كيفية القول الشعري وليس القول
خليل مزهر الغالبي
" القصيدة لا يجب أن تعني...بل أن تكون"...هذهِ خاتمة قصيدة –فن الشعر- لأرجيلود مكليش-
اي ان الشعر لا يبلغ المعنى والمضمون للقارئ فقط ، بل الشكل الذي حمل فيه المعنى
أيضا.فكم من بيت
أو قصيدة أدهشتنا لا لما قالته بل للكيفية التي قالت بها
.
حقيقة أنني أجد
أحيانا في قصيدة النثر من الشاعرية والشعر ما لا أجده في القصيدة الموزونة ، لكنه
وللأسف
فالقصيدة النثرية الحاملة للشعر المبدع نادرة الوجود
.،
لذا لم يزل صحيح –ارسطو -حاضراً بلزومية المحاكات الشعرية للقصيدة وليس لزومية تقفيتها او وزنها الحرفي المحكم والمحدد العنيد،لكن تبقى هذه- المحاكاة- المحاجج بها ارسطو – لابد ان تكون في كيفيتها الشعرية ايضاً،أي كيفية المحاكات.
أن لزومية تقفية وتوزين القصيدة الشعرية ،فيهما الكثير المعرقل لأانطلاقة روحية الجنس الشعري، لمواصفاته وإمتداداته النفسية المحثة دوماً ،وهي لزوميات تمنع مختلجه الشعري الشفيف من شهيق وسعه الأوكسجيني ، كما تلغي او تقلص رواحه لتلك الاصقاع الغائرة لمنطقة الشعر والتحليق في سمواته التي يريد الصدق الشعري بلوغها وهو حاملاً قدسيته،فطقوس التوليد الشعري ذات الوليد الجميل المعافى ،يكون في مخيال الشاعر وذاكرته حمل تعب كل حين، وفق الشروطيات المتحركة بثباتها المصرحة بالشعر للذات وللأخر المتلقي، وبالتالي تقطع شروطيات الوزن والقافية اجنحة التحليق الشعري في لحظة الولادة الشعرية وما بعده في تكوين وهيكلة القصيدة،والتحليق شعرياً يشابه في فعالياته المبدعة للشعر تلك الغرائزية الابداعية والرغبوية للهجس البلوري المولدْ للشعر ، وهنا لابد ان يكون الشاعر خارج عن التوصيات التقنية العتيقة للتوليد والكتابة النصية المتعاقبة معها ،فهي من تريد وتطالب أن تضع على (التأنيث) الجميل للشعر النقاب وإلزامه بعدم الانزياحية اللغوية والخروج بعيداً عن عين القافية واخوتها الموازين التي وضعوها تحت شروط لصقت على لسان مخيال الشاعر وذهنيته.
أن الحمولات هذه تعمل على تهبيط همة ونشاط المخيال الشعري و اخفاظ سطح سماءه الزرقاء الجميلة او تلغيها تماماً ،و هنا نقولها كمبدء دراسي ونقدي وفق كيفية إتيان هذه المحاكات رغم قربنا من حواريتنا لقصيدة النثر كألية شعرية قالت ولم تزل تقول الشعر.
فقد اكد قول ارسطو:- ومن الواضح تماماً أن الوزن وحده ليس كافياً لتمييز الشعر ، إذ ثمة رسائل في الطب وفي الفلسفة الطبيعية كتبت شعراً ، وهذه الطريقة كانت الأكثر شيوعاً عند قدماء الإغريق من الوقت الحاضر حتى يسهل حفظها وبالتالي يسهل تذكرها لأن عصر الطباعة والكتب لم يدخلا بعد..) .
وكما هو عند –الفية ابن مالك-،وقبلها اعتبر هوميروس شاعراً مبدعاً عند –أرسطو - و –أمبذوقليس - غير شاعر رغم كتابتهما المشتركة في الوزن والعروض ،وذلك لمختلف ماهية النص الهوميروسي الحامل لذات الروح الدرامية ،وهنا يبان المفهوم الارسطي المحاكي مجازياً للنص الشعري، وذلك وفق تجليه لكل ما ينهض بها من ملحمة ومأساة وحلم ،بل راح ليفرق ومن خلال المحاكاة هذه بين الشعر والنثر مبتعداً عن العروض والوزن كمقيسة لحقيقة الشعر، وبهذا يعيد –ارسطو – حقيقة مفهوم المحاكاة الافلاطونية وان اختلف بثرائها وفق الفهم الملاحظ ، اضافة الى القول اللغوي الصامت والمتكلم شعرياً والمحاكي به من خلال رسم اللغة وتصويرها العميق الذي قرأه وتأمله ارسطو ، فالشعر لا يُقيسْ شعرياً حضور العروض اوقافيتها ولم يصبح الشاعر شاعراً بهذه المقيسة ومعيارها،كما راحت –النظرية المقدسة- Theorea Scare-في ادلتها المؤكدة على سمو الشعر خارج ضرورة الوزن كما بدون غاية المعنى التي تحملها القصيدة.
،ونرى المدي الفكري لما ذهب اليه المفكرين الأوائل بدءاً من الثالوث الفلسفي التأريخي انهم لمحوا ولم يفرقوا للسببية الزمنية المتأخرة ،وانهم اصطفوا مع رواح الشاعر ش بودلير في قوله (لا يمكن أن يتمثل الشعر بالعلم أو بالخلق، وإلاّ كان مهدداً بالموت أو الخسران، فالشعر ليس موضوع الحقيقة، وليس له من موضوع سوى الشعر نفسه ) ومن خلال ابعاده لمفهوم الشعر عن مهمة الحمل الفكري والتقريري ، والمقارب لرأي –ميلارميه- أن الشعر هو الإيحاء بصور تحلق الى الاعلى وتتبخر على الدوام – كما لدى الشاعر الأمريكي – ادغار ألن بو – أن الشعر هو الخلق الجميل الموقعْ-
وهنا نقول...نعم لاهمية دراسة - سوزان برنار - الكائنة في مؤلفها – قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا...- والمؤكدة على الإيجاز ، الكثافة ، اللازمنية ، والوحدة العضوية ،في انشاء مكونات القصيدة النثرية ، لكن هذه التأكيدات القريبة من لزومية قصيدة النثر لابد ان نلزمها كذلك في الدهشة اللغوية من خلال التعبيرية والغرائبية المقوننة بالشرط الصرفي للغة ومبدعه ، وكذلك انتقاء المفردة وغرزها في مكانها التعبيري النسقي الصحيح،
،وهنا اشير الى الروح المحدثة لحياة كل الاشياء ذات الوجود الحياتي النشيط وديناميكيته ولا نريد القفز على مبدع الشرط الدراسي عند تنظيرية سوزان برنارد – لكنها ستسمح لقفزنا كي نروح لأضافاتنا المحسوبه بالمقيسة الابداعية وليس للطفش والمراهقة الشعرية التي غطت المعظم المجايل لكل ولادات التجديد ،نعم نقفز بأضافتنا المحدثة باسباب طبيعة الشعر التوليدية ونموها الإحيائي لجنسه الحياتي .
الكل الادبي ومنهم التناول النقدي والتنظيري اعترفوا فنياً بأستهتار الجنس الشعري في تجميله للأشياء و في رواحه الذي ابتعد فيه الى ذلك المجمل للنفس البشرية واعطاءه اللغوي المستريح كما في موقفه الميتافيزيقي ،ومن خلال هذا السرد المتناول الموجز لانجد قصيدة النثر خبطاً لغوياً وشعرياً ملوثاً لروح الشعر ومقدسة الثابت، ولم يعد وبعد دقيق فحصنا انه ورم خبيث قد أكل كما قالوا في جسد الشعر، وانما ذلك النمو جمالياً لذلك التطور الطبيعي لحياة مخلوقه ذي الانزياح خارج المستعمل اللغوي شعرياً ، كونه الجنس الاقرب الى النيتا حسي ، لكنه داخل ثابت مقدس الشعر ،والذي يعد صياغات وبنائات وتراكيب فتحت افاق واسعة أمام اللغة كي تتجمل قبل حضورها – الرسمي –لمحفل القصيدة بعد ترويض انفعالية هجسه ضمن لا قانوينة الكتابة بل ضمن قانونية الابداع الشعري ،وهنا يقوم بترجمة كل الحراك الشعري من بدءه الهجسي وانفعاليته الى صياغة لغوية نهائية تعمل على خروج في المأمور الرسمي لتلك اللغة التي قفلتها فلسفة المدلول القاموسي او المستعمل الشعري ، كذلك لفتح فضائية وسعية للدلالة الشعرية المنزاحة، وفق خصوصية الشاعر وبالتالي تبشر بهدءة الهوس الشاعر في انتاجه النصي وسكون ترنحه،فقد اكد جوزيف جوبير – إن الشاعر يعرف ما يجهله الحواسي والذي يتم استنباطه من خلال الحواس الخمسة واللاحواسي الذي يتم إستنباطه من خلال التفكير،وهذا اللاحواسي هو الرحم الحامل والمولد للشعر ، هو الباطن المخفي الصعب في تموضعه الشعري وليس لتموضع أخر ، وذهب بودلير إلى اعتبار "الشعر تجاوزا للواقع العيني، فهو ليس حقيقة كاملة سوى ضمن عالم مغاير وأخروي".
فالشاعر الاصيل هو ذلك المخلوق الدائب لتجميل ما يضهره من مفاتن .
ولابد من ذكر ما راح اليه التصوريون -"Imagist"- وهم من مبشري المدرسة العصرانية "Modernism" الحداثوية بضدهم للكلام المنمق الايقاعي بكلماته المبتذلة بإيقاعيتها الموزونة ،كما هم ضد الانماط الانسياقية البنيوية المعهودة ،وتمردهم الضدي، هذا أثر بالغ في تحرير الشعر الأمريكي من القيود العسيرة التي تمنع وتفرغ النص الشعري من جماليته التكوينية .
لذا فنحن لم نطالب الشعر بقول الحقيقة رغم انه يدلنا نحوها من خلال كونيته الانزياحية في كل الشان الحياتي لكن لا يأخذ بيدنا بل يلوح ويؤشر من خلا تصريحيته الجمالية لمراده الحياتي ،ومنه لاضر من تصديق –أكاذيبة- التجميلية واوهامه الصادقة ، تلك الداعية لشجاعة شفيف حياتنا وسماحها الحازم .