مجموعة: (شارع في كركوك)

للقاص العراقي نصرت مردان

زينب البحراني

"مرّت وجوه كثيرةٌ من أمامي، لا أتمكّن من عدّها وحصرها، وجوهٌ تطلّعت إلى ملامحها، مشّطتُ شعرها، ألقت بنظرةٍ على نفسها، وجوهٌ نظرت إليّ لترى نفسها. الوجوه القبيحة لم تكُن تُطيل النّظر، وكأنّ أصحابها على عجل، بينما الوجوه الجميلة والوسيمة كانت تُطيل النّظر إلى وجهي، وكأنّها تتلذذ برؤية ملامحها، كُنتُ أعكس ملامح الجميع كما هي، دون تزويق...... صـ 110"

حين تقرأ هذا المقطع من قصّة (حديث مرآة) في مجموعة (شارع في كركوك) للقاص العراقي (نَصرَت مَردَان)؛ يبدو وكأنّك تسمع قلم الكاتب مُعبّرًا عن تجربته العميقة في مُراقبة النماذج البشريّة والقبض على تفاصيلها المُتباينة بحرصٍ وإتقانٍ، لتمتزج بإحساسه الرّفيع قبل أن تنصبّ في قالب نصّها الإبداعيّ المُلائم.

المجموعة التي استلقت سطورها على 191 صفحة من الحجم المتوسّط لتنسج بهذا ثالث مجموعاته القصصيّة بعد (عمت صباحًا أيّها المساء) و (حانة الأحلام السّعيدة)؛ استحقّت ما كتبه عنها القاص والفنّان التّشكيلي العراقي (فاضل ناصر) تحت عنوان: "نصوص تغوص في أديم المسرات والمواجع" مُشيدًا:

" إنّ التّصالح مع الذّات يعني الاقتراب نحو ترميم اللحظة المُبدعة بالكشف والرّؤيا والصّدق، وهذا التّصالُح في لحظة الخراب والدّمار كان أشدّ قسوةً على إنتاج القاص المُبدع "نصرت مردان" وأكثر إضاءةً لأعماله القصصيّة والمسرحيّة والشّعريّة المُختلفة التي كانت دومًا ضدّ ثقافة الاستلاب وسُلطة الموت.

إنّه في جديده القصصيّ الذي بين أيدينا، ينظر إلينا في استراحة الهدنة القصيرة من ثقب رصاصةٍ في ذاكرة الأيّام التي أصابت كينونتنا الاجتماعيّة والسّياسيّة في جغرافيّة وجودنا وألمنا الإنساني. إنّه يسبر ويوغل عميقًا في تحوّلاتنا ليُشاطر ملامحنا وتماهينا مع الحياة اليوميّة في أجلى صور الكشف والائتلاق، إنّه يُقاربنا خلسة، وبكلّ تأنٍ وهدوء، وبلغةٍ واقعيّة وحسيّةٍ مشحونة بالدلالة والترميز والإيحاء والإيجاز، وببناءٍ فنّي مُحكم لعالمٍ مُدهش وأخّاذ من جهة، خانق ومقموع من جهةٍ أخرى، وهو في هذه التضادات والمُفارقات الحيّة ُقدّم لنا

ملامح بشريّة نعرفها بدقّة، بيد أننا نكتشف بغتةً بأنّها ملامحنا جميعًا وبدون استثناء"

ضمّت المجموعة في جُزئها الأوّل ستّة عشر نصًا قصصيًا مُتفاوتة الطّول والتّكثيف، بينما احتوى جزئها الثّاني خمسة عشر نصًا قصصيًا قصيرًا جدًا تحت عنوان (قصص برقيّة). وامتازت النّصوص إجمالاً بأفكارها الجديدة، ومُعالجاتها الخارجة عن المألوف، والإحساس العميق بكيان الشّخصيّة التي تمّ اختيارها بعناية لاحتلال دور البطولة في كُلّ قصّة. فيسمع القارئ البطل، ويتّحد إحساسه بأحاسيسه، ويتعاطف مع أحزانه وخيبات أحلامه الكبيرة. وإذا شئنا أن نجتاز القصص اجتيازًا سريعًا للحديث عنها في ومضاتٍ قصيرة، بدءًا بعنوانها الأوّل، يُمكننا أن نقول:

§        أمّي:

تبدأ المجموعة بحنان الإبن الذّاهل عجزًا أمام تقهقر عافية والدته التي بدأ الزّمان والمكان يختلطان في ذاكرتها المُهدّدة بالانطفاء يومًا بعد يوم في تلك القصّة، الأمر الذي يُذكّر الإبن بكثيرٍ من الأحداث المثيرة للاهتمام في حياة الأم، ويُثير في نفسه عددًا جديدًا مُثيرًا من التساؤلات المتعلّقة بما يعتلج سرًا في عقلها وقلبها.. " ترى أي سر دفع بذاكرتها المنطفئة إلى أن تتقد وتتذكر هذا المكان القديم؟ هل لأن ذكرياتها في هذا الزقاق المنسي أكبر من النسيان؟ هل عاشت في صباها فيه سويعات انطبعت في ذاكرتها وروحها؟ هل عاشت فيه حبها الأول؟.. برق

هذا الاحتمال في ذهنه، حبها الأول، ترى هل عاشت هذه المرأة التي تتلاشى إنسانيًا يومًا بعد يوم قصة حب في شبابها، قصة فيها كل تفاصيل الحب من لوعة وشوق وعواطف جيّاشة.. صـ 15"

§        فُندق القمل الجميل:

مُحاولة جُنديّ تعيس للفرار من أيّام القصف واليأس وأمخاخ القتلى التي تتناثر في القصاع أثناء الطعام، حين تكون الصّداقة مقبولة مع أيّ مخلوق حي لا ينتمي إلى عفونة الحرب، حتّى وإن كان قملةً أو جُرذًا: " في أيام القصف واليأس والوقوف كل لحظة على حافات الموت، صادقت جُرذّا مُثيرًا للذعر بضخامته، كُنتُ أستأنس بوقت خروجه من الجحر، فكنت أضع فتات الخبز على فتحة جحره، وكنت أرقب بهدوء جولته اليوميّة بين قصعات الأكل، وكنت غالبًا ما أشكو للجرذ معاناتي ووحدتي وهو ينظر إلي بعينين مُريبتين... صـ 23"

§        أقرب من الأمس، أبعد من الغد:

حكاية طفل من الماضي يرى المستقبل في كابوس!... " أيّ صباح هذا الذي يعيشه، والذي يبدو منقطع الصّلة والرّحم بليلة أمس تمامًا، أفي ليلة واحدة ممكن أن يكبر المرء عدة سنوات دفعة واحدة، ليجد نفسه في بيت غريب مع امرأة كل الدلائل تشير أنها زوجته، وصبي يحدّثه عن حرب ومجهود حربي؟...صـ 32"

§        هو وهي:

حكاية بصمات الزّمن الذي يُعادي الذّاكرة ويُشوّه صورة الأحبّة، تبدأ بلقاء رجُلٍ وامرأة زحفت الأعوام على ملامحهما خلال فترة غيابٍ طويلة بعد حُبّ قديم... " أراد أن يغمض عينيه، أن يبتعد عنها، لم يكن يريد أن يرى أجمل ما رأته عيناه، وهي حطام امرأة مسنّة، عبثت يد السنوات في كل تفاصيل جسدها، وقلب صورتها في ذاكرته رأسًا على عقب.. صـ 46".. " .... عندما كان يحدثها عن أمراضه لم تصدق أن هيكل الرجل الوحيد، المحطم أمامها هو من كان يملأ حياتها في زمن الفرح، وكان يتصور أنه بشعاراته السياسية سيحرر العالم ويملأ الدّنيا عدلاً. لم تكُن سعيدة بهذه الصّدفة،

التي اكتشفت فيها أنّ الواقع ليس جميلاً كالأحلام، وأنّ الزمن يُعادي الذاكرة ويشوّه صورة الأحبّة.. صـ 50"

§        استقالة:

موظّف بسيط يعشق صيد الطّرائد البريّة، إلى حدٍ يجعل انتصارات صيده تذوب في أحلامه صورًا مُفعمةً بالنّشوة، ثمّ تتحوّل إلى كوابيس بعد رحلةٍ تُفاجئه بحدثٍ يقلب موازين مشاعره ورغباته... " سيدي.. ستصاب يدي بالشلل إن أمسكت مرة أخرى ببندقية في حياتي، لم أعد أصلح للعمل كقاتل للكلاب، لم أعد إلا رجُلاً تقضّ مضجعه الأحلام والكوابيس.. صـ 61"

§        عندما يأتي المساء:

موظف استقبال شاب في فندق متواضع، تعانق مشاعره عطر نزيلةٍ صغيرة السّن للمرّة الأولى، فيرتبط بها وبملامح براءتها الرّوحيّة حتّى بعد مُغادرتها دون أن تعلم. " وبين دموعي المدرارة أحاول أن أقنع نفسي بأنّكِ قد تعودين ثانيةً في مساء نهارٍ ما. تخلد البيوت إلى النّوم، تنام الشّوارع والأرصفة، تظلم آخر نافذة، بينما تظل نوافذ قلبي مُضاءة في انتظار إطلالتك.. صـ 71"

§        مدام مادلين:

أديب يُقيم في بلاد المهجر تزجّ به الصّدفة في طريق مواطنة مُصابة بانفصام الشّخصيّة، أو تزجّ بها في طريقه!

§        أنا وجدّي:

  طفلة صغيرة تحكي تفاصيل حياتها المُحببة مع جدّها الكفيف قبل أن يفقد سيطرته على عقله، فتفقده أسرته.

§        حلم ميداس:

 يقترب القارئ من خطّ السّعادة حين يبدو وكأنّ حُلمي مُوظّف البلديّة الفقير (مدحت) قد تحققا، فتخلّص من حماته وامتلك زمام الثّراء بضربة حظٍ واحدة، لكنّ دبّوس الواقع يُفجّر بالونة الحلم في لحظة نحسٍ لئيمة 

§        حديث مرآة:

نسمع بها همس الأشياء من حولنا، كيف ترانا، وما وجهة أنظارها فيما نفعل ويحدث لنا، فتذكّرنا بعشرات التّفاصيل الصّغيرة المُهملة في حياتنا.

§        موت قنفذ:

 سيدة اختار المرض جسدها مسكنا له، تدفعها الرغبة في الشفاء لتناول لحوم مخلوقات مقززة للذائقة البشريّة على أمل أن تكون علاجا كلحم جرو، ولحم قنفذ. فتتحد مشاعرنا مع حزنها المتوسّل وهي تقول: " سأفعل كُلّ شيء من أجل الشّفاء، سأتناول لحم الجرو والقنفذ، سأفعل كُلّ شيء، كُلّ شيء.. صـ122"

§        رجُل عديم الأهميّة:

حكاية قاص جريء أخذه (زوّار الفجر) معهم فجأةً لأنّ بطل قصّته المنسوج من حروف على ورق قال ما لا يجب أن يُقال عمّن يُمارسون القمع والقتل بدمٍ بارد. 

§        سُعاد:

هُناك نقترب من النّوازع البشريّة التي تُطارد غريزة رجُل أرمل، فتدفعه لمُقايضة ابنته الوحيدة برضا الرّجُل القادر على حلّ مُشكلته.

§        البحث عن ظل في الظّلام:

أستاذ جامعي "كان يحس بأنه يعيش في عالم غير عالمه، يلقي محاضرات على عشرات الطلبة يوميا بآلية، حريصا في الوقت نفسه أن لا تصدر منه اية هفوة تجعله فريسة لوليمة الذئاب، لعلمه بوجود عيون للعميد في كل قاعة دراسية، تنقل له ما يتحدث به كل أستاذ وطريقة تعامله مع الطلبة وانطباعهم عنه... صـ 144"، يُفاجئه أحد الخفافيش البشريّة بخبرٍ يمتص سلامه النّفسيّ خلال دقائق.

§        شارع في كركوك:

وصف للحياة النّهاريّة في شارع عراقي يضج بالحياة، مُبيّنًا تباين شخصيات المشاة وما يدور في أذهانهم : مجرم يخطط لتفاصيل جريمته/ مراهق يلتهم النساء بنظرات شهوانية/ فتاة تفكر بموعدها مع الموت/ رجل يحاول تسديد ثمن ما أكله بأوراق نقدية مزيفة/ حاج يدعي التقوى بينما يشبع الشيطان القابع في أعماقه بنظرات قذرة .. وأخيرًا؛ نهاية المشهد بنوم بيوت ومحلات الشارع، في انتظار نهار قادمٍ جديد.

§        قصّة ميّت:

 تبدأ القصّة بمشهد رجُلٍ ميّت كأيّ رجلٍ ترتفع روحه إلى بارئها:" كان ممددا على سريره مثل أي ميت توقفت الحياة في شرايينه، لم يكن يسيرًا على أهل الحي أن يقتنعوا أن الجثة الهامدة أمامهم هي جثة عادل، الذي طالما عرف باندفاعه نحو كلّ شيء ينبض بالحياة... صـ 180".. ثمّ نسمع ما يقوله النّاس والمخلوقات عنه بدءًا بجزّار الحيّ (مرتضى)، ومرورا بالجار المتديّن (الحاج زكريا) والجار (محمود)، ثمّ جارته المفرطة في صراحتها وزوجها مخبر الأمن، والشارع الذي يسكن فيه، ودور السينما التي زارها، وشجرة التوت الراسخة في مدخل الحي، والمقبرة التي دفن فيها،

وأخيرًا قبر والده وقبر والدته..

§        قصص برقيّة:

مجموعة أقاصيص قصيرة جدًا تحت عناوين: سفينة نوح/ الحزن يحلق عاليا/ الشاعر/ لاجئون/ الأخرس/ الأعمى/ الحفيدة/ قاص آخر زمن/ حوار/ رفيقة النضال/ الحرب/ المتنبي/ حرامي/ رسالة من امرأة مجهولة.

بيئة القصص تنمّ بكلّ مُعطياتها من زمانٍ ومكانٍ وأسماءٍ للأشخاص عن بيئة المؤلّف بوضوح، فنجد ذكرًا لأماكن عراقيّة شهيرة مثل: جبهة (المحمّرة)، قرية (ينكجه)، محلة (بولاق)، شارع الجمهوريّة، سينما (صلاح الدين)، جامع (الملا حسام الدين). وأسماء شخصيّات مثل: الملك فيصل الثّاني، والمغنيّة (عفيفة إسكندر). ومهن شائعة مثل: باعة (الشربت) وباعة الكباب. بالإضافة إلى أسماء أطعمة شائعة مثل: الدّولمة والسندويج والفلافل والكباب والكص واللبلبي، ومشاهد يوميّة تقع عليها العين هُناك مثل: الفتيات اللاتي يتهادين إلى جانب أمهاتهن المتلفعات بالعباءات

السود، ومطبوعات محليّة مثل: مجلّة (أهل النّفط)، بالإضافة إلى حضور واضح لثيمات الحبّ والحرب والمرض، وهي من أشهر قضايا المُجتمع العراقي الذي نُسج تكوينه بفعل ظروف تاريخيّة تدفع لطُغيان تلك القضايا على وجه الخصوص. 

نُلاحظ كذلك صورًا من هموم الأديب والكاتب المثقّف في بيئتنا العربيّة، ففي قصّة (مدام مادلين) نجد البطل المُبدع يمتلئ سعادة لأنّ إحدى قنوات التلفزة الأجنبيّة قد استدعته لإجراء لقاء ثقافي يُناقش هموم الكُتّاب معه: " .... أحَسّ بالحبور، فبعد سنسن من التّناسي والتهميش في وطنه، هاهي قناة تلفزيونيّة تتصل به بكلّ بساطة لمُشاركته في البرنامج الثّقافي دون محسوبيّة أو منسوبيّة أو وساطات.. صـ 47".. " عانيت شخصيا من عدم نجاحي في الحصول على ناشر لأعمالي، فمعظم دور النّشر في الدّول العربيّة على عكس الدول الأوروبيّة، باتت هي التي تطلب من الكاتب أن

يدفع لها لطبع أعماله.. صـ 75" .. وفي قصّة (رجُل عديم الأهميّة) نسمع زوجة الكاتب وهي تحدّثه عمّا تعرفه عنه بقولها: " أنهيت القصّة وكتبتها دون أن تُفكّر إذا ما كانت ستُنشر أم لا، فأحيانًا حتّى الصّحيفة التي كُنت تعمل فيها، كانت ترفض نصوصك بحجّة خروجها عن المألوف السياسي أو الاجتماعي في مُجتمعنا، مُجتمعنا المهترء المليء بالقبح والقيح، كما كُنت تُسمّيه دائمًا... صـ 126" .. "كان أكثر ما يؤلمك، ازدواجيّتك ككاتب، كُنتَ تجد نفسك في القصّة، بينما كُنت تكتُب بتأفف العمود اليومي في الصحيفة، والذي كُنت تكتبه من أجل خُبزنا اليومي، كُنت تصف كُلّ

مقالة بأنّها بلا طعم ولا رائحة، وكأنّما هي مكتوبة بقلم شخص آخر، بينما كُنتَ تكتُب قصصك بحماسٍ وانفعال، كم مرّةً ارتشفت دموعك التي كانت تنهمر وأنت تقرأ لي بعض قصصك بصوتٍ مُتهدّج من الانفعال.. صـ 126". أمّا (قصّة ميّت) ففيها إشارة للبهجة والإشباع النّفسي الذي يرجوه الكاتب من الكتابة بغضّ النظر عن الشّهرة: "لقد ظل يحلم ويكتب، يكتب ويحلم، لم يصبح كاتبا معروفا، لكنه كان سَعيدًا بما يكتب... صـ 183"، وبغض النّظر عن استحسان الآخرين أم عدمه كما تشير قصّة (شارع في كركوك):  " وهو يستعد لكتابة قصيدة فاشلة تضف إلى قصائده التي لا تثير إلا سخرية زملائه

لكنه رغم ذلك لم يكن يأبه ذلك البتة لأن قصائده أثيرة عنده، ويكفي أنها تستوعب أحلامه.. صـ 156"، وعن عشق المثقّف للقراءة في قصّة (البحث عن ظل في الظّلام) : " تذكّر ملامح صديقه الطيّب، صيّاد الكتب النّادرة والقيّمة، صديقه الذي يُفضّل  الكتاب على الرّغيف... صـ 142"