقصونهم ليعد ذلك منهم قدرة على الكمال، ويعيبون الرجال ليكونوا هم وحدهم الرجال! أما البصريون فكانوا يريدون أن أصحابهم لو رُكِّبوا في نصاب رجل واحد ما بلغوا أن يعدلوا أضعف رجل في البصرة، وقد رموهم في باب من الكذب بقَمْصِ الحناجر، والأخذ عن كل بَرٍّ وفاجر، وجعلوهم من علماء الأسواق، وتلامذة الأوراق، ولَشَدَّ ما انْدَرَؤوا جميعا بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ بمثل هذا الكلام، وقاموا في المناظرة كل مقام؛ على أن العلم منذ وجد إنما تخلص حقائقه بالجدال، فرحم الله الغالب فيه والمغلوب (...).
ومن لدن الكسائي غلب أهل الكوفة على بغداد، لخدمتهم الخلفاء وتقديمهم إياهم كما علمت، فغلبوا بذلك البصريين على أمرهم، ورغب الناس من يومئذ في الروايات الشاذة، وتفاخروا بالنوادر، وتباهوا بالترخيصات، وتركوا الأصل، واعتمدوا على الفروع؛ ومن ذلك بدأ اختلاط المذاهب الذي عده البصريون اختلاطا للعلم، لأن مذاهب الكوفيين ليست عندهم من العلم الصحيح"[1]!
ثم كان الصنفان إذا ما تناظرا، قدح الآخر في استقامة ضبط الأول، بما يورده عليه من رواية ما يخل بتنسيقه، وقدح الأول في استقامة حفظ الآخر، بما يُبَهْرِجُ به روايته، حتى سَفَرَ بينهما مصطلحا الاطراد والشذوذ؛ "فجعل أهل علم العربية ما استمر من الكلام في الإعراب وغيره من مواضع الصناعة مطردا، وجعلوا ما فارق ما عليه بقية بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذا"[2].
الاطراد والشذوذ إذن مصطلحان علميان (صناعيان) طبيعيان قديمان باقيان؛ فهما من لوازم التقعيد حتى قيل: "لِكُلِّ قاعِدَةٍ شَواذُّ"، وكانت وما زالت ولن تزال ما دام في العلم تقعيد، بل ربما قاربت نسبة الشاذ نسبة المطرد، ولا ضير على نظام اللغة والتفكير من ذلك، ما دام أصل القضية هنا مفهوما؛ فهو نظام من المطرد والشاذ جميعا معا، بل في تَشْذيذِ الشّاذِّ طَرْدُ الْمُطَّرِدِ، أو هو كما يقال، يثبت القاعدة ولا ينفيها[3].
ولا وجه لثورة بعض الباحثين المحدثين، على الشاذ، رعايةً للمطرد، وإِخْراجِه كُلَّ ما له نظائر في القرآن الكريم إو إحدى قراءاته الصحيحة، أو في الحديث النبوي الصحيح، وكُلَّ ما اختص بالشعر، وكُلَّ ما اختص بلهجة عربية، وكُلَّ ما اختلف فيه النحويون، وكُلَّ ما كان بتأويل، وكُلَّ ما اختص بفترة معينة، وكُلَّ ما اعتمد على سائر القرائن، وكُلَّ ما كان تجميلا لصياغة لفظ -عن أن يكون شاذا، وعِفَّتِه عن أن يُسَمِّيَ ما لم يشمله شيء مما سبق، شاذا، مقتصرا فيه على عبارة "يُحْفَظُ، وَلا يُقاسُ عَلَيْهِ"[4]!
فليس في وصف المظهر من مظاهر نظام اللغة والتفكير بالشذوذ من ضَعَةٍ، ولا في وصف غيره بالاطراد من رفعة، إلا أن يُسْتَعْمَلَ المَجازُ، وهو لا تنبني به القواعد بل بمطرد الحقائق وشاذها اللذين تحكمهما شروط وتحددهما معالم:
"على أربعة أضرب:
1 مطرد في القياس والاستعمال جميعا، وهذا هو الغاية المطلوبة والمثابة المنوبة؛ وذلك نحو: قام زيد، وضربت عمرا، ومررت بسعيد.
2 ومطرد في القياس شاذ في الاستعمال (...) نحو قولك عسى زيد قائما أو قياما؛ هذا هو القياس، غير أن السماع ورد بحظره ، والاقتصار على ترك استعمال الاسم هنا؛ وذلك قولهم: عسى زيد أن يقوم (...)
3 والثالث المطرد في الاستعمال الشاذ في القياس (...)
4 والرابع الشاذ في القياس والاستعمال؛ فلا يسوغ القياس عليه، ولا رد غيره إليه. ولا يحسن أيضا استعماله فيما استعمله فيه إلا على وجه الحكاية.
واعلم أن الشيء إذا اطرد في الاستعمال وشذ عن القياس، فلابد من اتباع السماع الوارد به فيه نفسه؛ لكنه لا يتخذ أصلا يقاس عليه غيره (...)
فإن كان الشيء شاذا في السماع مطردا في القياس تحاميت ما تحامت العرب من ذلك ، وجريت في نظيره على الواجب في أمثاله"[5].
بهذا النص القديم المهم تفصلت مسألة الاطراد والشذوذ؛ فإنما كان المطرد في القياس والاستعمال جميعا، هو الغاية المطلوبة والمثابة المنوبة، من أجل طموح العلماء إليه وتعويلهم عليه؛ فهو الذي ترسخ به قواعدهم، وتستطيل؛ فتقنع المتعلم وتعجز الخصيم[6].
ولكن لما لم يمثل ابن جني للضربين الثالث والرابع، بشيء من مظاهر نظام اللغة والتفكير (النحو)، بل اقتصر على مظاهر صرفية -دل على أن الذي يصيب نظام اللغة والتفكير (النحو)، هو شذوذ الاستعمال، لا شذوذ القياس، وكأن هذا النظام (النحو) كان من وضوح المصادر والموارد، بحيث مكن العلماء من قياسه وتبويبه وضبطه، فاستوعب وجوه الاستعمال اطرادا وشذوذا.
لقد عرف ابن جني عداوة ما بين اللغة واللبس؛ فأوصانا أن نتمسك بالمطرد، وألا نتجاوز في الشاذ حده، وكأنه يعلمنا أن ليس كل مقيس يستعمل، بمقتضى الحكمة "ليس كل ما يعرف يقال". ولا ريب في أن المطرد يحفظ اللغة والتفكير، ولكن لا ريب في مضاء قانون التطور العام؛ فإن من مضادة الطبيعة اطراد هذا الاطراد؟
لقد كانت اللغة والتفكير العربيان من الرحابة والخصب، بحيث مكنا العلماء من وضع قياسهم الذي استوعب وجوها من الاستعمال، تتناوب اطرادا وشذوذا ما اختلف الليل والنهار، على وفق سنة التطور اللغوي العام، فما صار مطردا ربما كان شاذا، وما صار شاذا ربما كان مطردا؛ ولا سيما أن الشذوذ لا يناط بقلة ولا ندرة، بل بمخالفة الحال العامة في الباب (المطرد) من اللغة[7].
لقد جعل مجمع اللغة العربية المصري، هم لجنة الأصول، ثم لجنة الألفاظ والأساليب "تحرير ما تجري به أقلام الخواص من الكتاب، مما يخرج عن مألوف اللغة المتعارف، حريصا على توجيهه الوجهة التي تأنس بها أوضاع الفصحى، فيما هو مأثور من مسموعها الوثيق، أو فيما يستنبط من آراء أئمتها الأعلام حول الضوابط والأحكام"[8]. وكان ذلك "طوعا لما يقتضيه تجدد اللغة ونموها وسيرورتها من التقدير الدقيق لحاجة الاستعمال الحديث، ومن الوزن الرشيد للحس اللغوي والذوق البياني عند الكاتبين المعاصرين، في مختلف مجالات الإبانة والإيضاح"[9]؛ فتجلى موضع باب الاطراد والشذوذ من عمل اللغويين المعاصرين.
[1] مصطفى صادق الرافعي (تاريخ آداب العرب): 1/410، 412.
[2] أبو الفتح عثمان بن جني (الخصائص): 1/97.
[3] مما يذكر في هذا المقام أن طرفا من ثورة تشومسكي بما قبله إنما كان لمراعاة الشاذ.
[4] محمد أحمد العمروسي (الاطراد والشذوذ في النحو العربي بين القدامى والمحدثين): 246.
[5] ابن جني (نفسه): 1/97-98، 99.
[6] مما يستطرف في هذا المقام قول برافمن الذي أورده الدكتور محمود أحمد نحلة (مدخل إلى دراسة الجملة العربية)، بشأن رأي البصريين في الجملة الاسمية الكبرى (عبد الله قام): "أؤكد أننا مضطرون إلى الموافقة على تعريف النحاة العرب كما ورد في أكثر كلامهم؛ فهم الذين رووا المادة اللغوية بما هي انعكاس أو وصف للتركيب النفسي أو العقلي الذي ترتكز عليه الظواهر التركيبية المختلفة في فكر المعاصرين لهم"؛ فلهذا نبني على أقوالهم ولا نهدمها، فإن تناولنا كلاما أو حديثا كان اعتماد أقوالهم أحرى لكشف مدى التطور.
[7] مجمع اللغة العربية (في أصول اللغة): 1/128.
[8] مجمع اللغة العربية (الألفاظ والأساليب): 2/ج من المقدمة.
[9] السابق نفسه.