بلقيس الملحم بين التخشيب والعدمية

بلقيس الملحم بين التخشيب والعدمية

يوسف هداي الشمري

[email protected]

بلقيس الملحم، كاتبة سعودية، اتخذت من العراق مكانا لمعظم قصصها، سواء ما نُشر في مجموعتها البكر ( أرملة زرياب) أو ما تطالعنا به بين الفينة والأخرى في المواقع الالكترونية .

ثمة قصص ثلاث قصار نشرن لها سوية ( قدوم ، مشجب، دسم) ومن خلال نظرة سريعة للعناوين، نلمح وشائج قربى تجمعها لبعض، فالقدوم حاضر للنحت أو ربما لتغيير الواقع البغيض وإنهاء ماهية  (مشجب)  نعلق عليه أخطاءنا . ليُنجر من بعدها شكل جديد بأخشاب قوية ندهن أيدينا بها بعد الانتهاء.

وفي كل قصة  من القصص الثلاث ثمة شخصيتان، ليكون العدد ستة ، خمس منها بلا أسماء وواحدة باسم ( لبنى) والذي جاء زائدا،حتى لو أننا حذفناه لما فقدت القصة شيئا من معناها . ويواكب حجب الأسماء هذا تجريد تلكم الشخصيات من أوصافها الظاهرية، إلا أننا أحببناها وتعاطفنا معها بعد أن استطاعت الكاتبة في حرفة وذكاء سبر أغوارها والإيحاء بمشاعرها الخفية .

تخشيب النص

تحتشد الأخشاب أو ما يمت لها بصلة كالمسامير والمقابض  في قصصها بشكل ملفت ، من خلال مفردات تتبعثر بشكل عفوي في ثنايا النصوص (قدوم، مشجب، خردة من مقابض الأدراج، أخشاب التابوت، مادامت الاخشاب قوية ، الوطن مخلوع دون مسامير، جريت خلف السفينة التي حملوا فيها الكثير من الأبواب، خلفا للباب المسروق)

قد يكون سبب هذه الوفرة هو الواقع المتخشب الذي عاشته الأمة العربية لعقود من الزمن، وهي ترزح تحت نير ديكتاتوريات مستبدة جمدت الدماء الساخنة التي كانت تمور في أوردت شعوبها، وأحالتها لجماد تعدم فيه الحياة، ولا يحركه سوى ( قدوم) يهوي عليه من الأعلى بعد أن علقته الكاتبة فوق النصوص الثلاثة، لينظر من عل وكأنه يروم أن ينهد على هذه الأخشاب الميتة بغية تهشيمها أو نحتها، لتغيير صورتها، فتنقلع الأبواب وتتراقص المسامير وتتفكك مقابض الأدراج .

هذا الخشب  وهو المادة العضوية الليفية ، والذي استخدم أساسا للوقود، وحديثا كثرما يستخدم للأثاث والأبواب والشبابيك وأعمال الديكور .

وبما أنه مادة قابلة للاشتعال، فقد تلتهب فيه النيران يوما فتحرق كل من تسببوا في تخشيبه .

العدمية

تفرض العدمية نفسها بقوة ، من خلال الصراع بين الحياة والموت، الذي يتجسد في قصة( قدوم) بمحاولة انتحار السجين، الذي أراد التحرر من اللاوجود إلى الوجود، إذ نلحظ حضوره في البدء، ثم نجده جثة هامدة خارج أسوار السجن .

فالعدم كما يراه هيدجر: الحضور أحيانا والغياب أحيانا أخر، وهذا الحضور الذي يتبعه غياب يتجلى في قصة ( مشجب) فثمة امرأة ستينية قد عشقها أحد النجارين، وسرعان ما توليه ظهرها وهي داخل التابوت .

أما السجين فهو موجود ولكنه مختفي خلف القضبان في إحدى زنازين أبو غريب، وكذلك اختفاء الأبواب في السفينة التي اختفت هي الأخرى في بحر نصف هائج .  

 أما العدم في الفلسفة الهندية : فهو النيرفانا، وهي حالة من عدم الإحساس، يتوصل فيها الإنسان إلى نوع الشلل كما حاصل مع أخشاب بلقيس الملحم أو جثث أمواتها .

النصوص كما هي : 

قدُّوم

لا أحد يسمع صوت الأسماك الباكية. ولا آلام خصيتيه المذبوحتين. ولا  زَبَد صرخته الأخيرة حين قرر الانتحار في إحدى زنازين "أبو غريب" الضيقة. وحدها خطيبته لبنى من قررت أن تواصل معه المشوار

 المبلغ الذي لديها لا يكفي إلا لشراء قضيب بارد!

 جاءت يوم المواجهة بشاش أبيض ومراهم شبه عفنه. غير أن نباح الكلاب صرفتها خارج الأسوار لتبحث عن جثته!

مشْجَب!

شهية حتى وهي في الستين من عمرها. لكنه لم يحض في حياته بقبلة منهارغم المرات العديدة التي اختلى بها في منجرته القديمة حين كانت تبيعه بالخفية خردة من مقابض الأدراج, كانت ورثتها من زوجها المتوفى. حتى إذا ما مرَّت ذلك اليوم من أمام بيته مديرة ظهرها. فتح أنفه يشمُّ أخشاب التابوت مُعزِّيا نفسه: دونك تفاصيل الشِّفاه!

دَّسم!

عمتي هي من قالت لي: ما دامت الأخشاب قوية فادْهَني يديك بها بعد الغداء. وفعلت ما نصحتني به. لكنني رأيتُها والوطن مخلوع دون المسامير التي رقصت ساخرة مني.

جريت خلف السفينة التي حمَّلوا فيها الكثير من الأبواب. إلا أنها كانت أسرع والبحر وقتها كان نصف هائج.. فيما شيَّعتني الرياح بستارة علَّقتها عمتي خَلَفًا للباب المسروق!