المتوكّل طه يَلِجُ "الأبواب المنسيّة"
المتوكّل طه يَلِجُ "الأبواب المنسيّة"
ويكشف خباياها وسوءاتها
موسى أبو دويح
كتب المتوكّل طه قصصه القصيرة التي سمّاها "الأبواب المنسيّة" والبالغة ثلاثا وستين قصّة، جمعها في كتاب سمّاه "الأبواب المنسيّة"، والتي صدرت طبعتها الأولى عن وزارة شؤون الأسرى والمحرّرين في رام الله سنة 2011م في حوالي 220 صفحة من القطع الوسط.
غلاف الكتاب ولوحاته الثِنتان والسّتون لوحة من تصميم الفنّانة ريما المزيّن.
الكتاب مُهدًى إلى شهداء وأسرى الحريّة، وقدّم له السيّد عيسى قراقع وزير شؤون الأسرى والمحرّرين مقدّمة وافية.
قصص المتوكّل، تشكّل كلّ قصّة منها لوحة مستقلّة؛ ولهذا رسمت الفنّانة ريما المزيّن ثنتين وستين لوحة تعبّر في كلّ لوحة منها عن قصّة من قصص الكتاب –وإن كان فنّ هذا الرّسم لا يعرفه كثير من النّاس، وأنا واحد منهم- وتشكّل كلّ قصّة منها موضوعًا مستقلا عن مواضيع القصص الأخرى، إلا أنّها جميعًا يجمعها سور السِّجن وأسلاكه الحديديّة الشائكة المكهربة، وجُدُرُهُ الإسمنتيّة المسلّحة بقضبان حديديّة ثخينة، وأبواب زنازينه الفولاذيّة، وسجّانوه ومحقّقوه ذوو القلوب المترعة حقدًا ومقتًا على كلّ مَنْ سواهم.
المتوكّل طه في "أبوابه المنسيّة" يفضح بعض ما عاناه ويعانيه المعتقلون السياسيّون في السّجون الإسرائيليّة؛ فهو يتحدّث عن حياة عاشها هو ويعيشها حتّى الآن عشرات الآلاف من السّجناء السياسيّين الفلسطينيّين. وهل يتصور عقل أن يبقى معتقل قرابة ثمانين يومًا في التّحقيق المركزيّ دون اغتسال أو حتّى شطف يدين. (صفحة 133).
كتب المتوكّل قصصه بلغة أدبيّة فصيحة، وخيال مجنِّح يعرج إلى عنان السّماء، إلى درجة أن يَخْطِبَ معتقل جنيّة من أبيها وأشقّائها الّذين حضروا إلى السّجن ليلا، ولم يتمكّن أحد من رؤيتهم سوى العريس، الّذي اشترط عليهم أن لا تحمل منه ما دام في السّجن. فوافقت ووافقوا. (صفحة 119).
وأنا هنا أنقل قصّة من قصص الكتاب حتّى تتحدّث عن نفسها:
[طوبى
أخذوه منها!
لم يبقَ لها في الدنيا غيره، تزوّجت وأنجبته بعد سنوات من الرّجاء والبكاء، وراح زوجها إلى البعيد، ولم يعد! وأحاطت ابنها برموشها وشغاف قلبها، وكبر مع النّذور والصّلوات، وهيّأت له كلّ ما تستطيع ليعوِّضَها! لكنّهم اعتقلوه؛ كأنّهم نزعوه من أضلاعها، أو سلخوه من روحها، أو قطعوا فلذة من كبدها، وأدموا قلبها، فبكت ورجت، وكادت تهيم جنونًا وتفقد لُبَّها، لولا أن ربط الله على فؤادها فتماسكت وبقي دمعها جاريًا، وطَرْحتُها السّوداء تلفّ رأسها المفزوع، الّذي يتفتّت خوفًا عليه وجزعًا على مصيره.
وراحت ترابط أمام السّجن، تقف من الشّروق إلى الغروب، لا تأكل ولا تشرب، ودمعها يبلّل أرض قدميها، وتعود صافنة شاخصة في السّماء وفي جدران السّجن، وصارت تنام واقفة، وتبزغ الشّمس فتجدَها على حالها، واقفةً حيث تركتها أمام السّجن. واعتادت الكائنات على منظر وقوفها، ولم تفلح الدّعوات والّلغات معها، لتعود إلى دارها! بقيت ماثلةً راسخةً أمام السّجن، وشيئًا فشيئًا ضربت جذورها في التّراب، وأطلقت ذراعاها الأوراق والأغصان، وتفرّعت من رأسها ووشاحها طلوق خضراء، وبدأت شروشها تدّب في الأرض، وتصعد في كلّ اتجاه إلى أن أصبحت شجرة، لجذعها شكل قوام امرأة، يصّاعد منها غصنان كبيران، التفّت حولهما غصون كثيرة وورق أخضر كثيف.. وجاء الطّير وحطّ عليها، وراح النّاس يتظلّلون بفيئها، واحتشدت بالأعشاش والزّغب والهديل والزّقزقات، وأضحى من يمرّ بها يعتقد أنّها شجرة تنبئ بغابة ستمتدّ، لتنشر المسك والشهد والزّنجبيل].
فهل بعد هذا الوصف من وصف؟ّ! وهل بعد هذا البيان من بيان؟! وهل بعد هذا الخيال من خيال؟! وهل بعد هذا الإيجاز من إيجاز؟! إنّها غنيّة عن الشرح والبيان والتّعليق.