فجر القصة الشعرية
أ.د/
جابر قميحةلم يخل العصر الجاهلي من شعر قصصي ، ولكننا بصفة عامة لا نستطيع أن نسلكه في باب القصة الشعرية ذات البناء الفني بمفهومه الحديث . صحيح أن الأحداث تتابع فيه بواقعية وصدق ، وفيه أحيانًا دقة في تصوير المواقف والشخصيات والمنازع النفسية ، ولكنه تغلب عليه البساطة من جهة ، ويتسم بالغنائية الحادة من جهة أخرى ، فهو قد حرم التعقيد الذي يعد من أبرز سمات العمل القصصي ، ولم يكن مقصودًا كفن له اعتباره وملامحه ، بل كان يرد غالبًا ضمن القصائد الغنائية التي استغرقت الشعر العربي في هذا العصر .
غير أن هذا اللون من الشعر كان نواة للشعر القصصي الذي تلاه ، ونشير في هذا الصدد إلى شعر النابغة الزبياني الذي صور لنا ما وقع له مع المتجردة ومع زوجها النعمان بن المنذر ، وشعر امرئ القيس الذي يصور فيه مغامراته الغرامية الفاضحة ، وشعر السمؤل ، وزهير بن أبي سلمى ، وغير هؤلاء ممن عبروا لنا في شعرهم عن أفكار ومشاعر تولد أكثرها من أحداث غريبة وقعت لهم .
ولا شك أن غلبة الذاتية على هذا اللون من الشعر أضعف من الحبكة القصصية ، لأن الموضوعية هي أهم خصاتئص الشعر القصصي ، إلا أن هذه الغنائية لا تنفي الصبغة القصصية عن هذا اللون من الشعر نفيًا مطلقًا ، وقد ترتقي بعض القصائد القصصية فتستوفي من عناصر الفن القصصي ما يسلكها في باب القصة الشعرية .
فالنقف عند نموذج من هذا اللون عند شعرائنا القدامى ، لنرى حظه من هذا الفن :
المنخل اليشكري :
ومن هذا القبيل تلك المغامرة الغرامية التي صاغ تفاصيلها الشاعر الجاهلي المنخل اليشكري في رائيته المشهورة . والتي مطلعها :
إن كنت عاذلتي فسيري = نحو العراق ولا تحوري
ويقال إنها مغامرة حقيقية بينه وبين هند بنت عمرو بن هند ، وبلغ خبرها عمرًا ( أباها ) فقتله ، وقيل أن الذي قتله هو النعمان بن المنذر لغرام بينه وبين زوجته ( انظر الأصمعيات من ص 58 – 61 ) .
ومنها :
ولقد دخلت على الفتا = ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر = فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت = مشي القطاة إلى الغدير
ويختمها بقوله :
فإذا انتشيت فإنني = رب الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني = رب الشويهة والبعير
فالشاعر في صدق وبساطة وجمال تشير إلى الجو الذي تمت فيه المغامرة ، لقد كان الجو باردًا مطيرًا وكفى ، ولم يجنح إلى ما درج عليه الآخرون من تصوير الأخطار التي يتخطاها وصولاً إلى المحبوبة . والشعر هنا على قلة الأبيات فاق سابقيه في تصوير الملامح النفسية :
1- فلوعة الحب استبدت به حتى سيطرت على جسده حرارة العشق التي لم تخفف منها برودة الجو .
2- والحب زاد وفاض وتخطى الحبيبين إلى الحيوان الأعجم .
3- والشاعر إذا لعبت برأسه الخمر تعابثه الأحلام حتى يرى نفسه ملكًا مملكًا ، والإفاقة تصدمه بالواقع المر فإذا هو الراعي الفقير رب الشويهة والبعير .
فنحن هنا أمام لون يغلب عليه الطابع النفسي الصادق الذي افتقر إليه امرؤ القيس في حسيته المنهومة .
**********
ولكن تبقى ميمية الشاعر المخضرم الحطيئة ( جرول بن أوس ) أدل ما قيل في هذا المقام موضوعيًا ، وفنيًا ، فهي قصة شعرية بكل عناصرها . ونقدم للقارئ نص أبياتها :
وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ = ببيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ = يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى
وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً إِزاءها = ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما
حفـاة عراة ما اغتذوا خبـز ملة = ولا عرفوا للبر مذ خلقـوا طعما
رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ = فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَشمَّرَ وَاِهتَمّا
فقال هيا رباه ضيف ولا قــرى = بحقك لا تحرمه تالليلة اللحمـا
وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ = أَيا أَبَتِ اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي طَرا = يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أَجحَمَ بُرهَةً = وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا
فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ = قَدِ اِنتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما
عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها = عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما
فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها = فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما
فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ = قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما
فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ = وَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى
فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم = فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما
وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً = لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا
والقصيدة كما هو واضح استكملت كل عناصر القصة الشعرية ، يستغلب عليها الموضوعية ، وتتخلى عن الطابع الغنائي السائد . وهي قصة مستقلة مقصودة بذاتها ، ولم ترد في سياق غيرها من قصائد المدح أو الفخر أو الغزل .
والأحداث تقع في صحراء موحشة " لم يعرف بها ساكن رسما " .
وملامح البيئة القاسية تنعكس على شخصيات القصة التي وفق الشاعر في رسمها وتجديد ملامحها :
فالشخصية الأولى هي شخصية الأعرابي الخشن الجافي الذي حرم متعة الحياة في بيداء لا ترحم .
وأسرة الأعرابي من أم عجوز وثلاثة أبناء عراة جياع يعيشون على الحرمان .
وبعد هذا العرض البسيط الواضح يرتقي الشاعر إلى لون من التعقيد والتركيب .... ففجأة يظهر شبح ضيف غير متوقع ، ويقع الأعرابي نهبًا لصراع نفسي فادح : هل يعتذر للضيف بالعُدم والحرمان ، فيظن الضيف به بخلا ؟ أم يذبح ابنه ويقدم للضيف وجبة من لحم فلذة كبده .
ويصل الموقف إلى قمة التأزم ، ونجد أنفسنا أمام " عقدة " حقيقية حين نرى الضيف يهم بذبح ابنه ليفي الضيف الطارق حقه ، حتى لا يدركه العار والمزمة في بيئة أرفع قيمها الكرم والأريحية .
وبعد أن بلغت العقدة قمة التأزم يأتي الحل في صورة طبيعية لا تكلف فيها : إذ يظهر قطيع من حمر الوحش يصيد منها الأعرابي " أتانًا " سمينة ذات جحش ، ويقضي حق ضيفه ، ويبيت الجميع في سعادة وهناءة . وهو حل يتسق مع طبيعة " البيئة "، ويتسق مع طبيعة " الشخصية العربية " التي تحرص على التحلي بالكرم والشهامة والأريحية .
والشاعر يستعين في تصوير " الصراع النفسي " بالحوار الداخلي :
هيا رباه ضيف ولا قرى ؟
كما يستعين " بالحوار الخارجي " ( الديالوج ) حين يدخل الابن مسرح القصة ليمثل الشخصية الثانية ويقوم بدور " الفداء " ، فيذكرنا بقصة إبراهيم وإسماعيل الذبيح عليهما السلام .
والأحداث تتلاحكم في صورة عضوية لتخلق " حبكة " تتدفق بالتشويق ، وتجعل من القصيدة أقصوصة شعرية كاملة ، فيها العرض الناجح ، والتصوير الدقيق البارع ، والصراع النفسي ، والحوار بنوعيه الداخلي والخارجي ، والعقدة ، والحل .
ولكن القصيدة لا تمثل اتجاهًا فنيًا مطردًا في الشعر الجاهلي ، أو في شعر الحطيئة ، فهي وإن مثلت البيئة العربية من الناحية الاجتماعية والنفسية لا تمثل – باطراد - الشعر العربي الجاهلي من الناحية الفنية والموضوعية .