«زمان كأهله»* للروائي محمد الهجابي

«زمان كأهله»* للروائي محمد الهجابي:

نداء الكتابة

الناقد عمر نعسيلة والروائي محمد الهجابي

 يُلاحِظُ ميلان كونديرا أنّ تاريخَ الروايةِ يُشبه «مقبرةَ الفرصِ الضائعة»، و«النداءاتِ غير المسموعة»[1]. ويشير إلى أن ما أثار انتباهَهُ من هذا التاريخ هو أربعةُ نداءاتٍ: نداءُ اللعب، ونداءُ الحلم، ونداءُ الفكر، ونداءُ الزمان[2]. وروايةُ زمان كأهله محاولةٌ للإصغاء إلى نداء الحلم، وذلك بجعل الرواية «المكانَ الذي يستطيع فيه الخيالُ أن ينفجر»[3]، ومثلما هو الحال في الحلم، فالخيال فيه نورٌ« يُدرَكُ به تصويرُ كلّ شيء»[4]، و«هو صحيحٌ كلّه»[5]، لذلك فَـ« مَن لا يعرفُ مرتبةَ الخيالِ فلا معرفةَ له جملةً واحدةً »[6]، كما يعبر ابن عربي.

 زمان كأهله عنوانٌ يمكن تصنيفُهُ ضمن العناوين الموضوعاتية حسب جيرار جُنيت[7]. وهي العناوين التي تشير إلى موضوع النص وفق تحديده. زمان كأهله صورةٌ، تشبيهٌ. فَما الصفةُ أو الصفاتُ التي يشتركُ فيها الزمانُ وأهلُهُ؟ ثم ما هذا الزمانُ؟

 يَقومُ الوصلُ بين الزمان وأهله في الثقافة العربية القديمة، التي تحاورها الرواية، على الذم والهجاء. زمان كأهله عملٌ روائيٌّ يتغيا نقدَ الزمانِ وأهلَ الزمان. وهذا الزمانُ غير محدد تاريخياً في الرواية: «في زمنٍ ولَّى وأَفِل، جلبَ سلطانُ هذه الإمارة المتاخمة للبحر، والصحراء، في الآن نفسه، قوماً...»[8]. لكنّنا نجد في النص إشارةً إلى عالم إيطالي من البندقية يُذَكِّرُ بليوناردو دافنتشي وابتكاراته الغريبة، تم اعتقاله من قبل قراصنة الشمال، وتم بيعه في المزاد العلني، وقد صنع هذا العالمُ ثلاثَ ركائب « ذات تراكيب مدهشة » (ص. 132). وهي «مصنوعة من التَّنََك. ولها كراسي مغلفة بجلد الجَمَل، وعلى جانبي كل كرسي جناحان مطويان ومغموران بريش النعام» (ص.133)، « وهي في هيأة طيور خرافية، عملاقة»(ص. 133).

 التصديرُ ليس حِليةً نصيةً. إنه مدخلٌ للقراءة، ويصلُ العنوانَ بالنص، ويُسهمُ في تحقيق التداخل بين الداخل والخارج النصيين، عبر وظائف متعددة( حددها جيرار جينت في كتابه عتبات، وهي: تبريرُ اختيار العنوان[9]، وتحديدُ دلالة النص وتوضيحُها[10]، والإيحاءُ بالرسالة الخاصة للتصدير[11]، والإشارةُ إلى الحقبة الأدبية، أو الجنس الأدبي أو توجه الكتابة[12]). التصدير، إذن، عنصرٌ بِنائيٌّ للنص والدلالة.

 ونلاحظ توظيفَ الكاتبِ للتصدير كعنصر بنائي في كافة أعماله المنشورة التحليلية والإبداعية[13]. ونرى أن للتصدير الذي اختاره الكاتب لروايته زمان كأهله وظيفتان:

 5-1-الرواية والحلم

 مدخل أول للقراءة. زمان كأهله روايةٌ الرؤيا فيها عنصرُ بناءٍ أساسي. إنها رؤيا:

 يكتبُ أحمد الهلالي في مستهل الرواية: « قد قررت أن أحط ترحالي عند الجذع الضخم. وبعد أن ركنت إليه، بللت حلقي بالماء. ثم سرحت رجليّ قدامي، وتوسدت المخلاة، وغفوت. ورأيتني أعتلي هضبة مصخرة..»(ص. 8).

 ويكتبُ في آخر الرواية: « تلك الشجرة استجرت بظلها، ظهيرة ذلك اليوم، من لطع الصهد وضنى المسير. ثم غفوت عند جذعها، فإذا بأشيائي الداخلية ترتج، وبأحوالي تفيض من ضفافها. وعندما أفقت، وأخذت أستعيد وعيي بالتدريج(...) وجعلت أجس ما حولي ببصر حسير كأنما أجهده طول التحديق »(ص. 173).

 ويكتبُ أيضاً واصفاً تجربة الحلم التي مر بها:« لكأن نفسي غادرت نفسي، ولكأنني تصدعتُ. أأكون قد أغمضت عينيّ، وفتحتهما في ردح من الزمن، هو أقل من خفقة جناح طائر، فيما تهيأ لي كما لو أمضيت الدهر كله دون أن يغمض لي جفن؟ أأكون قد سكنت بمكاني، ولم أبرحه قط، فيما خيّل إليّ كما لو طفت العالم بأسره؟ »(ص. 177).

 5-2-الرواية والرسم(اللون)

 مدخل ثان للقراءة. زمان كأهله روايةٌ تُحَوِّلُ الزمانَ إلى مكان، والمكانَ إلى زمان، وتحول السردَ إلى وصف، والوصفَ إلى سرد، وتحول الروايةَ إلى لوحة، واللوحةَ إلى رواية. فأحمد الهلالي عاشقٌ للطبيعة، الصامتة والصائتة، والأمكنة العمرانية، والأشكال والألوان والروائح، والأحوال والهيئات، والأدوات والألبسة. إن الكتابة لديه تتحول إلى كتابة بصرية، لأنّ الحلم يتقدم في شكل مشاهد ولوحات وصور. وهذه الكتابة البصرية والتصويرية ليست حليةً وزخرفاً لإبراز الخلفية التي تقع فيها وقائع الرواية، بل إنها عنصرٌ أساسٌ في البناء النصي والدلالي. وله عُلقَةُ انسجامٍ حميمية مع عنصر الحلم. إذ هما يسهمان في تفجير الخيال وجعله خيالاً في خيالٍ.

 5-3-الرواية والجسد

 مدخل ثالث للقراءة. زمان كأهله روايةٌ تحتفي بالجسد عبر توسيع إمكاناته الوجودية والكتابية، وذلك بالرقص، والغناء، والإيقاع، و الجنس، والكتابة. فيسهم بذلك، بوصفه عنصرَ بناءٍ نصي ودلالي، في تفجير الخيال.

 *محمد الهجابي: زمان كأهله، رواية، ندا كوم، الرباط، 2004.

               

[1] . Milan Kundera, L’art du roman ; essai, Ed. Gallimard (1986), coll. Folio, 1995, p. 26.

[2] . Ibid., p. 26-28.

[3] . Ibid., p. 27.

[4] . محيي الدين ابن عربي، الخيال عالم البرزخ والمثال ويليه الرؤيا والمبشرات، جمع وتأليف محمود محمود الغراب، مطبعة نضر، دمشق، الطبعة الثانية، 1993، ص. 34.

[5] . المرجع السابق، الصفحة ذاتها.

[6] . المرجع السابق، ص. 17.

[7] . Gérard Genette, Seuils, Ed. Du Seuil (1987), coll. Points, 2002, p. 85.

[8] . محمد الهجابي، زمان كأهله، ندا كوم، الرباط، 2004، ص. 13 و ص. 176. وستُعطى الإحالة على نص الرواية داخل المتن كل مرة.

[9] . Gérard Genette, Seuils, op. cit., p. 159.

[10] . Ibid., p. 160.

[11] . Ibid., p. 161.

[12] . Ibid., p. 163.

[13] . وهذه الأعمال هي :

-         التصوير والخطاب البصري؛ تمهيد أولي في البنية والقراءة( عينة التصوير الشعبي)، ديوان 3000، الرباط، الطبعة الأولى، 1994. (دراسة)

-         بوح القصبة، ندا كوم، الرباط، الطبعة الأولى، 2004.( رواية)

-         موت الفوات ( رواية ستصدر قريبا عن دار أفريقيا الشرق، المغرب، الدار البيضاء).