التنوير برسائل النور

وصاحبها "بديع الزمان سعيد النورسي"

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

E.mail:[email protected]

"ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الكونية الحديثة وبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا، والتعصب الذميم في ذاك....لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها"(بديع الزمان سعيد النورسي).

لـ"رسائل النور" قيمتها ومدلولاتها المتعددة الأوجه.. فهي بمثابة إرثاً ثميناً. كما إن صاحبها ـ في وقت تحرص فيه الأمم علي إدامة تذكر والتذكير بأبنائها المتميزين ـ هو أحد أبرز رجالات العلم، وفطاحل الفكر، ورموز الإصلاح  والتجديد في العصر الحديث. له مكان ومكانة توجب ـ دون مزايدة أو  تهويل أو تهوين ـ التعريف به وبها. لقد أراد أن يضع رؤية للكون والحياة.. رؤية تتمحور حول الذات الإلهية باعتبار أن الله هو خالق الكون وموجد الحياة.. رؤية مطلوبة لا للمسلمين وحسب بل للبشرية جمعاء. لذا فمعرفة فكره أمر ملح للإنسانية بسبب التحريف المتعمد لوظيفة العلم والعقل في فهم العالم. أراد "النورسي" أن يصوغ رؤية علمية في طريق صحيح.

بعد حضور كبير له على الساحة التركية تخلى (بديع الزمان) عن مغريات الدنيا، وصراعاتها، وخرج من محادثة العباد إلى مناشدة رب العباد في خلوة تعبدية تأملية (سنة1923(. ورغم ما هو فيه من عزلة إلا أن المحن لم تحد عنه. فقد تم نفيه إلى مدينة (بارلا) سنة 1926، وتم عزله جبرياً عن الناس. استثمر (النورسي) وقته في العبادة والتأمل والتفكر والتأليف أيضا. حيث أمضى أكثر من 8 سنوات ألف خلالها أغلب (رسائل النور). وقد عانى   في هذه الفترة أوجاعا عديدة أثرت على حياته. بيد انه في نهاية الأمر   خلّف وراءه تركة علمية وفكرية ضخمة تنير مسالك الدرب لطلاب العلم، ولهذه الأمة والبشرية جمعاء.  

وقفات مع حياة الأستاذ   

يصف الأستاذ النورسي حالته الروحية والفكرية بالآتي: "هوت صفعات عنيفة قبل ثلاثين سنة على رأس سعيد القديم الغافل (يطلق النورسي على حياته قبل انقلابه الفكري "بسعيد القديم"، وبعده "بسعيد الجديد" الذي أخذ على عاتقه مهمة إنقاذ الإيمان)، ففكّر في قضية أن الموت حق. ووجد نفسه غارقاً في الأوحال.. استنجد، وبحث عن طريق، وتحرى عن منقذ يأخذ بيده.. رأى السبل أمامه مختلفة.. حار في الأمر واخذ كتاب فتوح الغيب للشيخ عبد القادر الگيلاني وفتحه متفائلاً، فوجد أمامه العبارة الآتية: أنت في دار الحكمة فاطلب طبيباً يداوي قلبك )انظر المجلس الثاني والستين من كتاب الفتح الرباني)..  يا للعجب!. لقد كنت يومئذ عضواً في دار الحكمة الإسلامية وكأنما جئت إليها لأداوي جروح الأمة الإسلامية، والحال أنني كنت أشد مرضاً وأحوج إلى العلاج من أي شخص آخر.. فالأولى للمريض أن يداوي نفسه قبل أن يداوي الآخرين.

نعم، هكذا خاطبني الشيخ: أنت مريض.. ابحث عن طبيب يداويك!.. قلت: كن أنت طبيبي أيها الشيخ! وبدأت أقرأ ذلك الكتاب كأنه يخاطبني أنا بالذات.. كان شديد اللهجة يحطم غروري، فأجرى عمليات جراحية عميقة في نفسي.. فلم أتحمل.. لأني كنت اعتبر كلامه موجهاً إليّ.

نعم، هكذا قرأته إلى ما يقارب نصفه.. لم استطع إتمامه.. وضعت الكتاب في مكانه، ثم أحسست بعد ذلك بفترة بأن آلام الجراح قد ولّت وخلفت مكانها لذائذ روحية  عجيبة.. عدت إليه، وأتممت قراءة كتاب أستاذي الأول. واستفدت منه فوائد جليلة، وأمضيت معه ساعات طويلة أصغي إلى أوراده الطيبة ومناجاته الرقيقة. ثم وجدت كتاب "مكتوبات" للإمام أحمد الفاروقي السرهندي، مجدد الألف الثاني.. فتفاءلت بالخير تفاؤلاً خالصاً، وفتحته، فوجدت فيه عجباً.. حيث ورد في رسالتين منه لفظة ميرزا بديع الزمان فأحسست كأنه يخاطبني باسمي، إذ كان اسم أبي ميرزا وكلتا الرسالتين كانتا موجهتين إلى ميرزا بديع الزمان فقلت: يا سبحان الله. إن هذا ليخاطبني أنا بالذات، لأن لقب سعيد القديم كان بديع الزمان، ومع أنني ما كنت أعلم أحداً قد اشتهر بهذا اللقب غير الهمداني  الذي عاش في القرن الرابع الهجري. فلابد ان يكون هناك أحد غيره قد عاصر الإمام الرباني السرهندي وخوطب بهذا اللقب، ولابد إن حالته شبيهة بحالتي حتى وجدت دوائي بتلك الرسالتين.. والإمام الرباني يوصي مؤكداً في هاتين الرسالتين وفي رسائل أخرى أن: وحّد القبلة )انظر المكتوب الخامس والسبعين من مكتوبات الإمام الرباني ترجمة محمد مراد)  أي: اتبع إماما ومرشداً واحداً ولا تنشغل بغيره!

لم توافق هذه الوصية - آنذاك - استعدادي وأحوالي الروحية.. وأخذت أفكر ملياً: أيهما اتبع!. أأسير وراء هذا، أم أسير وراء ذاك؟ احترت كثيراً وكانت حيرتي شديدة جداً، إذ في كل منهما خواص وجاذبية، لذا لم استطع أن اكتف بواحد منهما. وحينما كنت أتقلب في هذه الحيرة الشديدة.. إذا بخاطر رحماني من الله سبحانه وتعالى يخطر على قلبي ويهتف بي:

- إن بداية هذه الطرق جميعها.. ومنبع هذه الجداول كلها.. وشمس هذه الكواكب السيارة.. إنما هو  القرآن الكريم فتوحيد القبلة الحقيقي إذن لا يكون إلا في القرآن الكريم.. فالقرآن هو أسمى مرشد.. وأقدس أستاذ على الإطلاق.. ومنذ ذلك اليوم أقبلت على القرآن واعتصمت به واستمددت منه.. فاستعدادي الناقص قاصر من أن يرتشف حق الارتشاف فيض ذلك المرشد الحقيقي الذي هو كالنبع السلسبيل الباعث على الحياة، ولكن بفضل ذلك الفيض نفسه يمكننا ان نبين ذلك الفيض، وذلك السلسبيل لأهل القلوب وأصحاب الأحوال، كلٌ حسب درجته. فـالكلمات والأنوار المستقاة من القرآن الكريم (أي رسائل النور) إذن ليست مسائل علمية عقلية وحدها بل أيضاً مسائل قلبية، وروحية، وأحوال إيمانية.. فهي بمثابة علوم إلهية نفيسة ومعارف ربانية سامية.(المكتوبات ص 457 – 459).

نشأته:

ولد "سعيد النورسي" سنة 1293هـ "1876"م في قرية "نورس" التابعة لولاية بتليس شرقي الاناضول. تتلمذ على أخيه الكبير "الملا عبد الله" واقتصرت دراسته في هذه الفترة على الصرف والنحو. بدأ يتنقل في القرى والمدن بين الأساتذة والمدارس ويتلقى العلوم الإسلامية من كتبها المعتبرة بشغف عظيم، يرفده ذكاؤه الذي اعترف به أساتذته جميعهم بعد امتحانات صعبة، كان يجريها له كل منهم. اجتمع له مع الذكاء قوة الحافظة إذ درس وحفظ كتاب "جمع الجوامع" في أصول الفقه في أسبوع واحد. ولم تلبث شهرة الشاب أن انتشرت بعد أن فاق في مناقشاته علماء منطقته جميعاً، فسمّوه "سعيد المشهور". ثم ذهب إلى مدينة "تِللو" حيث اعتكف مدة في إحدى الزوايا، وحفظ هناك القاموس المحيط للفيروزابادي إلى باب السين.

وفي سنة 1892 ذهب "الملا سعيد" إلى "ماردين" حيث بدأ يلقي دروسه في جامع المدينة ويجيب عن أسئلة الناس، فوشي به إلى الوالي فأصدر أمراً بإخراجه، وسيق إلى "بتليس". فلما عرف واليها حقيقة هذا الشاب العالم ألح عليه أن يقيم معه، وهناك وجد الفرصة سانحة لمطالعة الكتب العلمية لاسيما علم الكلام  والمنطق وكتب التفسير والحديث والفقه والنحو حتى بلغ محفوظه من متون هذه العلوم نحو ثمانين متناً 

وفي سنة 1894 ذهب إلى مدينة "وان" وانكبّ   بعمق على دراسة كتب الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتاريخ حتى تعمق فيها إلى درجة التأليف في بعضها فسمّي بـ"بديع الزمان" اعترافاً من أهل العلم بذكائه الحاد وعلمه الغزير واطلاعه الواسع. 

وفي هذه الأثناء نُشر في الصحف المحلية أن وزير المستعمرات البريطاني "غلادستون" قد صرّح في مجلس العموم البريطاني وهو يخاطب النواب قائلاً: "ما دام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به"... زلزل هذا الخبر كيانه وأقضّ مضجعه، فأعلن لمن حوله:"لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها ولا يمكن إطفاء نورها".

وفي سنة 1314هـ (1897م) ذهب إلى مدينة "وان" وانكبّ فيها بعمق على دراسة كتب الرياضيات والفلك والكيمياء والفيزياء والجيولوجيا والفلسفة والتاريخ؛ حتى تعمَّق فيها إلى درجة التأليف في بعضها فسمّي بـ "بديع الزمان" اعترافًا من أهل العلم بذكائه الحاد.. وعلمه الغزير.. واطلاعه الواسع.

فشد الرحال إلى استانبول عام 1907 وقدّم مشروعاً إلى السلطان عبد الحميد الثاني لإنشاء جامعة إسلامية في شرقي الاناضول، أطلق عليها اسم "مدرسة الزهراء" - على غرار الأزهر الشريف - تنهض بمهمة نشر حقائق الإسلام وتدمج فيها الدراسة الدينية مع العلوم الكونية، في ضوء مقولته المشهورة:"ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الكونية الحديثة وبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا، والتعصب الذميم في ذاك".

وكانت شهرته العلمية قد سبقته إلى هناك فتجمع حوله الطلبة والعلماء يسألونه وهو يجيب في كل فن بغزارة نادرة. فاعترف له الجميع بالإمامة وبأنهم لم يشاهدوا في علمه وفضله أحداً، حتى أن أحدهم عبّر عن إعجابه الشديد بعد أن اختبره اختباراً دقيقاً، قال: "إن علمه ليس كسبياً وإنما هو هبة إلهية وعلمٌ لدنيّ".

وفي سنة 1911 ذهب إلى بلاد الشام وألقى خطبة بليغة من على منبر الجامع الأموي دعا فيها المسلمين إلى اليقظة والنهوض وبيّن فيها أمراض الأمة الإسلامية وسبُل علاجها ثم رجع إلى إستانبول وعرض مشروعه بخصوص الجامعة الاسلامية على السلطان "رشاد" فوعده السلطان خيراً، وفعلاً خُصّص المبلغ وشرع بوضع الحجر الأساس للجامعة على ضفاف بحيرة "وان" غير أن الحرب العالمية الأولى حالت دون إكمال المشروع.

وعلى الرغم من معارضة "سعيد النورسي" لدخول الدولة العثمانية الحرب، فإنه حالما أُعلنتْ اشترك هو وطلابه في الحرب ضد روسيا القيصرية المهاجمة من جهة القفقاس، وعندما دخل الجيش الروسي مدينة "بتليس" كان بديع الزمان يدافع مع طلابه عن المدينة دفاعاً مستميتا حتى جرح جرحا بليغا وأسر من قبل الروس. وسيق إلى معتقلات الأسرى في سيبريا. وفي الأسر أستمر على إلقاء دروسه الإيمانية على الضباط الذين كانوا معه والبالغ عددهم "90" ضابطاً ثم هرب من الأسر بأعجوبة نادرة وبعناية ربانية واضحة. ومرّ في طريقه بوارشو فألمانيا وفينا.. وعندما وصل إلى استانبول مُنح وسام الحرب واستقبل استقبالاً رائعاً من قبل الخليفة وشيخ الإسلام والقائد العام وطلبة العلوم الشرعية. وكلّفته الدولة بتسنّم بعض الوظائف، رفض جميعها إلا ما عينته له القيادة العسكرية من عضوية في "دار الحكمة الإسلامية" التي كانت لا توجّه إلا لكبّار العلماء، فنشر في هذه الفترة أغلب مؤلفاته باللغة العربية منها: تفسيره القيم "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز" الذي ألفّه في خِضَمّ المعارك. و"المثنوي العربي النوري"

وبعد دخول الغزاة إلى استانبول أحسّ النورسي أن طعنة كبيرة وجّهت إلى العالم الإسلامي، ولذلك شمّر عن ساعد الجد، فبدأ بتأليف كتابه "الخطوات الست" هاجم فيه الغزاة بشدة وأزال دواعي اليأس الذي خيّم على كثير من الناس. ولشهرته الواسعة وجهاده المتواصل دُعي إلى أنقرة عدة مرات، فتوجّه إليها سنة 1922، حيث استقبل في محطة القطار بحفاوة من قبل أركان الدولة. ولكن سرعان ما خاب ظنه بمن دعوه، إذ وجد أن معظمهم لا يؤدون الفرائض الدينية، فتوجّه إلى المجلس النيابي "مجلس المبعوثان" وألقى خطاباً مؤثراً استهلّه بـ : أيها المبعوثون إنكم لمبعثون ليوم عظيم. وهناك عرض أيضاً مشروع إنشاء الجامعة الإسلامية فلقي القبول، إلاّ ان ظروفاً سياسية حالت دون إكمال المشروع.

في سنة 1923 توجّه بديع الزمان إلى مدينة "وان" واعتزل الناس في جبل "أرَك" القريب من المدينة طوال سنتين متعبداً ومتأملاً. ورغم ذلك لم ينجُ من شرارة الفتن والاضطرابات فنفي مع الكثيرين إلى "بوردور" جنوب غربي الاناضول. ثم نفي وحده إلى "بارلا" ووصل إليها في شتاء سنة 1926 . فظُن أن سيقضى عليه هناك ويخمد ذكره ويطويه النسيان ويجف هذا النبع الفياض.

غدت "بارلا" مصدر إشعاع عظيم لنور القرآن، إذ ألّف الأستاذ النورسي هناك معظم "رسائل النور". وتسربت هذه الرسائل عن طريق الاستنساخ اليدوي وانتشرت من أقصى تركيا إلى أقصاها، إذ ما كان الأستاذ النورسي يُساق من منفى إلى آخر، ويُزج في السجون والمعتقلات في عديد من ولايات تركيا طوال ربع قرن من الزمن، إلاّ ويقيض الله من يستنسخ هذه الرسائل وينشر هذا الفيض الإيماني حتى أيقظ هذا الفيض روح الإيمان الراكد وأرسي دعائم علمية ومنطقية في غاية البلاغة بحيث يفهمه العوام ويتزود منه الخواص.

كيف ظهرت رسائل النور؟

يقول الأستاذ النورسي :".. صرفتُ كل همي ووقتي إلى تدبّر معاني القرآن الكريم. وبدأت أعيش حياة"سعيد الجديد".. أخذتني الأقدار نفياً من مدينة إلى أخرى.. وفي هذه الأثناء تولدت من صميم قلبي معاني جليلة نابعة من فيوضات القرآن الكريم.. أمليتها على مَن حولي من الأشخاص، تلك الرسائل التي أطلقت عليه  "رسائل النور" إنها انبعثت حقاً من نور القرآن الكريم. لذا نبع هذا الاسم من صميم وجداني، فأنا على قناعة تامة ويقين جازم بان هذه الرسائل ليست مما مضغته أفكاري و إنما إلهام إلهي أفاضه الله سبحانه على قلبي من نور القرآن الكريم، فباركت كل من استنسخها، لأنني على يقين ان لا سبيل إلى حفظ إيمان الآخرين غير هذه السبيل... وهكذا تلقفتها الأيدي الأمينة بالاستنساخ والنشر، فأيقنت ان هذا تسخير رباني وسَوق إلهي لحفظ إيمان المسلمين .. فاستشعرت بضرورة تشجيع كل مَن يعمل في هذه السبيل امتثالاً بما يأمرني به ديني…"(الشعاعات ص541-542).

وهكذا استمر الأستاذ النُوْرْسي على تأليف رسائل النور حتى سنة 1950م وهو يُنقل من سجن إلى آخر ومن محكمة إلى أخرى ..هكذا طوال ربع قرن من الزمان. ولم يتوقف خلاله من التأليف والتبليغ حتى أصبحت في أكثر من (130) رسالة، جمعت تحت عنوان "كليات رسائل النور" التي لم تتيسر لها أن ترى طريقها إلى المطابع إلا بعد سنة 1954م.

"إن رسائل النور ليست طريقة صوفية بل حقيقة، وهى نور مفاض من الآيات القرآنية ولم تستق من علوم الشرق ولا من فنون الغرب، بل هي معجزة معنوية للقرآن الكريم خاص لهذا الزمان(الملاحق قسطموني ص 202). "إن رسائل النور برهان باهر للقرآن الكريم، وتفسير قيم له، وهي لمعة براقة من لمعات إعجازه المعنوي، ورشحة من رشحات ذلك البحر، وشعاع من تلك الشمس، وحقيقة ملهمة من كنز علم الحقيقة، وترجمة معنوية نابعة من فيوضاته"(نفس المصدر ص220).

إن رسائل النور تفسير لمعاني القرآن الحكيم وهي تعالج القضايا الأساسية في حياة الفرد، إذ تنشئ عنده تصورات إيمانية جديدة وتهدم التصورات الفاسدة والسلوك الضعيف. فإنها تدور حول معاني (التوحيد) بدلائل متنوعة و(حقيقة الآخرة) و(صدق النبوة) و(عدالة الشريعة) إلى آخره من الأمور التي قصدها القرآن الكريم. علاوة على ما تبحثه من أمور الدعوة إلى اللّه ومحبة الرسول صلى اللّه عليه وسلم، والشوق إلى الآخرة وأمور اجتماعية وسياسية مختلفة. لذا قال الأستاذ النورسي بحقها:

"إن أجزاء رسائل النور قد حلّت أكثر من مائة من أسرار الدين والشريعة والقرآن الكريم، ووضحتها وكشفتها وألجمت أعتى المعاندين وأفحمتهم، وأثبتت بوضوح كوضوح الشمس ما كان يظن بعيداً عن العقل من حقائق القرآن كحقائق المعراج النبوي والحشر الجسماني، أثبتتها لأشد المعاندين من الزنادقة حتى أدخلت بعضهم إلى حظيرة الإيمان. فرسائل هذا شأنها لابد أن العالم - وما حوله - بأجمعه سيكون ذا علاقة بها، ولا جرم أنها حقيقة قرآنية تشغل هذا العصر والمستقبل، وتأخذ جل اهتمامه، وأنها سيف الماسيّ بتار في قبضة أهل الإيمان"(الملاحق اميرداغ ص 248).

ندوات ومؤتمرات عن الأستاذ وفكره

استلهام نهج القرآن الكريم:

"إن معرفة اللّه المستنبطة بدلائل علم الكلام ليست هي المعرفة الكاملة، ولا تورث الاطمئنان القلبي، في حين أن تلك المعرفة متى ما كانت على نهج القرآن الكريم المعجز، تصبح معرفة تامة وتسكب الاطمئنان الكامل في القلب. نسأل اللّه العلي القدير أن يجعل كل جزء من أجزاء رسائل النور بمثابة مصباح يضئ السبيل القويم النوراني للقرآن الكريم... وكما أن معرفة اللّه الناشئة من علم الكلام تبدو ناقصة وقاصرة ، فان المعرفة الناتجة عن طريق التصوف أيضاً ناقصة ومبتورة بالنسبة نفسها أمام المعرفة التي استقاها ورثة الأنبياء من القرآن الكريم مباشرة ..أما المنهج الحقيقي للقرآن الكريم فيجد الماء في كل مكان ويحفره أينما كان. فكل آية من آياته الجليلة كعصا موسى تفجر الماء أينما ضربت. وتستقرئ كل شيء القاعدة الآتية:

وفي كل شيء له آية   =      تدل على أنه واحد.

إن الإيمان لا يحصل بالعلم وحده، إذ إن هناك لطائف كثيرة للإنسان لها حظها من الإيمان فكما أن الأكل إذا ما دخل المعدة ينقسم ويتوزع إلى مختلف العروق حسب كل عضو من الأعضاء، كذلك المسائل الإيمانية الآتية عن طريق العلم إذا ما دخلت معدة العقل والفهم، فان كل لطيفة من لطائف الجسم - كالروح والقلب والسر والنفس وأمثالها - تأخذ منها وتمصها حسب درجاتها. فان فقدت لطيفة من اللطائف غذاءها المناسب، فالمعرفة إذن ناقصة مبتورة، وتظل تلك اللطيفة محرومة منها"( المكتوبات ص 424.)

ثم يضيف ويقول:" إني أخال أن لو كان الشيخ عبد القادر الكيلاني والشاه النقشبند  والإمام الرباني وأمثالهم من أقطاب الإيمان رضوان الله عليهم أجمعين في عصرنا هذا، لبذلوا كل ما في وسعهم لتقوية الحقائق الإيمانية والعقائد الإسلامية، ذلك لأنهما منشأ السعادة الأبدية، وان أي تقصير فيهما يعني الشقاء الأبدي. نعم، لا يمكن دخول الجنة من دون إيمان، بينما يدخلها الكثيرون جداً دون تصوف. فالإنسان لا يمكن ان يعيش دون خبز، بينما يمكنه العيش دون فاكهة. فالتصوف فاكهة والحقائق الإسلامية خبز. وفيما مضى كان الصعود إلى بعض من حقائق الإيمان يستغرق أربعين يوماً، بالسير والسلوك، وقد يطول إلى أربعين سنة، ولو هيأت الرحمة الإلهية في الوقت الحاضر طريقا للصعود إلى تلك الحقائق لا يستغرق أربعين دقيقة! فليس من العقل أن لا يبالى بهذا الطريق؟! فالذين قرؤوا بإنعام ثلاثاً وثلاثين رسالة من "الكلمات" يقرون بأن تلك "الكلمات" قد فتحت أمامهم طريقاً قرآنياً قصيراً كهذا. فما دامت الحقيقة هكذا. فإني اعتقد: إن "الكلمات" التي كُتبت لبيان أسرار القرآن هي أنجع دواء لأمراض هذا العصر وأفضل مرهم يمرر على جروحه، وانفع نور يبدد هجمات خيول الظلام الحالك على المجتمع الإسلامي، وأصدق مرشد ودليل لأولئك الحيارى الهائمين في وديان الضلالة"(المكتوبات ص 27.).

السبيل إلى نشر رسائل النور:

كانت الحروف العربية قد بدّلت إلى حروف لاتينية، وحظر الطبع والنشر بها، وأغلقت مطابعها، فكانت "طريقة الاستنساخ" باليد سراً هي الطريقة الوحيدة والعملية لنشر مؤلفات رجل منفي ومراقب، قد سدت في وجهه جميع سبل التأليف والنشر، وخاصة وانه كان يريد ـ بالإصرار على الكتابة بالحروف العربية ـ المحافظة عليها من الاندثار  والنسيان. فعندما بدأت حلقات الطلاب تتسع، بدأت الرسائل تصل إلى القرى والنواحي القريبة من (بارلا) وبدأت الأيدي تتلقف سراً هذه الرسائل وتتدارسها، وتهرّبها حتى إلى المدن البعيدة، حيث بدأت تكتسب قلوباً جديدة وأرواحاً عطشى إلى الهداية والنور في تلك الصحراء المحرقة والحالكة الظلام.

ترجمة رسائل النور:

وفق الأستاذ "إحسان قاسم الصالحي" لترجمة كليات رسائل النور كاملة إلى اللغة العربية في تسعة مجلدات وطبعت في كل من استانبول والقاهرة. وتولت الأستاذة "شكران واحدة" (مريم ويلد) ترجمة: الكلمات، المكتوبات، اللمعات، الشعاعات.. من كليات رسائل النور، كما ألّفت مجلداً كاملاً في تاريخ حياة الأستاذ النورسي فضلاً عن ترجمتها عدداً كثيراً من الرسائل الصغيرة. وهكذا أخذت الترجمات طريقها إلى الانتشار، فترجمت مجموعة من الرسائل إلى الألمانية والروسية والفارسية والكردية والمالوية والصينية والبوسنية وكثير من لغات دول آسيا الوسطى  وغيرها من اللغات.

واستطاعت رسائل النور أن تبني مدرسة إيمانية  قرآنية. أنقذت كثير من الناس من التيه والحيرة   والجهل والوقوع في براثن الشرك الجلي والخفي. ذلك لأنها  نابعة من القرآن الكريم وإدراك لطبيعة العصر وحركته وأفكاره وكتبت بأسلوب مطابق لروحه، يفهمه الخاص والعام. 

كليات رسائل النور تضم تسعة أجزاء سجل فيها "بديع الزمان" كل ما استلهمه من نور القرآن الكريم من معاني الإيمان وأملاها على محبيه في ظروف عسيرة بقصد إنقاذ إيمان الناس في هذا العصر العصيب بإحياء معاني القرآن ومقاصده في النفوس والعقول والأرواح. فوضع بيد الجيل الجديد منهلا ثراً ونبعاً قرآنياً صافياً يحفظ عليهم دينهم ويطهر قلوبهم وعقولهم مما قد علق بها، وهي كالآتي:

المجلد الأول:الكلمات

تضم ثلاثاً وثلاثين رسالة. توجز التسع الأُول منها معاني العبادة والعقيدة ونظر المؤمن إلى الدنيا، ووظيفة الإنسان في الوجود، وتجارته الرابحة في بيع نفسه وماله للّه، وأن الإيمان باللّه والآخرة يحل لغز الكون، وبيان حكمة أوقات الصلاة. ثم رسالة مستقلة في إثبات الحشر في ضوء تجليات الأسماء الحسنى، تعقبها مهمة الإنسان في الحياة والموازنة بين حكمة القرآن والفلسفة، وإيراد نظائر من الكون للحقائق القرآنية إسعافاً للقلوب التي ينقصها التسليم، ثم بيان معاني لرجم الشياطين. وشرح وافٍ لأحدية ذات اللّه جل جلاله مع عموم أفعاله الربانية، وخلقه الأشياء دفعة واحدة وخلقه التدريجي، وقربه منا مع بعدنا عنه، وبيان الانسجام التام بين تجلي اسم اللّه القهّار واسم الرحمن. وإيضاح أن كل شيء جميل إما بذاته أو بغيره، وإثبات نبوة محمد  صلى اللّه عليه وسلم  مفصلاً. وبيان أهمية معجزات الأنبياء في حثها الإنسان على التقدم في مضمار العلم. وتنبيه النفس المتكاسلة إلى الصلاة مع بيان أنواع الوساوس وسبل علاجها. وإيضاح التوحيد الحقيقي بأمثلة وافية، وبيان تكامل الإنسان بالإيمان. ومشاهدة تجليات الأسماء الحسنى على العوالم، وذكر مفاتيح لحل أسرار كثيرة في الوجود، وسرد اثني عشر أصلاً من أصول فهم الأحاديث الشريفة، وتنوع عبادة المخلوقات. ورسالة مستقلة في وجوه إعجاز القرآن، وأخرى في القدر الإلهي والجزء الاختياري للإنسان. تعقبها رسائل في لطائف الجنة، وفي بقاء الروح والملائكة و دلائل الحشر. وفي ماهية الإنسان "أنا" وأسرار حركة الذرات ووظائفها. وفي حكمة المعراج النبوي وثمراته. ومواقف علمية دقيقة في أسرار التوحيد، والتدرج في إدراك الأسماء الحسنى. والرسالة الأخيرة ثلاثة وثلاثون نافذة مطلة على التوحيد.وقد أُلحقت رسالة (اللوامع) بنهاية الكتاب، وهي ديوان شعر إيماني لطلاب النور.

المجلد الثاني:المكتوبات

تضم ثلاثا وثلاثين رسالة تستهل بأجوبة عن أسئلة حول حياة الخضر عليه السلام، وحكمة الموت ومخلوقيته وموقع جهنم. ثم سرد لمشاهد من حياة المؤلف وتأملاته الإيمانية في الكون، وإن الاهتمام بالمسائل الإيمانية ضرورة في هذا الزمان، وبيان حكمة زواج الرسول الكريم  صلى اللّه عليه وسلم  بزينب - رضي اللّه عنها- والفرق بين الكرامة والإكرام والاستدراج، وما الفرق بين الإيمان والإسلام؟ وإظهار عدالة الشريعة في الميراث، والحكمة في إخراج آدم عليه السلام من الجنة، وحكمة خلق الشياطين. ثم موقف المؤلف من السياسة وسبب ابتعاده عنها. والحكمة من وراء الفتن التي وقعت في زمن الصحابة الكرام – رضي اللّه عنهم - وحول نزول عيسى – عليه السلام -، وبيان أن مسلك الصحابة الكرام وأهل الصحو أسمى من وحدة الوجود وأسلم منه. ورسالة مستقلة في معجزات الرسول الكريم تضم أكثر من ثلاثمائة معجزة من معجزاته  صلى اللّه عليه وسلم  مسندة بأحاديث صحيحة. والتفصيل في أهمية الإيمان باللّه ومعرفته ومحبته، وكيفية رعاية حقوق الآباء والشيوخ. ورسالة خاصة في الأخوة بين المؤمنين وسبل علاج الاختلاف. وإيضاح ما يجري في الكون من موت ومصائب، ومقتضيات اسم الرحيم والحكيم والودود. وذكر أسرار الدعاء وأنواعه، ورسالة في دحض دسائس الشيطان حول القرآن. وبيان أضرار الدعوة إلى العنصرية، والإفصاح عن منهج الاعتدال في الاختلافات بين مسالك الأولياء، وكيف أن رسائل النور تؤدي مهمة الإرشاد، ورسالة في الشكر وأنه ثمرة الكائنات. وأجوبة عن أسئلة متنوعة حول إعجاز القرآن ومعرفة حقائقه. ورسالة في حكمة الصيام، وتنبيه حملة القرآن إلى دسائس الشيطان، والرد على المبتدعة الذين يحاولون تغيير الشعائر الإسلامية. وفي الختام رسالة في التصوف وبيان محاسنه ومزالقه. وقد أُلحقت بها رسالة (نوى الحقائق) وهي مقتطفات لسانحات قلبية من آثار المؤلف القديمة.

المجلد الثالث : اللمعات

تضم ثلاثين رسالة تستهل بالدروس المستخلصة لحياتنا اليومية من مناجاة سيدنا يونس وأيوب عليهما السلام، ثم بيان أن السنة النبوية مرقاة ومنهاج. ورسالة في حكمة الاستعاذة من الشيطان، ومذكرات في العروج إلى المعرفة الإلهية. وبيان أهمية الاقتصاد ومغبة الإسراف ورسالتين في دساتير الإخلاص في الفرد وفي الجماعة. ثم رسالة في الرد على الطبيعيين. ورسائل رقيقة ودقيقة إلى الأخوات في الآخرة، وبيان أهمية الحجاب، ورسالة إلى المرضى والمبتلين وإلى الشيوخ من خلال ذكريات المؤلف نفسه. ورسالة في التفكر الإيماني الرفيع ، ومسك الختام رسالة الاسم الأعظم المتضمنة قبسات من أسماء اللّه الحسنى: القدوس، العدل، الحكم، الفرد، الحي، القيوم. 

المجلد الرابع: الشعاعات

تضم خمس عشرة رسالة تستهل في إثبات: أن جمال الكون ومزايا الإنسان لا يظهر إلا بالتوحيد. ورسالة "المناجاة" ضمن جولة في أرجاء الكون. ثم اللواذ إلى كنف الرحمن في مراتب (حسبنا اللّه ونعم الوكيل)، وبيان أشراط الساعة وصفات الدجال والسفياني. والتأمل في معاني "التحيات للّه..."، ورسالة جليلة في مشاهدات سائح يستنطق الكون. وإثبات أن الإيمان بالآخرة أساس لحياة الإنسان الفردية والاجتماعية. وبيان حكمة التكرار في القرآن، وثمرات الإيمان بالملائكة. وتعقبها مرافعات الأستاذ النورسي وطلابه في محاكم دنيزلي وآفيون، مع رسائل مسلية من السجن. وفي الختام إقامة الحجج الدامغة في إثبات التوحيد والرسالة.

المجلد الخامس: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز (تحقيق)

ألفه بالعربية وهو تفسير لفاتحة الكتاب وثلاثين آية من سورة البقرة، يبيّن بعبارات موجزة الإعجاز النظمي للقرآن الكريم أي جهة مناسبة الآيات بعضها ببعض، وتناسب الجمل وتناسقها، وكيفية تجاوب هيآت الجمل وحروفها حول المعنى المراد، معتمداً في ذلك على أدق قواعد علم البلاغة، وعلى أصول النحو والصرف، وقوانين المنطق ودساتير علم أصول الدين، وسائر ما له علاقة بذلك من مختلف العلوم. وقد أملى المؤلف هذا التفسير البديع عندما كان رصاص الروس ينهال عليه من كل جانب في أثناء الحرب العالمية الأولى، فلم يثنه ذلك الموقف الرهيب ولم يُذهِل فكره الثاقب عن الجولان في مناحي إعجاز القرآن المبين. أُلحق بالكتاب "قالوا عن القرآن" للأستاذ الدكتور عماد الدين خليل.

المجلد السادس: المثنوي العربي النوري (تحقيق)

هذه الرسائل بمجموعها ترشد إلى دروب النفس الأمّارة بالسوء، وتكشف عن دقائق مسالكها وخبايا دسائسها، وتضع العلاج لأمراضها المتنوعة، ومن ثم تأخذ بيد القارئ إلى منابع الإيمان في رياض الكون الفسيح، لينهل منها ما ينهل حتى يرتوي القلب، ويشبع العقل وتنبسط الروح... فضلاً عن أنها توصله إلى أصول فكر النورسي، فيوغل معه في أعماق تجاربه مع النفس، ويرافقه في سريان روحه في أرجاء الكائنات، ويعمل فكره في ما نصبه من موازين علمية ومعايير منطقية ومناهج فطرية، فهذا السفر النفيس مشتل رسائل النور وغرسها حيث فيه خلاصة أفكاره، بل إن أغلب ما أزهر من  أفكاره - في رسائل النور- بذوره كامنة فيه. إذ يضع أمام كل مسلم، بل كل إنسان نمطاً جديداً وفريداً من أساليب التزكية والتربية، قلّما يجده في كتاب آخر؛ حيث إنه يمزج أدق الموازين العقلية والمقاييس المنطقية بأرفع الأشواق القلبية، واسطع التفجرات الروحية ضمن أمثلة ملموسة تكاد لا تخفى على أحد، آخذاً بيده برفق، متجولاً معه في ميادين النفس والآفاق، مبيناً له ما توصل إليه من نتائج يقينية، بعد تجارب حقيقية خاض غمارها تحت إرشاد القرآن الكريم

المجلد السابع: الملاحق في فقه دعوة النور

مجموعة مكاتيب جرت بين الأستاذ النورسي وطلابه الأوائل. وطابعها العام توجيهي إرشادي يبين أهمية رسائل النور، ومنهجها في الدعوة إلى الله في هذا العصر. تكتنفها مكاتيب ودّيّة يبين فيها الطلاب مدى استفاضتهم الروحية من رسائل النور، واستفادتهم العقلية منها، وكيف أنها حوّلت مجرى حياتهم، وفتحت أمامهم آفاقاً معرفية واسعة. وتتضمن أيضاً توجيهات لتقويم السلوك وكيفية التعامل مع الآخرين، والحث على الإيمان العميق والعمل المتواصل والترابط الوثيق والاعتصام بالكتاب والسنة، مع التأكيد على العبادة وشحن القلب بالذكر والدعاء والتفكر الإيماني، ودوام الاستغفار والانطراح بين يدي المولى القدير عاجزاً فقيراً... وأمثالها من الأمور التي تهم كل داعية إلى الله، بل كل مسلم. وتتضمن "الملاحق" ثلاثة كتب مستقلة هي: ملحق بارلا. ملحق قسطموني. ملحق أميرداغ.

وكل ملحق من هذه الملاحق الثلاثة يبين مرحلة معينة من مراحل حياة الأستاذ النورسي، مثلما يبين مرحلة مميزة أيضاً من تاريخ دعوة النور منذ انبثاقها في تركيا. لذا امتازت "الملاحق" بطابع دعوي خاص في مخاطبة المحبين والمناصرين للدين بل حتى المعارضين له، وحثهم جميعاً للذود عن الإسلام وعقيدته وتأريخه، لما واجه المجتمع التركي وقتئذ من ملابسات سياسية قاسية شاذة، وحرمان عن أبسط المفاهيم الإسلامية في مرحلة لم يكن هناك عمل إسلامي جاد، يحمل على عاتقه مسؤولية النهوض بحمل الأمانة وإرشاد أبناء الأمة.

المجلد الثامن : صيقل الإسلام (آثار سعيد القديم): يضم الرسائل الآتية:

 - محاكمات عقلية في التفسير والبلاغة والعقيدة (ترجمة وتحقيق)،

 - قزل إيجاز: حاشية الأستاذ النورسي على "السلم المنورق" المنظوم لشيخ الإسلام عبدالرحمن الأخضري (ت: 983هـ) في علم المنطق، مع شرح الملا عبدالمجيد.

 - تعليقات على برهان الكلنبوي: رسالة في علم المنطق أيضاً؛ عبارة عن تعليقات وتقريرات الأستاذ النورسي على كتاب "البرهان" للعالم المحقق إسماعيل بن مصطفى الكلنبوي (ت: 1205هـ). وهاتان الرسالتان ألفهما الأستاذ النورسي باللغة العربية.

 - السانحات

 - المناظرات

رسالتان باللغة التركية تسلطان الأضواء على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث أُلّفتا والدولة العثمانية تعاني ما تعاني في أيامها الأخيرة، وقد دبت فيها أمراض شتى وعلل متنوعة، لذا تضمان الحلول الوافية والعلاجات الشافية لها، وفي الوقت نفسه تضمد الجروح الغائرة التي أصيبت بها الأمة الإسلامية، وتضع البلسم الشافي عليها بأسلم وسيلة.

 - المحكمة العسكرية العرفية:

دفاع الأستاذ النورسي أمام المحكمة العسكرية العرفية في عهد الاتحاديين، والمسماة بـ "شهادة مَدْرَسَتَيْ  المصيبة"؛ إذ عندما طالب الأستاذ إصلاح التعليم، وتأسيس جامعة في شرقي الأناضول باسم مدرسة الزهراء ألقي في مستشفى المجاذيب، وبعده أقُتيد إلى المحكمة العسكرية بتهمة مطالبته بعودة الشريعة.

- الخطبة الشامية: وهي التي ألقاها في الشام بيّن فيها أمراض الأمة الإسلامية ووسائل علاجها.

- الخطوات الست: ألّفت رداً على احتلال الإنجليز لإستانبول، تفنّد أباطيلهم، وتشدّ من عزائم المسلمين في تلك الأيام المظلمة.

المجلد التاسع: سيرة ذاتية من إعداد إحسان قاسم الصالحي: وهي سيرة حياة بديع الزمان سعيد النورسي مستخلصة من جميع مؤلفاته ومرتبة حسب التسلسل التاريخي.

المجلد العاشر: الفهارس من إعداد : حازم ناظم فاضل.

 استمر الأستاذ النورسي في تأليف رسائله حتى سنة 1950 فأصبحت في أكثر من "130" رسالة، جُمعت تحت عنوان "كليات رسائل النور" التي تضم أربع مجموعات أساسية، وغيرها من مجموعات لم تر طريقها إلى المطابع إلاّ بعد سنة 1954 . وكان النورسي يشرف بنفسه على الطبع.

مقاوم عتيد

رجل نحيل قد تزدريه العين لكن فيه صلابة خارقة وعناد عجيب. لن نتعب أنفسنا بإحصاء كما مرة سجن وكم مرة عذب وكم مرة نفي لأن هذه الأمور لم تتدخل في تشكيل فكره بل مضت حياته وكأنه طيار أوكل الرحلة والقيادة إلى الطيار الآلي (Autopilot) وانشغل بالفكر وهداية نفسه والآخرين. عاش مطاردا، مشرداً، منفياً، مسجوناً، ممنوعا.. لكنه بلغ ما يريد. رفض "بديع الزمان سعيد النورسي" الموالاة والمداهنة للظلم ومجافاة شرع الله، فاُدخل السجن مرات، وتعرض للعديد من المحاكمات منها حكم بالشنق غير أنه نجا منها وذلك لما أظهره من شجاعة في مواقفه، وهذه الصفة تضاف لسابقاتها. وللرجل صفات وخصال اتسم بها منها السلامة الفطرية ويرجع ذلك إلى البيئة التي تربى وترعرع فيها والتي كان لها التأثير في محافظته على الفطرة السليمة، قوة الحافظة: وهو ما أظهره من خلال سنه الفتي الذي حفظ فيه كتاب الله وغيره من الكتب ، هذه الصفة التي ستبقى مرافقة له إلى آخر عمره، وله قوة التأمل والملاحظة: وهذا ما أبهر به معلميه وهي من أهم الصفات التي زينته وساعدته على ما أجاد وأبدع فيما بعد.

أحس اقتراب الموت وقد بلغ الثالثة والثمانين، ففي عام 1960 طالب بإلحاح الخروج من إسبرطة والتوجه إلى أورفة حاول مريدوه ثنيه عن عزمه لكنه شيخ عنيد. وصل إلى أرفة وتوفي هناك في الخامس والعشرين من رمضان  ك سنة 1379هـ الموافق 23 آذار 1960م. بعد نحو شهرا من وفاته قام الجيش بانقلاب وعطلوا الحريات. ثم إن الانقلابين انقضوا على قبر الشيخ، بعد أربعة أشهر من وفاته، ونقلوا رفاته بالطائرة إلى مكان مجهول. لا يعرف أحد للنورسي قبرا لكن مقابر تركيا مليئة بشواهد قبور تحمل اسمه. حركته اليوم تضم الملايين، ما تمر ليلة دون أن تعقد مئات الحلاقات لدراسة رسائله وتدبر معانيها. لعل سر نجاحه يكمن في بساطته واقترابه من فطرة الإنسان، ..المفتاح الذي احتفظ به بديع الزمان سعيد النورسي.

صفوة القول: إن رسائل النور تجاهد لكي تبلغ مستوى الشفوف الروحي العذب. لقد قاد سعيد النورسي سفينة الإيمان إلى بر الأمان في بحر هائل وتفادى الاصطدام بما قد يعطب تلك السفينة وأسس حركة خدمة الإسلام وما زالت تخدمه في جميع أنحاء العالم. إنها حكاية مفكر مسلم أريد له أن تتطابق حياته مع تغيرات شديدة ألمت بتركيا والأمة الإسلامية كلها. معركة حول دور الإسلام في الفكر، في المجتمع، في الحكم، في وجوه الحياة جميعا. ففي سيرة النورسي اختصار لمسيرة المسلمين وأحوالهم في الفترة التي تمتد من الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى أواسط القرن العشرين، كان السائد في تركيا هو منهج التقليد المبني على الإحساس والوجدان فقط ولكن العصر الحديث هو عصر تفوق العقل على الإحساس أي هو عصر هزيمة التقليد أمام العقل وآلت السيطرة إلى مبدأ التحقق وصار ضرورياً شرح وإيضاح الحقائق الإسلامية بما يتوافق مع العقل والمنطق.

 كان النورسي يؤمن بأن العصر ليس عصر إجبار وقسر بل عصر محاجة وبرهان. لذا يجب نشر الإسلام بتنوير العقول لا بمخاطبة المشاعر والأحاسيس فقط. إنه يقدم رؤية توحيدية للكون، لا يفرق بين ما هو طبيعي فيزيائي وما هو رباني روحاني. فالكون من خلق الله وبهذا تصبح كل العلوم والمعارف منبثقة منه عز وجل. إن وظيفة العلم أن يفسر ما نراه في الطبيعة ويكشف الأسباب التي تقف خلف ما نراه. تلك القواعد والقوانين والسنن التي لا تتغير. وضعها خالق الكون تعبيراً عنه، ودلالة عن أسمائه، وصفاته سبحانه.