عبد الخالق فريد شاعر الحب والجمال
عبد الخالق فريد شاعر الحب والجمال
عيسى فتوح
يوم الاثنين في 16/11/2009 اتصل بي الأديب الصديق فاضل السباعي مساء، ليقول لي إن أحد الشعراء العراقيين يزوره، وهو يريد أن يكلمني فإذا المتكلم هو الشاعر والأديب العراقي الكبير عبد الخالق فريد الذي كنت أقرأ قصائده الغزلية الجميلة، ومقالاته الأدبية على صفحات مجلة (الأديب) اللبنانية قبل احتجابها ووفاة صاحبها ألبير أديب ( 1908 – 1985) ولا أزال أقرؤها اليوم على صفحات مجلة (الضاد) الحلبية لمؤسسها عبد الله يوركي حلاق (1911 – 1996).
تواعدنا أن نلتقي الساعة التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي في مكتبة دار الهلال، لصاحبها حكمت هلال، وإذا به يحمل لي ستة كتب من مؤلفاته التي بلغت حتى الآن ستة وعشرين كتاباً، هي ثلاثة دواوين شعر (عبق الرحيق) و(الحب في مرافئ العيون) و(عيناك نجوى ذكرياتي) وكتاب (مذكرات في الأدب) وهو مجموعة من المقالات والدراسات النقدية والخواطر والانطباعات واللقاءات مع بعض الشعراء والأدباء العرب كعبد الله يوركي حلاق، وسامي الكيالي، وصالح جودت، وإبراهيم ناجي، والأخطل الصغير، وفيروز وغيرهم.. أما الكتابان الباقيان فهما (عبد الخالق فريد شاعر الحب والجمال) للدكتور أحمد مطلوب و(عبد الخالق فريد في رياض الأقحوان) للدكتور عبد الله الجبوري.
لم أكد أعود إلى البيت حتى حرت في أي كتاب أبدأ، هل أبدأ بقراءة دواوينه الغزلية الصريحة أو مقالاته الجذابة، أو في ما كتبه عنه الدكتوران مطلوب والجبوري؟ وأخيراً قررت أن أبدأ بكتاب الجبوري صديقه الحميم الذي سرد فيه نتفاً مبعثرة من حياته المأساوية، وكيف أن والده (فريد) بن رشيد بن فتح الله بن عبد الله العباسي الذي كان موظفاً متنقلاً في المالية، قد قتل في محافظة القادسية عام 1932 وعمر طفله أربعون يوماً، فانتقلت الأسرة إلى بغداد، حيث تعلم الطفل اليتيم في مدارسها، وكان بارعاً جداً في دراسة اللغة العربية وآدابها.
بعد أن أنهى مرحلة الثانوية عام 1952 دخل كلية الحقوق، ومكث فيها سنتين، ثم تركها لظروف خاصة إلى أن عمل عام 1957 في البنك العربي، وبعد تأميم المصارف انتقل عام 1974 إلى مصرف الرافدين حتى عام 1981 حيث تحرر من أسر الوظيفة وتفرغ للشعر والأدب، وهو أب لثلاثة أبناء وبنت واحدة أسماها (غلواء) وهو اسم زوجة الشاعر الياس أبي شبكة (1903 – 1947) الذي كان معجباً به إلى أبعد الحدود، وأصدر كتاباً عنه عام 1988.
عكف عبد الخالق فريد على مطالعة الشعراء المعاصرين أمثال: الياس أبو شبكة، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل وصالح جودت، وإبراهيم ناجي والأخطل الصغير، وتأثر بهم كثيراً، ولا سيما إلياس أبو شبكة..
وقد بدأ بنظم الشعر وهو في السابعة عشرة من عمره، لكنه لم يبدأ بالنشر إلا في أواخر عام 1953، وكان باكورة إنتاجه ديوان (نداء الأعماق) الذي صدر عام 1955، وكتب مقدمته الشاعر عبد القادر رشيد الناصري المتوفى عام 1962، وقد كتب الناقد الكبير مارون عبود (1886 – 1962) عن هذا الديون في كتابه (نقدات عابر) فقال إن شعره تقليد لشعر أبي نواس، وكان لنقده أثر حميد في صقل موهبته ومواصلة الدربة والتثقيف.
لقد كرس عبد الخالق فريد معظم شعره العمودي للغزل بالمرأة، لأنها مصدر الإلهام والإبداع والعبقرية، ومال إلى عالمها بعد أن نفض يديه من البحث عن المال والجاه والمنصب.
كان يستبيه الجمال أينما وجده، يطير بأشواقه من روض إلى روض، لا يكترث بالشهرة، ولا يسعى إليها.. وشعره صورة صادقة عن نفسه التي يسحرها الجمال ليس في المرأة فحسب بل في كل شيء يراه ويقع تحت ناظريه كأنه موكل بالجمال والبحث عن الملذات، فالعمر قصير، والحياة فانية، كما يقول ابن زيدون:
واغتنم صفو الليالي إنما العيش اختلاس
كان صادقاً في التعبير عن مشاعره الفياضة، وأحاسيسه المرهفة، وعما يختلج في قلبه، ويضطرب في وجدانه.. وكان جريئاً في البوح عن معاناته، فقد تأثر بشعراء جيله الذين هاموا بالحب، وأفردوا له دواوين كاملة أمثال: شاعر عرار (مصطفى وهبي التل) في (عشيات الوادي اليابس) وإلياس أبو شبكة في (أفاعي الفردوس)، وحسين مردان في (قصائد عارية) وصفاء الحيدري في (أوكار الليل)، والدكتور علي الناصر في (سريال) و(اثنان في واحد) و(هذا أنا)، ونديم محمد في (آلام) و(فراشات وعناكب) ووصفي قرنفلي في (وراء السراب) وعبد السلام عيون السود في (مع الريح)، وخليل الخوري في (حبات قلب) ونزار قباني في أكثر دواوينه، وغيرهم من الشعراء الذين عكفوا على وصف الشهوات والنزوات في أشعارهم.. ويرى الدكتور عبد الله الجبوري "أن هذا اللون من الشعر، كان استجابة لنوازع اجتماعية فجرها ديوان (أفاعي الفردوس) لإلياس أبو شبكة الصادر عام 1938".
يقول الجبوري: "إن عبد الخالق فريد أصدر عشرين ديواناً في المرأة فقد رافقها في بيانه منذ أن كتب أولى تجاربه عام 1953 حتى اليوم، والمرأة عنده هي غير المرأة (البضاعة)، المرأة الروح والمشاعر والوجدان، لا المرأة السرير والعبث.." وهل هناك أرق وأعذب وأرقى وأجمل وقعاً في النفوس من قوله في قصيدة (إلى الأشقر) التي جاء فيها:
مات الهوى والأمل الأخضر يـا بـهجة الدنيا ويا طيبها كـيف تناسيت زماناً مضى كـنـا وكـانت ذكريات لنا كـنـا أساطير بدنيا الهوى فـعـدت أقتات رؤى غربة | مـن بعد هجرانك يا أنـت المنى والنغم المسكر وهـو بـفـكري قمر نير؟ يـشدو بها في الحانة السمر مـسـحورةً جن بها عبقر خرساء كالصحراء أو أقفر | أشقر؟
أو قوله:
على مقلتيك ترف المنى وتورق أحلامي الزاهية
وفوق شفاهك تهمي الرؤى وتسمو رغباتي الدانية
كانت فلسفته في الحياة قريبة جداً من فلسفة عمر الخيام، هذه الفلسفة التي تقوم على نشدان الملذات واقتناصها أينما كانت، وشهود حفلات القصف والغناء والطرب، ومعاقرة الخمرة التي تنسيه هموم الحياة ومتاعبها إضافة إلى نظم الشعر كما يقول:
مطلبي في الحياة ديوان شعر ومدام ومزهر وحبيب
إن رآني صحوت من نشوة الكأس دعاني لنشوةٍ لا تغيب
ويكرر أنه يقنع من حياته بكأس ونديم وحبيب، فالحياة وهم وفراغ في نظره:
كل ما مر من حياتي وهم وفراغ في ذمة النسيان
حسبي اليوم من زماني كأس ونديم تضمه أحضاني
يعلل الدكتور الجبوري أسباب اتجاهه نحو هذه الحياة البوهيمية، وهذا اللون من الشعر، فيحصرها في اليتم المبكر والحرمان والقهر، وتحولات السياسة في العراق إذ يقول:
"إن عبد الخالق فريد عاش في بيئة جمالية، وانضجت قلبه لفحات الحرمان، وعانى ما عانى في "يتمه" يعتصر الحزن شغاف قلبه، كما ذكر مصرع والده وهو طفل رضيع، ثم القهر، وتحولات أنظمة الحكم الرهيبة في وطنه، ولذلك انطوى على نفسه وأخذ شبابته بيمينه وكأسه بشماله، وراح يضرب على أوتار النفس، ما شاء له الهوى، وعلى الدنيا السلام".
ويؤكد الدكتور أحمد مطلوب هذه الظاهرة نفسها في الكتاب القيم الذي ألفه عنه، ويردها إلى اليتم والحرمان، والانطواء والهرب من مخالطة الناس إذ يقول:
"كانت كل مكوناته النفسية والفكرية والجسدية تنمي بذرة الشعر التي واكبته غب لحظات الولادة، وتتشرب في أعماق أعماقه.
وكان لليتم والحرمان والانطوائية، والهرب من الناس، وإحساسه الدائم بالتفرد، أثر في تنمية هذا الشعور، وتجسيده في كيانه الذي أطلعه إنساناً غريباً عن كل ما يحيط به، إلا عن ذاته ووجوده".
ومهما تكن الأسباب التي كمنت وراء تكوين هذا الشاعر المبدع، وألهمته نظم هذا الشعر العذب الذي دار في معظمه حول الحب والجمال والمرأة الفاتنة.. فإنه يبقى في طليعة شعراء الغزل الصريح في أدبنا المعاصر.
عن: الأسبوع الأدبي – رقم 1197