التوظيف النقدي في قراءات العايف

عبد الزهرة لازم شباري

[email protected]

من الطبيعي إن النقد في الماضي والحاضر أستمد مقوماته التي يتجلى بها الكاتب في الأساسيات التي تتمحور حولها أحداث الرواية أو القصة وحتى القصيدة الشعرية وعلى مختلف الأصعدة في العلم والمعرفة أو الفلسفة ، مستعيناً في تحليل المحاكاة التي حوله من هذه الطقوس التي يبني عليها الكاتب مقومات الولادة القيصرية لتلك الرواية أو القصة والقصيدة معاً ..من هذا نرى الكاتب المبدع جاسم العايف يتجلى بمجموعته (( قراءات أولى )) مبتدأً بإهدائه الجميل إلى أمه وهو يقف إجلالاً لها واحتراماً لتلك المربية الفاضلة التي جسدت بتربيتها تلك المواقف الإنسانية والإبداعية لدى وليدها وغذته ذاك اللبن الطاهر لتربو إليه وهو يحبو صغيراً في نشاطه المدرسي متخطياً أدواره الدراسية بامتياز أبداعي ليقف على قدميه كاتباً كبيراً ومربياً فاضلاً بيّضت كتاباته أمهات الكتب والمجلاّت المحلية والعربية !

حيث تنحدر هذه القراءات التي سمّاها الكاتب جاسم العايف بمقالات في لغتها وبناء موضوعاتها شعراَ ونثراً تحدراً أصيلاً من اللغة نفسها التي أنجزتها تلك النصوص التي كتب عنها ، وهي تحمل سمتين أساسيتين تندمج في مسار واحد وهو النص الذي يلهمه بالكتابة عنه إبداعياً لا معرفياً بعيداً عن العلاقات التي قد تبنى بين الناقد وبين الشاعر أو القاص ولو أن هناك بوادر تظهر في بعض كتاباته وفي هذه المقالات بالذات تنم عن علاقة واضحة بينه وبين تلك المقالات وكتّابها !!

السمة الأولى وهي الشرعية الواضحة للتحدر الثقافي الذي ينحدر من الكاتب المبدع جاسم بالمسؤولية الأدبية التي يبني بها موضوعاته ، والسمة الثانية هي حبه الواضح إلى تشريح النص وسحبه إلى ذهن القارئ من الغموض إلى البيان الذي يفهمه المتتبع !

من هذا يبدو لقاريء مقالاتْ العايف وهو يتمعن بقراءتها يلاحظها أنها تحاول بناء محاور عديدة واهتمامات متشعبة لمعالجة نقدية وافية يراد الغرض منها تعريف القارئ بمركزية النص والمعنى الذي يدور فيه الحدث الذي بنيت عليه محاور الموضوع سوى إن كان شعراً أو رواية أو قصة ، كذلك أراد الكاتب أن يؤرخ من خلال هذه المتابعات الجادة لقراءته هذه الكتب المهداة إليه من أدباء كثر عاشوا معه فترة شبابه وزمنه الحالي زمن تلك الإرهاصات والمعاناة التي بدأت حقاً بعناق الحلم ثم المعانات التي مرّ بها هو نفسه ، فقوله عن زميله القاص (مصطفى عبدالله) الذي كما يقول عنه بدء نشاطه الأدبي في البصرة كاتباً للقصة القصيرة في أواسط الستينات ، وبقيت اهتماماته مستمرة .

وراح العايف يسطر ذلك الزمن الأجوف الذي يلتقي به مع القاص مصطفى وصاحبه ( كاظم الصبر) وإبداعاتهم في كتابة القصة والسيناريو والأبريت كأوبريت ( الجرداغ) الذي يحمل كما يعتقد آفاقاً كثيرة لما فيه من التحدث عن معاناة هذه العوائل التي تعمل في مكابس التمور في ذلك العهد الذي تسلطت في القوى الدكتاتورية والرأسمالية ، حيث يفرضون شروطأ قاسية وتعسفية على العوائل لقاء أجر زهيد لا يكاد يسد الرمق !!

وفي ( كاردينيا .. الملاذ والأسى ) يسطر العايف عن زميله ( الراوي) ومعاناته في منفاه وكيف راح يحمل حسرات فراقه من أهله ووطنه مع أكياس الشاي والسكر وصابون الرقي الذي كما يقول عنه ( سلاح الأعزل) راح ليذوب في خضم الغربة ولم يبق منه إلاّ قصائده المفجعة كما يقول والأفعال عاجزة عن العزاء والسلوان !

ثم يبقى يعدد القامات الأدبية التي عانت نفس المعاناة والعذاب في لجوئها في ديار الغربة وفي أوطان أخرى غير وطنهم الذي عاشوا فيه : عباّس فاضل رسّام الكاريكاتير الذي مات بفعل الخمرة ، شريف الربيعي الذي مات هو الآخر بسرطانه الذي طاف به كل البلدان ، محمود جنداري ، منهل نعمة ، جعفر حمودي ، اللذان ماتا تحت التعذيب ، ويختم قائمة المشردين اللذين هرستهم السنين بموت حسين مردان ، وغيرهم كثير تتفتح ذائقة العايف المبدعة بتذكره هذه القامات الأدبية بروحه التي تعّج بالذكرى والأسى لهم شعراء وكتّاب وروائيين وآخر غيرهم كثير !! حيث تذهب ذاكرته بعيداً على جناح ليلكه ، الأشعار الأخيرة للشاعرة الإعلامية القتيلة ( أطوار بهجت ) بالكتابة عنها والتحليل لتلك القصائد الجميلة التي رسمت بها حياتها اليومية الدافقة وروحها المعذبة ، بقصائدها التي تميل نحوا لعفوية والتي تتمحور حول عواطفها الذاتية المغلقة بإحزانها الأنثوية كما يقول عنها !!

ما أختاره العايف في هذه المقالات وما كتبه عن جملة الكتّاب اللذين تأثر بهم وأدلج ما راحوا إليه في كتاباتهم ، جراّء لأدراك فحوى العلاقة بينه ككاتب متفحص ناقد ، وبين العالم المحيط به ، هذه العلاقة التي امضى بها العايف عقوداً من عمره الأدبي ، راح ينمي به روح البيان الأدبي فاضحاً الوضع الذي يمر به من قمع وظلم وكبح للحريّات في عالمنا الذي نعيش فيه ، لأن سمة ومهمة المبدع الحقيقي رصد وتحليل وإضاءة هذه العلاقة بينه وبين ما يراه وما يقرأه بوعي وإدراك وفهم متمكن ْ !!

لذا  نراه يفضح الظلم والتعسف الذي يمر به شعبنا ومن بينهم الأدباء والشعراء والكتاب في تحليلهم بعض الغايات الفلسفية والأدبية ، وما انتصاره للدكتور( نصر حامد أبو زيد ) في كتاباته التي أدت إلى إبعاده كتكتور أستاذ أفنى عمره بالتأليف والأبحاث في موضوعه الذي أسماه(( حق التفكير .. وحد التكفير )) إلاّ دليل على هذا الإحساس والمعاناة التي يمر بها العايف تضامناً مع غيره من أبناء جيله من الأدباء والكتّاب في هذه الأمة !!ّ

ولا أريد إن أتعمق في تحليل مقالات العايف في هذا المطبوع الذي يظم خمسة عشر موضوعاً عن جملة من المبدعين واسلب من القارئ والمتتبع فرصة التمتع بقراءتها ، ولكني أهدي قرائنا الأعزاء الاهتداء إليه والإطلاع عليه لأهميته الأدبية والفكرية في تعميق وترسيخ الوعي الاجتماعي والإنساني !!