عمر بن الخطاب وقيمُه النقدية

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 لم يكن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ شاعرًا، ولكنه كان يحب الشعر ويتمنى لو كان شاعرًا، ويقال إن "متمم بن نويرة" أنشد عمر بعض شعره في ر ثاء أخيه "مالك" فأعجب به عمر، وقال "يا متمم، لو كنت أقول الشعر، لسرني أن أقول في أخي زيد بن الخطاب (وكان قد استشهد في موقعة اليمامة) مثل ما قلت في أخيك. قال متمم: يا أمير المؤمنين، لو قتل أخي قتلة أخيك ما رثيته بشعر أبدًا. فقال عمر: يا متمم، ما عزاني أحد في أخي بأحسن مما عزيتني به".

وما حزن متمم على أخيه هذا الحزن الشديد إلا لأنه قتل مرتدًا على يد خالد بن الوليد، فمثواه النار، أما زيد بن الخطاب فنال فضل الشهادة في موقعة اليمامة، فهو مع النبيين والصديقين والشهداء.

**********

 ومن أقوال عمر المأثورة: تعلموا العربية، فإنها تثبت القلوب، وتزيد في المروءة، واروا الأشعار فإنها تدل على مكارم الأخلاق، وخير صناعات العرب أبيات يقدمها الرجل بين يديْ صاحبه، يستميل بها الكريم ، ويستعطف بها اللئيم.

 وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يتمتع بذائقة فنية عالية، وبصيرة نقدية نافذة في تقييمه للشعر والشعراء، وتأتي أحكامه النقدية الصائبة بعد محاورات مع الآخرين. أي أنه لا يطلق أحكامه خبط عشواء، ولكنه ينطلق في هذه الأحكام من استقراء النصوص، ووقائع التاريخ وحقائقه، لقد كانت أحكامًا مؤسسة معللة، أي لها أسانيدها التي تؤيدها، فهو يحاور جماعة من بني غطفان، ويقدم بضعة نماذج متنوعة من شعر النابغة، تنتهي به إلى الحكم بأن النابغة هو أشعر غطفان".

وكان يقول عن زهير بن أبي سلمى إنه "شاعر الشعراء" ، وعلل هذا الحكم: بأن زهيرًا كان لا يعاظل في الكلام، وكان لا يتبع حوشي الشعر، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه".

 وهذه "المسوغات" تخلد شعر زهير، فلا يفنى ككثير من شعر غيره . ونقل الأصمعي أن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال لبعض ولد هرم بن سنان" (الذي مدحه زهير بكثير من شعره): أنشِدْني بعض مدح زهير أباك، فأنشده، فقال عمر: إن كان ليحسن لكم القول، قال: ونحن والله كنا نحسن له العطاء، قال عمر: قد ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم.

**********

 ومعروف أن الحطيئة، كان شاعرًا هجاء، ويروى أنه جاور "الزبرقان بن بدر"، فلم يجد منه ما كان يتمناه من كرم، وحسن جوار، فهجاه بقصيدة جاء فيها البيت التالي:

 دع المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها = واقعدْ فإنك أنت الطاعم الكاسي

فثار الزبرقان، وانطلق يشكوه للخليفة، ويستعديه عليه . فقال عمر: ما أسمع هجاء، ولكنها معاتبة . فقال الزبرقان : أولا تبلغ مروءتي، إلا أن آكل وألبس!؟ والله ـ يا أمير المؤمنين ـ ما هجيتْ ببيت قط أشد عليَّ منه، سلْ ابن الفريعة ـ يعني حسان بن ثابت.

فسأله عمر، فأيد دعوى الزبرقان، فأمر عمر بحبس الحطيئة.

 وأمام هذا البيت نبدي الملاحظات الآتية:

1 ـ في البيت هجاء مرّ للزبرقان جاء بأسلوب ساخر متهكم ، فقد جعل أقصى غايات الزبرقان في حياته أن يأكل ويشرب ويكتسي، فلا حاجة لمثله في تحصيل مكارم الأخلاق، كأصحاب الهمة، وسمو المقاصد من رجالات العرب. وفي البيت "أمران" "ونهي" غرضها البلاغي التهكم والسخرية، والتحقير.

2 ـ ما كان هذا المفهوم يخفى على عمر ـ رضي الله عنه ـ وهو كما قلنا آنفًا ـ كان ذا ذائقة فنية راقية، وبصيرة نقدية، ولكنه لجأ إلى ما يسمى بـ "تجاهل العارف" حرصًا على التقريب بين المسلمين، وتحقيق مشاعر الحب والمودة في نفوسهم.

3 ـ في الواقعة ما يرشدنا كذلك إلى أن نقصد أصحاب التخصص والبصر في تقييم المواقف، والحكم على الموضوعات، والفصل في الخصومات، وخصوصًا ما اتصل بالعلم والإبداع، ففي خصومة الزبرقان والحطيئة انتدب للفصل فيها حسان بن ثابت، وهو أشعر شعراء عصره.

**********

 إنها وقائع ودروس، ما أشد حاجتنا إلى أن نأخذ أنفسنا، وأقلامنا بها، في زمن كثرت فيه فقاقيع النقد، والمتشاعرون، وأدعياء الأدب. وتصدّى لنقد الشعر بالذات من لا يملكون آليات النقد الحصيف، وإن ملكوا آليات الهدم، أو آليات المجاملة والنفاق، وإنا لله، وإنا إليه راجعون.