دراسات في البيئة الجاهلية والشعر الجاهلي 10

دراسات في البيئة الجاهلية والشعر الجاهلي

(10)

المنافرة عند الجاهليين

أحمد الجدع

قال في لسان العرب : المنافرة هي المفاخرة والمحاكمة .

أقول : والجمع بين المفاخرة والمحاكمة ينبي بأن المفاخرة لا تعد منافرة إلا إذا انتهت إلى المحاكمة، والمحاكمة لا تكون إلا لدى سيد من سادات العرب وحكيم من حكمائهم ممن لا ترد حكومتهم وقد يكون الحكم أحد كهان العرب .

قال صاحب اللسان أيضاً : المنافرة هي المحاكمة في الحسب .

والحسب ما يعده المرء من مفاخره ومفاخر آبائه .

أقول : وكان سادة العرب في الجاهلية يتفاخرون بالمروءة والكرم والشجاعة والوفاء وأمثالها من الخصال المحمودة.

أما الإسلام فأضاف إلى ذلك : الدين، فقال : حسب المرء دينه ومروءته وخلقه وعقله ( وإن لم يكن له آباء لهم رئاسة وشجاعة .....) .

وتكون المنافرة في الشعر حيث يحتكم شاعران إلى عالم بالشعر فيحكم لأحدهما على الآخر أيهما أجود شعراً ، وقد تكون المنافرة في قصيدتين قيلتا في غرض واحد فيكون الحكم حينئذ محصوراً في الإجادة في هذا الغرض فقط، وذلك كما حدث في منافرة امرئ القيس بن حجر الكندي وعلقمة بن عبدة في وصف الفرس، فقالا في ذلك شعراً وحكما في ذلك زوج امرئ القيس المعروفة بأم جندب، ويبدو أن أم جندب هذه كانت امرأة فصيحة عالمة بالجيد من أشعار العرب ، ولعلها أول ناقدة عرفها العرب من بين النساء .

نبدأ المنافرة الشعرية الشهيرة في الجاهلية، منافرة امرئ القيس بن حجر الكندي الأمير الشاعر وبين علقمة بن عبدة التميمي ، وهو من شعراء تميم المشهورين في الجاهلية ومن ساداتهم ، وتميم من أشهر قبائل العرب ومن أكثرهم عدداً وأعزهم نفراً، وكان الجاهليون يقولون : وإنما العزة للكاثر .

ومن اللمحات التي أحب أن أنبه إليها هنا أن امرأ القيس كان من كندة من اليمن ( القحطانيين ) وأن علقمة كان من تميم العدنانيين .

وأن أم جندب زوج امرأ القيس كانت طائية ، وقبيلة طيء قبيلة يمنية قحطانية .

إذن كانت المفاخرة بين قحطاني وعدناني ، وقد ارتضى العدناني أن تكون أم جندب القحطانية حكماً .

أما امرؤ القيس بن حجر فقد كان أبوه ملكاً على قبيلتين من القبائل العدنانية : أسد بن خزيمة وكنانة بن خزيمة، وهما أخوان، فكان امرؤ القيس أصغر أبناء الملك حجر كما يقول الرواة ، وكان شاعراً ورث الشعر عن خاله المهلهل بن ربيعة التغلبي وكان المهلهل أول شعراء العربية إحكاماً وإجادة فيه، ولهذا برز امرؤ القيس شاعراً فحلاً مقدماً .

وأما علقمة بن عبدة فقد كان أحد السادة في بني عبد مناة بن تميم ، وكان شاعراً مقدماً فحلاً، وكانت قريش تقدمه وتعلق قصائده على جدران الكعبة وتسميها السموط .

إذن كان امرؤ القيس شاعراً، وكان علقمة شاعراً ، كل منهما مقدم معترف بتفوقه في الشعر ، وكانا بالإضافة إلى هذا كله صديقين، ولا عجب في ذلك ، فقد عدّ الشعراء هذا الشعر نسباً إن عزّ النسب عن طريق الآباء .

يقول الرواة : إن امرأ القيس تزوج امرأة من قبيلة طيء اسمها أم جندب، وأقام معها في قومها ، ويقولون أيضاً بأنها كانت كثيرة النقد له ، ليس في شعره فقط بل في طريقة معيشته وفي حقيقة تصرفاته، ويضيفون أيضاً أن امرأ القيس كان مفركاً من النساء بمعنى أنهن لم يكن يملن إليه ولا يحببنه، ولعل مبالغة امرئ القيس في وصف مغامراته مع النساء راجع إلى رغبته في دفع هذه المقولة التي شاعت عنه .

أما علقمة فقد صرح في شعره إلى عمق معرفته بالنساء، ما يردنه وما يبغضنه، وقد أجمل ذلك في أبياته المشهورة :

فإن تسألوني بالنساء فإنني
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
يرون ثراء المال حيث علمنه
 

 

بصير بأدواء النساء طبيب
فليس له في ودهن نصيب
وشرخ الشباب عندهن عجيب
 

هذه أبيات علقمة في الجاهلية ، فهل تغير النساء منذ ذلك اليوم وحتى يومنا هذا ؟

إذن كان علقمة خبيراً بالنساء ، ولعله دخل إلى أم جندب من هذا الباب !

زار علقمة بن عبدة صديقه امرأ القيس حيث كان ينزل في منازل قبيلة طيء ، فأكرمه امرؤ القيس وأدناه، وذات جلسة صفاء تناشدا الشعر ، فادّعى كل واحد منهما أنه أشعر من صاحبه، وعندما لجّ بينهما التلاحي اتفقا على أن يحكما بينهما شخصاً عالماً بالشعر خبيراً بمداخله ومخارجه ونقاط التفوق والضعف فيه ، فرشّح امرؤ القيس زوجته أم جندب، ووافق علقمة على ذلك .

هل كان علقمة يعرف من أحوال أم جندب مع امرئ القيس ما لم يكن امرؤ القيس يعرفه ؟

وهل كانت انتقادات أم جندب للحياة التي يحياها امرؤ القيس وللصفات السلبية في شخصه لا تنبهه لإمكانية انحيازها لخصمه ؟ أم أنه لم يكن يعير كل ذلك اهتماماً لأنه يعتبر كل ذلك مما يحدث بين كل زوجين حين خصامهما، ويبقى الودّ قائماً رغم كل ذلك .

قبل الشاعران أن يعرضا شعرهما على أم جندب ، وقبلت هي أن تكون حكماً !

ثم إنها اختارت أن ينظم كل واحد منهما شعراً يصف به فرسه ، وأن هذا الموضوع هو الذي سوف تحكم من خلاله .

واستجاب الشاعران .

أما امرؤ القيس فقد تقدم إلى أم جندب بقصيدة بائية مطلعها :

خليليّ مرا بي على أم جندب

 

نقضّ لبانات الفؤاد المعذّب

وفيها يصف فرسه وهو يطارد صيده :

فللساق أُلهوبٌ وللسوط درّةٌ

 

وللزجر منه وقع أخرج مهذب

وأما علقمة فقد أنشد أم جندب قصيدة مطلعها :

ذهبت من الهجران في كل مذهب

 

ولم يك حقاً كل هذا التجنب

وفيها يصف فرسه وقد أدرك طريدته :

فأدركه حتى ثنى من عنانه

 

يمرُّ كغيث رائح متحلب

ويقول الرواة بأن أم جندب نفّرت علقمة على زوجها، وعندما سألها امرؤ القيس عن السبب ( الفني) في هذا الحكم قالت:

علقمة أشعر منك لأنك زجرت فرسك، وحركته بساقك وضربته بسوطك ، أما هو فقد أدرك صيده ثانياً من عنان فرسه (بمعنى أن فرسه كان أسرع من طريدته ) .

هناك عدة ملحوظات على هذه الرواية عند القدماء وعند من جاء بعدهم، وعندي أيضاً ، ولكن الهدف من إيراد هذه الحادثة كان الحديث عن المنافرة بين الشعراء ، ولم يكن نقد شعرهم وتقييمه، ومعرفة السبب الخفي لهذا الحكم ، وهل كان عادلاً أم منحازاً .......

نقف إلى هنا حتى لا نسترسل فنخرج عن المراد في هذا البحث .

أريد أن أعرض ثلاث منافرات ، هي نموذج للمنافرات الجاهلية التي امتد تأثيرها إلى ما بعد الإسلام .

المنافرة الأولى

منافرة هاشم بن عبد مناف وأمية بن عبد شمس

هاشم وعبد شمس أخوان لأم وأب ، أبوهما عبد مناف بن قصي ( وقصي هو مجمع قريش) .

وأمهما عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور ، وسليم بن منصورة إخوة هوازن بن منصور .

حملت بهما أمهما في بطن واحد ، فتزاحما فيه ، وامتد هذا التزاحم في الدنيا حتى استطال واتسع، ولهذا التزاحم فصول كثيرة في تاريخ العرب والمسلمين ، وما نشأة الدولة الأموية إلا فصل واحد في هذا التزاحم .

وصارت السقاية والرفادة، وهما من أعظم مكارم قريش ، إلى هاشم بن عبد مناف، وكان هاشم تاجراً بارعاً ، ومخططاً ناجحاً لتوسيع تجارة قريش ، فهو الذي نظم لهم رحلتي الإيلاف ؛ رحلتي الشتاء والصيف ، وهما الرحلتان اللتان ذكرهما الله في القرآن الكريم في مجال المنّ على قريش بالنعم التي وهبها لهم .

ولأنه كان تاجراً ناجحاً فقد أثرى ثراءً كبيراً، وكان ينفق أموالاً كثيرة على السقاية والرفادة، ويعتبر حجاج البيت ضيوفاً على قريش .

وعندما أصاب القحط قريشاً توجه هاشم إلى غزة وأتى بالكعك وهشمه وطبخه باللحم وأطعم قريشاً ، وبهذا العمل سمي هاشماً، وإنما كان اسمه عَمْراً .

كان هاشم مطعم قريش ، وعلى صغر سنه فقد كان القرشيون يقدمونه ويجلونه ويمتدحونه ، فحسده ابن أخيه أمية بن عبد شمس، وحاول أن يفعل مثله ولكنه قصّر عن ذلك، فشمت به ناس من قريش ( ولعلهم كانوا من أنصار هاشم) فغضب غضباً شديداً وتحدى هاشماً مدعياً أنه أسود منه ( من السيادة ) وحاول هاشم أن يتفادى ذلك، ولكن أمية أصر على المنافرة .

وبإصرار أمية وافق هاشم، وأصبحت قريش فريقين ، كل فريق يدعي السيادة لصاحبه، ثم إنهم اتفقوا على أن يحكموا في ذلك الكاهن الخزاعي .

كان موضوع المنافرة السيادة والشرف والجود والكرم، وكان الرهان خمسين ناقة سود الحدق تنحر بمكة، وعلى الجلاء من مكة عشر سنين !

هذه هي المنافرة الوحيدة التي كان فيها هذا الشرط القاسي ، الجلاء عن مكة عشر سنين ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشر قد تفاقم بين هاشم وأمية، وأن قريشاً خافت عواقبه ، فجعلوا الشرط القاسي حتى يفرقوا بين الزعيمين مدة طويلة حتى ينسى هذا الخلاف وتبرد نار العداوة .

وارتضى الفريقان الكاهن الخزاعي حكماً، وذهبوا إليه ، ولم يكن بعيداً عن مكة، فخزاعة كلها تسكن حول مكة، وعرض الأمر على الكاهن ، فنفَّر هاشماً ، وحكم له بالسيادة ، وصاغ هذا الحكم بسجع الكهان :

" والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجوّ من طائر ، وما اهتدى بحَكَم مسافر، في منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر، أول منها وآخر " .

وأخذ هاشم الإبل ونحرها وأطعم لحمها من حضر، وخرج أمية إلى الشام فأقام فيها عشر سنين ! ( وفي الشام أقام معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية فيما بعد دولة الأمويين ) .

وكانت هذه المنافرة مفتاح العداوة بين بني هاشم وبني أمية .

المنافرة الثانية

ثم إن هاشماً مات شاباً ، لم يتجاوز الخامسة والعشرين ، وقد رزق بولد ذكر من زوجته الأنصارية الخزرجية من بني النجار، أسمته أمه شيبة ، ثم إن عمه المطلب ذهب إلى المدينة وجاء به إلى مكة ، فظن أهلها أن المطلب اشترى عبداً ، فسموه عبد المطلب .

وغدا عبد المطلب سيداً مقدماً في قريش لحلمه وعقله .

وبسبب من حلمه وحكمته ، ورغبة منه في نسيان الماضي الأليم اقترب عبد المطلب من حرب بن أمية ، ونادمه ، واصطفاه خليلاً .

وكان في جوار عبد المطلب رجل تاجر، تآمر على قتله حرب بن أمية، وألب عليه فتيان قريش فقتلوه، ولما علم عبد المطلب بذلك ، وعلم بتحريض حرب لقتله ، أتى حرباً فأنبه وطالبه بدية جاره، وبتسليم قاتليه .

رفض حرب ، وأعلن أنه أجار قاتليه، ونشب الخلاف، وطارت شرارته ، فتداعيا للمنافرة .

واقترحا أن يكون الحكم بينهما نجاشيّ الحبشة، فاعتذر النجاشي وأبى أن يدخل بينهما، ثم اتفقا على أن يكون الحكم نفيل بن عبد العزى العدوي، جد عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

واجتمع القوم ببابه ، فخرج عليهم معلناً حكمه ؛ وقال لحرب بن أمية :

" يا أبا عمرو ؛ أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة، وأوسم منك وسامة ، وأعظم منك هامة ، وأقل منك لامة ، وأكثر منك ولداً ، وأجزل منك صلة، وأطول منك مذوداً ( الذود المدافعة ) ، وإني لأقول هذا وإنك لبعيد الغضب ، رفيع الصوت في العرب، جلد النزيرة ( الإلحاح في الطلب ) تحبك العشيرة ، ولكنك نافرت منفَّرا " !

ونفَّر العدويّ عبد المطلب بن هاشم .

وغضب حرب بن أمية ، وأغلظ لنفيل القول ، وقال له : من انتكاس الدهر أن جعلتك حكماً .

ثم إن عبد المطلب أخذ من حرب بن أمية دية جاره مئة ناقة .

وفي هذه المنافرة قال الأرقم بن نضلة بن هاشم :

وقبلك ما أردى أميَّةَ هاشمٌ
أيا حرب قد جاريت غير مقصِّرٍ
 

 

فأورده عمرو إلى شرّ مورد
شآك إلى الغايات طلاعُ أنجد
 

المنافرة الثالثة

منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة

ومن أشهر المنافرات في الجاهلية منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة .

وعامر بن الطفيل هو عامر بن الطفيل بن مالك الطيان بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن .

وعلقمة بن علاثة هو : علقمة بن علاثة بن عوف بن ربيعة بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن .

وأنت ترى أن الرجلين من قبيلة واحدة ، يلتقيان قريباً في النسب ، فهما يلتقيان في جعفر بن كلاب بن عامر ، وإلى عامر هذا ينسبان فقال : عامر بن الطفيل العامري ، وعلقمة بن علاثة العامري .

وكانت المنافرة بينهما على الشرف والمكانة الأدبية والاجتماعية في قومهما وفي العرب ، وقد كان عامر بن الطفيل يتطلع إلى السيادة ليس في بني عامر وحسب ، بل في العرب كلها ، وعندما جاء الله بالإسلام أبى أن يسلم حتى يقتسم الزعامة مع رسول الله ، وعرض على الرسول أن تكون له زعامة الوبر ( البدو ) ولرسول الله زعامة الحضر !

فإذا كانت هذه نفسية عامر بن الطفيل مع رسول الله ، فكيف يمكن أن تكون مع سواه ؟

أول ما هاج المنافسة علناً بين عامر وعلقمة تحرشُ عامر به لأمر عارض ، ولكنه أمر فجر ما في الصدور .

يروى أن علقمة بن علاثة خرج إلى جانب من الصحراء يبول، فمرّ به عامر ، فقال له :

لم أر كاليوم عورة رجلٍ أقبح ! ( كأنه يقول له قُبحت عورتك ) .

فقال علقمة : أما والله ما تثب على جاراتها، ولا تنازل كناتها ! ( يتهم علقمة بسوء السلوك مع جاراته وكناته).

فقال عامر : وما أنت والقروم ( يحط من قدر علقمة ) والله لفرسُ أبي " حنوة " أذكر من أبيك ، ولفحل أبي " غيهب " أعظم ذِكراً منك في نجد .

قال علقمة : أما فرسكم فعارة ، وأما فحلكم فغدرة .... ولكن إن شئت نافرتك .

فقال عامر : قد شئت .

ثم إنهما تفاخرا :

قال عامر : والله إني لأكرم منك حسباً، وأثبت منك نسباً ، وأطول منك قصباً .

قال علقمة : لأنا خير منك ليلاً ونهاراً .

قال عامر : لأنا أحب إلى نسائك من أصبح فيهن منك .

قال علقمة : على ماذا تنافرني يا عامر ؟

قال عامر : أنافرك على أني أنحر منك للقاح، وخير منك في الصباح ، وأطعم منك في السنة الشياح !

قال علقمة : أنت رجل تقاتل والناس يزعمون أني جبان ، ولأن تلقى العدوّ وأنا أمامك ، أعز لك من أن تلقاهم وأنا خلفك، وأنت جواد والناس يزعمون أني بخيل ، ولست كذلك، ولكن أنافرك أني خير منك أثراً ، وأحدُّ منك بصرا، وأعزُّ منك نفرا، وأبعد منك ذكرا .

قال عامر : ليس لبني الأحوص فضل على بني مالك في العدد، وبصري ناقص، وبصرك صحيح ، ولكني أنافرك على أني أنشر منك أُمة ( أكثر منك عدداً) وأطول منك قمة، وأحسن منك لمة ، وأجعد منك جمة ، وأبعد منك همة !

قال علقمة : أنت رجل جسيم ، وأنا رجل قضيف ( نحيف ) وأنت جميل ، وأنا قبيح ، ولكني أنافرك بآبائي وأعمامي.

قال عامر : آباؤك أعمامي، ولم أكن لأنافرك بهم، ولكني أنافرك أني خير منك عقباً ، وأطعم منك جدباً .

قال علقمة : قد علمت أن لك عقباً في العشيرة ، وقد أطعمت طيباً ، ولكني أنافرك أني خير منك ، وأولى بالخيرات منك، وقد أكثرنا المراجعة منذ اليوم .

فقال عامر : والله لأنا أركب منك في الحماة ، وأفتك منك للكماة، وخير منك للمولى والمولاة .

فقال علقمة : والله إني أعزُّ منك : إني لبرٌّ وأنت فاجر، وإني لوفيّ وإنك لغادر، ففيم تفاخرني يا عامر ؟

قال عامر : والله إني لأنزل منك للقفرة، وأنحر منك للبكرة، وأطعم منك للهجرة، وأطعن منك للثغرة .

فقال علقمة : والله إنك لكليل البصر ، نكد النظر، وثاب على جاراتك بالسَّحر .

وكان قد اجتمع إلى الرجلين أقوامهم، فقال بنو خالد بن جعفر وكانوا مع بني الأحوص على بني مالك بن جعفر : لن تطيق عامراً ، ولكن قل له : أنافرك بخيرنا وأقربنا إلى الخيرات ، وخذ عليه بالكبر .

فقال له علقمة بالذي اقترحوا عليه ، فقال عامر : عنز وتيس ، وتيس وعنز ، نعم أنافرك على مئة من الإبل إلى مئة من الإبل ، يعطاها الحكم، أينا نُفِّر عليه صاحبه أخرجها .

فاتفقوا على ذلك ، ثم إنهم وضعوا وفاءً لذلك رُهناً من أبنائهم على يدي رجل من بني الوحيد، فسمي هذا الرجل بالضمين.

وخرج علقمة فيمن معه من بني خالد ، وخرج عامر فيمن معه من بني مالك ، وقد أتى عامر بن الطفيل عمه عامر بن مالك الملقب بملاعب الأسنة، وقال له : يا عماه ، أعني ، فقال له : يا بن أخي : سُبّني ، فقال : لا أَسُبك وأنت عمي .

قال : فسُبَّ الأحوص .

قال عامر : ولا أسب والله الأحوص وهو عمي .

فقال : فكيف إذن أعينك ؟!

ثم قال له : ولكن دونك نعلي ، فإني قد ربعت فيها (أي وأنا ألبسها ) أربعين مرباعاً ، فاستعن فيها في نفارك .

وكان ملاعب الأسنة سيد بني عامر في زمانه ، وكان السيد يأخذ ربع الغنيمة، إذا غزا قومه وغنموا .

واستعد القوم ، كل قد استنجد بقومه، فكان مع عامر بن الطفيل شاعران من شعراء المعلقات لبيد بن ربيعة العامري ، والأعشى بن قيس ، وكان الأعشى صديقاً لعامر، وكان مع علقمة بن علاثة الشاعر العبسي الهجاء المعروف بالحطيئة، وكان علقمة له مكرماً .

واختار الجمع أبا سفيان بن حرب حكماً، وقدموا عليه مكة، فأبى أن يقول فيهما شيئاً، وكره ذلك لمقام المتنافرين في أنفسهما ومقامهما في قومهما، وقال لهما : أنتما كركبتي البعير الأدرم ( السمين ) تقعان بالأرض معاً .

قالا : فأينا اليمين ؟

قال : كلاكما يمين، وأبى أن يقضي بينهما .

ثم إنهم تركوا أبا سفيان وذهبوا إلى عمرو بن هشام المخزومي الذي عرف في الإسلام بأبي جهل وكان سيداً في قريش ، فأبى أن يحكم بينهما .

ثم إنهم أتوا عيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري الذبياني، فأبى أن يحكم بينهما .

ثم أتوا غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي بالطائف فردهما إلى حرملة بن الأشعر المري الذبياني، فردهما إلى هرم بن قطبة بن سنان الفزاري ( الصحابي لاحقاً ) ، فانطلقا حتى نزلا به .

واجتمع القوم إليه ، فقال لهما هرم : لعمري لأحكمن بينكما ، ثم لأفصلن ، ثم لست أثق بواحد منكما، فأعطياني موثقاً أطمئن إليه أن ترضيا فيما أقول ، وتسلما فيما أقضي ، ثم أمرهما بالانصراف ، ووعدهما هذا اليوم من السنة القابلة .

ثم إنهم انصرفوا والموعد العام القادم .

ولما بلغ الأجل خرجا إليه ، فخرج علقمة في بني الأحوص ، فلم يتخلف منهم أحد، معهم القباب والجُزر والقدور، ينحرون في كل منزل ويطعمون .

وجمع عامر بني مالك وقال لهم : إنما تخاطرون على أحسابكم ، فأجابوه وساروا معه ، ولم ينهض أبو براء معهم، وقال لعامر : والله لا تطلع ثنية إلا وجدت الأحوص قد أناخ بها، وكره أبو براء ما كان من أمرهما ، فقال عامر :

أَأُمر أن أسُبَّ أبا شريح
ولا أُهدي إلى هرم لقاحا
أُكلف سعي لقمان بن عاد
 

 

ولا والله أفعل ما حييت
فيُحيي بعد ذلك أو يُميت
فيال أبي شريح ما لقيتُ
 

وأبو شريح هو الأحوص .

وقد كره كل منهما ما فعلا ، وندما عليه ، ولكنهما مضيا ولم يستطيعا أن يرجعا مما بدآ به .

وقال عمرو بن شريح بن الأحوص :

لحى الله وفدينا وما ارتحلا به
ألا إنما بُردي صِفاق متينة
 

 

من السوءة الباقي عليهم وبالُها
أبى الضيم أعلاها وأثبت حالها
 

وسار عامر وبنو عامر على الخيل مجنبي الإبل، وعليهم السلاح، فقال رجل من غنيّ : يا عامر ، ما صنعت ؟ أخرجت بني مالك تنافر بني الأحوص ومعهم القباب والجزر، وليس معك شيء تطعمه الناس ! ما أسوأ ما صنعت ! فقال عامر لرجلين من بني عمه : أحصيا كل شيء مع علقمة من قبة أو قدر أو لقحة . ففعلا. فقال عامر : يا بني مالك، إنها المقارعة عن أحسابكم ، فاشخصوا بمثل ما شخصوا به ، ففعلوا . وثار مع عامر لبيد بن ربيعة والأعشى، ومع علقمة الحطيئة وفتيان من بني الأحوص، منهم السندري بن يزيد بن شريح، ومروان بن سراقة بن قتادة بن عمرو بن الأحوص، وهم يرتجزون ، فقال لبيد :

يا هِرما وأنت أهل عدل
ليذهبن أهله بأهلي
 

 

إن نُفِّر الأحوص يوماً قبلي
لا تجمعن شكلهم وشكلي
 

ونسل آبائهم ونسلي

 

وقال أيضاً :

إني امرؤ من مالك بن جعفر
 

 

علقم قد نافرت غير منفر
 

نافرت سقبا من سقاب العرعر

 

فقال قحافة بن عوف بن الأحوص :

نهنه إليك الشعر يا لبيد
ساد أبونا قبل أن تسودوا
 

 

واصدد فقد ينفعك الصدود
سؤددكم مطرف زهيد
 

وقال أيضاً :

إني إذا ما نُسي الحياءُ
أُنمى وقد حقَّ لي النماء
إذ لا تزال جلدةٌ كوماء
لم ينهنا عن نحرها الصفاء
 

 

وضاع يوم المشهد اللواء
إلى ذكور ذكرها سناء
مبقورة لسقبها دعاء
لنا عليكم سورة ولاء
 

المجدُ والسؤدُدُ والعطاء

 

وقال أيضاً :

أنتم هزلتم عامر بن مالك
 

 

في شتوات مضر الهوالك
 

يا شرَّ أحياءٍ وشرَّ هالك
 

 

قال : وأنشدها السندري يومئذ، ورفع صوته ، فقيل : من هذا ؟ فقال :

أنا لمن أنكر صوتي السندري
 

 

أنا الفتى الجعد الطويل الجعفري
 

من ولد الأحوص أخوالي غَنيّ
 

 

فقال عامر : أجب يا لبيد ، فرغب لبيد عن أجابته ، وذلك لأن السندري كانت جدته أمة أسمهما عيساء، فقال:

لما دعاني عامرٌ لأسبهم
لكيما يكون السندري نديدتي
وأنشر من تحت القبور أُبُوةً
 لعبت على أكتافهم وحجورهم
ألا أينا ما كان شراً لمالكٍ
 

 

أبيتُ وإن كان ابن عيساء ظالما
وأشتم أعماماً عُموماً عماعما
كراماً هم شدوا عليّ التّمائما
وليداً وسموني مفيداً وعاصما
فلا زال في الدنيا ملوماً ولائما
 

قال : ووثب الحطيئة، فقال :

ما يحبس الحكام بالفصل بعدما

 

بدا سابقٌ ذو غُرَّة وحجول

وقال أيضاً :

يا عام قد كنت ذا باع ومكرمة
جاريت قرماً أجاد الأحوصان به
لا يصعب الأمر إلا ريث يركبه
هابت بنو مالك مجداً ومكرمة
وما أساؤوا فراراً عن مُجلحةٍ
 

 

لو أن مسعاة من جاريته أمم
سمحَ اليدين وفي عرنينه شمم
ولا يبيت على مالٍ له قسمُ
وغايةً كان فيها الموت لو قدموا
لا كاهن يمتري فيها ولا حكم
 

قال : وأقام القوم عنده أياماً ، وأرسل إلى عامر ، فأتاه سراً ، لا يعلم به علقمة فقال : يا عامر ، قد كنت أرى لك رأياً ، وأن فيك خيراً ، وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك . أتنافر رجلاً لا تفخر أنت وقومك إلا بآبائه ؟ فما الذي أنت به خير منه ؟

قال عامر : أنشدكُ الله والرحم أن لا تفضل عليّ علقمة ، فو الله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبداً . هذه ناصيتي فاجزُزها . واحتكم في مالي ، فإن كنت لا بد فاعلاً فسوّ بيني وبينه . قال : انصرف ، فسوف أرى رأيي . فخرج عامر وهو لا يشك أنه يُنفره عليه .

ثم أرسل إلى علقمة سراً ، لا يعلم به عامر ، فأتاه فقال : يا علقمة ، والله إن كنت لأحسب فيك خيراً ، وأن لك رأياً ، وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك . أتفاخر رجلاً هو ابن عمك في النسب ؟ وأبوه أبوك ، وهو مع هذا أعظم قومك غناء، وأحمدهم لقاء ؟ فما الذي أنت به خير منه ؟ فقال علقمة : أنشدك الله والرحم ألا تنفر علي عامراً . اجزز ناصيتي ، واحتكم في مالي ، وإن كنت لا بد أن تفعل فسوّ بيني وبينه . فقال : انصرف فسوف أرى رأيي . فخرج وهو لا يشك أنه سيفضل عليه عامراً.

ثم إن هرماً أرسل إلى بنيه وبني أبيه : إني قائل غداً بين هذين الرجلين مقالة ، فإذا فعلت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة ، ويطرد بعضكم عشر جزائر ، فلينحرها عن عامر ، وفرقوا بين الناس ، لا تكون لهم جماعة .

وأصبح هرم ، فجلس مجلسه ، وأقبل الناس ، وأقبل علقمة وعامر حتى جلسا ، فقام لبيد فقال :

يا هرم ابن الأكرمين منصبا
فاحكم وصوِّب رأس من تصوّبا
لخيرنا عماً وأماً وأبا
 

 

إنك قد وُليت حكما معجبا
إن الذي يعلو علينا تُرتُبا
وعامرٌ خيرهما مركَّبا
 

وعامر أدنى لقيس نسبا
 

 

فقام هرم فقال : يا بني جعفر ، قد تحاكمتما عندي ، وأنتما كركبتي البعير الأدرم : تقعان إلى الأرض معاً، وليس فيكما أحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه ، وكلاكما سيد كريم .

وعمد بنو هرم وبنو أخيه إلى تلك الجُزُر، فنحروها حيث أمرهم هرم عن علقمة عشراً ، وعن عامر عشراً ، وفرقوا الناس، فلم يفضل هرم واحداً منهما على صاحبه، وكره أن يفعل وهما ابنا عم ، فيجلب عليهما عداوة ، ويوقع بين الحيين شراً .

عاش هرم حتى أدرك خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فسأله عمر فقال : يا هرم ، أي الرجلين كنت مفضلاً لو فضلت ؟ فقال : لو قلت ذاك يا أمير المؤمنين لعادت جَذَعة، ولبلغت شِعاف هجر . فقال عمر : نِعم مستودع السر ومسند الأمر إليه أنت يا هرم ، مثل هذا فليسد العشيرة . وقال : إلى مثلك فليستبضع القوم أحكامهم .