قراءة في المجموعة القصصية لم يعد لي إلاّ.. أنا

قراءة في المجموعة القصصية

"لم يعد لي إلاّ.. أنا" لمحاسن الحمصي

محاسن الحمصي /الأردن

[email protected]

د.محمد عبد الله القواسمة

يجمع العمل السردي الذي نهضت به الأديبة محاسن الحمصي بين نوعين من القصة: القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، وقد جاءت القصص القصيرة جداً تحت عنوان "قصص في حجم الكف".

وإذا كان في هذا الجمع بين النوعين ما ينبئ بمقدرة الأديبة محاسن على خلق عوالم سردية متنوعة، فإنه يتيح للناقد أن يجعل من العنوان مدخلاً مناسباً لمقاربة قصص المجموعة جميعها.

في العنوان "لم يعد لي إلاّ أنا" تتأكد الذات باستخدام ضمير المتكلم في موضعين: "لي"، و"أنا"، وتبدو هذه الذات مرتبطة بالماضي من خلال دخول "لم "حرف النفي والجزم والقلب، على الفعل المضارع ومرتبطة بالواقع باستخدام أداة الحصر "إلاّ" مما يتنهي بالذات لتكون وحيدة في مواجهة الحاضر، لكن أيّ ذات؟ وأيّ واقع؟ وما الذي جرّ الذات كي تحسّ بمرارة هذا الواقع؟ هذه الأسئلة تجيب عنها الجملة الأولى من افتتاحية القصة الأولى التي تحمل المجموعة عنوانها" لم يعد لي إلاّ أنا" تقول الجملة:"انتزعُ الخاتم من يده"(ص13) ففي هذا القول تتجلى الذات الأنثوية متمردة على الواقع؛ فالفعل "انتزع" مشحون بقوة الفعل، الذي غدا بيد المرأة، لكن بعد فوات الأوان وموت الزوج، فهي تنتزع الخاتم الذي يحمل معاني الارتباط والاتصال الجسدي والمعنوي، وانتزاعه يعني التخلّي عن تلك الرابطة التي كانت واهية، وتتكشف، للقارئ بعد ذلك، أسباب هذا الفعل في أنّ هذا الزوج كان يعامل الزوجة معاملة سيئة فيها إذلال ومهانة، وينظر إليها كما ينظر التاجر إلى بضاعة اشتراها.

ولا تكتفي الذات الأنثوية بإدانة ذلك الزوج بل تتعداها إلى استدعاء من كان السبب في هذا الزواج الفاشل؛ فتبعثه من الذاكرة حيّاً، إنّه الأبّ الذي توفي بعد أن قدّمها لذلك الرجل دون ترو وتدبر بل لأنّ الزواج سترة ـ كما كان يرى. هكذا يجب أن يعاتب في هذا الوقت العصيب حتى ولو كان في مقبرة أم الحيران، فما أن تنتزع الخاتم من زوجها المتوفّى حتّى تسرع لتقف على قبر والدها، وتنثال الكلمات ليسمعها وهو في القبر، إنّها تقارن بين رجلين صنعا مأساتها: "رحلت ولم تر حفيداً تستمتع بضحكته، وغاب هو دون أن يترك من يحمل اسمه.. حرمتني المراهقة، وحرمني الأمومة..سترتني أنت، وهو كشف غطائي وتعريت."(ص16ـ17).

ويمتد تمرّد الذات الأنثوية إلى قصة "سماء تنذر بشتاء قاس"  فتبدو كأنّها إعادة لفضاء القصة السابقة؛ ففي حوار بين الزوج وزوجته يبدو الرجل قاسياً في تعامله مع المرأة، إنّه يريد أن يتحكّم في حركاتها وشؤوتها الخاصة:  "كيف قصصت شعرك الطويل ولم تستأذنيني" ص13 وتنتهي المرأة ـ كما في القصة السابقة ـ وحيدة : "هناك.. على المقعد الوثير.. يجلس ظلّي" (ص29)

وقريب من هذه النهاية ما تنتهي إليه قصة "خط الأحلام" فتحاول الذات أن تنهض متكئة على نفسها بعد أن مات الزوج وغدت "أرملة متشحة بالسواد، وثكلى خطف طفلها لحظة ولادة عسيرة" (ص117).

وإذا كانت القصص القصيرة من قصص المجموعة تُقدم عالم الذات الأنثويّة الرافضة لتحكم الرجل وتصرفاته زوجاً وأخاً وأباً فهي كذلك في القصص القصيرة جداً ؛ تنعي جمال الحياة، ووقيمتها في كنف الرجل. ويمكن أن نمثل على ذلك بقصة "العائلة السعيدة":" تطلّ عليه من فتحة الباب، عاري الجسد يلهث خلف الجهاز.

ـ تريد شيئاً حبيبي..؟

ـ شكراً..!

ـ تصبح على خير، أتركك تمارس هوايتك مع مواقعك الإباحية في هدوء..!

ـ تصبحين على خير، أتركك تمارسين هواية الكتابة والقراءة في هدوء!

تمضي الأيام..والبيت يغمره التفاهم...!"(ص183)

ففي هذا الحوار تتجلى السخرية المرّة من هذه العلاقة الزوجية التي تقوم على التنافر والتباعد بين الزوجين. فلكل منهما عالمه الخاص : الرجل منشغل بمشاهدة المواقع الإباحيّة، والمراة مهتمة بالكتابة والقراءة، وفي هذا يبدو الرجل شيطاناً رجيماً، والمرأة هذا الملاك الذي يهتمّ بالفكر والعلم.

وإذا كان الهم الأنثوي يغلب على قصص المجموعة كلها، فهنالك قصص تسللت في خضم هذا الهم؛ لتلامس عالم الحياة الواسع، وعالم المجتمع وعذاباته. ففي مشهد حواري من قصة "مشاهد من عرس الدم" تبدو غزة إنسانةً يرفض الذل والرضوخ للعدو، وتتحمل في سبيل الحرية كل أنواع العذاب، فتصرخ:" يا أهل النخوة، للحرية أنا أجوع..!"(ص130)

وفي قصة" تفتيش" إدانة للممارسات التي تتم على حدود الدول الغربيّة لأبناء الضاد بحجة محاربة الإرهاب؛ فالذات الساردة تمنع من دخول تلك الدول بسبب كونها عربية: "في قلبك صورة وطن، في نبضك حب أرض أصحابها على لائحة الإرهاب!!"(ص193).

في النهاية يمكن القول إنّ قصص مجموعة: "لم يعد لي إلاً أنا" ،وبخاصة ،منها، القصص القصيرة جداً، تحاول الخروج على الكتابة النسائية ، أي التي تكتبها النساء من الاهتمام بعلاقة المرأة بالرجل، ومن التذمّر من هذه العلاقة  لتحمل الهمّ العام وتقاربه، إنها قصص واقعية، تقدّم بلغة شاعريّة رقيقة ورشيقة ، لا غموض فيها،  كما تتنوع في تقنياتها مع اعتماد كبير على السخرية والمفارقة والحوار، ويطلّ من ثناياها الأمل والتفاؤل في مستقبل تتحقق فيه العدالة والمساواة بين الناس، وبخاصة بين الذكر والأنثى.