تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 49

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 49

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " رَسائِلُ الْجاحِظِ "]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

كانَ يُقالُ : لا يَزالُ النّاسُ بِخَيْرٍ ما تَعَجَّبوا مِنَ الْعَجَبِ ! قالَ الشّاعِرُ :

وَهُلْكُ الْفَتى أَلّا يَراحَ إِلَى النَّدى وَأَلّا يَرى شَيْئًا عَجيبًا فَيَعْجَبا

قالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْمُزَنيُّ : كُنّا نَعْجَبُ مِنْ دَهْرٍ لا يَتَعَجَّبُ أَهْلُه مِنَ الْعَجَبِ ، فَقَدْ صِرْنا في دَهْرٍ لا يَسْتَحْسِنُ أَهْلُهُ الْحَسَنَ ! وَمَنْ لا يَسْتَحْسِنُِ الْحَسَنَ لَمْ يَسْتَقْبِحِ الْقَبيحَ ! وَقالَ بَعْضُهُمُ : الْعَجَبُ تَرْكُ التَّعَجُّبِ مِنَ الْعَجَبِ !

شهدت أستاذي العالمين الفنانين الصديقين الدكتور محمد حماسة والدكتور حامد طاهر ، وقد استحسن الدكتور حامد وجها حسنا ، فقال الدكتور حماسة : أما زلتَ تستحسن ! أنت إذن بخير !

شَرابُكَ هذا قَدْ أَخَذَ مِنَ الْخَمْرِ دَبيبَها فِي الْمَفاصِلِ ، وَتَمَشِّيَها فِي الْعِظامِ ، وَلَوْنَهَا الْغَريبَ !

استفدتَ من قول عاشق الخمر الحَكَميّ :

" فَتَمَشَّتْ في مَفاصِلِهِمْ كَتَمَشِّي الْبُرْءِ فِي السَّقَم " !

الشِّعْرُ الْفاخِرُ حَسَنٌ ، وَهُوَ مِنْ فِي الْأَعْرابيِّ أَحْسَنُ . فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْلِ الْمُنْشِدِ وَقَريضِه وَمِنْ نَحْتِه وَتَحْبيرِه ، فَقَدْ بَلَغَ الْغايَةَ وَأَقامَ النِّهايَةَ !

إنما يستحسن من فم الأعرابي لأنه أَعْرَب ، ومن إنشاد صاحبه لأنه أَصْدَق !

وَجَدْنَا الْفَلاسِفَةَ الْمُتَقَدِّمينَ فِي الْحِكْمَةِ الْمُحيطينَ بِالْأُمورِ مَعْرِفَةً ، ذَكروا أَنَّ أُصولَ الْآدابِ الَّتي مِنْها يَتَفَرَّعُ الْعِلْمُ لِذَوِي الْأَلْبابِ أَرْبَعَةٌ : فَمِنْهَا النُّجومُ وَبُروجُها وَحِسابُهَا الَّذي يُعْرَفُ بِهِ الْأَوْقاتُ وَالْأَزْمِنَةُ ، وَعَلَيْها مِزاجُ الطَّبائِعِ وَأَيّامِ السَّنَةِ . وَمِنْهَا الْهَنْدَسَةُ وَمَا اتَّصَلَ مِنَ الْمَساحَةِ وَالْوَزْنِ وَالتَّقْديرِ ، وَما أَشْبَهَ ذلِكَ . وَمِنْهَا الْكيمياءُ وَالطِّبُّ اللَّذانِ بِهِما صَلاحُ الْمَعاشِ وَقِوامُ الْأَبْدانِ وَعِلاجُ الْأَسْقامِ ، وَما يَتَشَعَّبُ مِنْ ذلِكَ . وَمِنْهَا اللُّحونُ وَمَعْرِفَةُ أَجْزائِها وَقَسْمِها وَمَقاطِعِها وَمَخارِجِها وَوَزْنِها حَتّى يَسْتَوِيَ عَلَى الْإيقاعِ وَيَدْخُلَ فِي الْوَتَرِ ، وَغَيْرُ ذلِكَ مِمَّا اقْتَصَرْنا مِنْ ذِكْرِه عَلى أَسْمائِه وَجُمَلِهِ اجْتِنابًا لِلتَّطْويلِ وَتَوَخِّيًا لِلِاخْتِصارِ . وَقَصَدْنا لِلْأَمْرِ الَّذي إِلَيْهِ انْتَهَيْنا وَإِيّاهُ أَرَدْنا ، وَاللّهُ الْمُوَفِّقُ وَهُوَ الْمُسْتَعانُ ! وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ كُلِّ عِلْمٍ فيما خَلا مِنَ الْأَزْمِنَةِ يَرْكَبونَ مِنْهاجَه وَيَسْلُكونَ طَريقَه وَيَعْرِفونَ غامِضَه وَيُسَهِّلونَ سَبيلَ الْمَعْرِفَةِ بِدَلائِلِه ، خَلَا الْغِناءَ ؛ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكونوا عَرَفوا عِلَلَه وَأَسْبابَه وَوَزْنَه وَتَصاريفَه ، وَكانَ عِلْمُهُمْ بِه عَلَى الْهاجِسِ وَعَلى ما يَسْمَعونَ مِنَ الْفارِسيَّةِ وَالْهِنْديَّةِ ، إِلى أَنْ نَظَرَ الْخَليلُ الْبَصْريُّ فِي الشِّعْرِ وَوَزْنِه وَمَخارِجِ أَلْفاظِه ، وَمَيَّزَ ما قالَ الْعَرَبُ مِنْهُ ، وَجَمَعَه ، وَأَلَّفَه ، وَوَضَعَ فيهِ الْكِتابَ الَّذي سَمّاهُ الْعَروضَ ؛ وَذلِكَ أَنَّه عَرَضَ جَميعَ ما رُوِيَ مِنَ الشِّعْرِ وَما كانَ بِه عالِمًا ، عَلَى الْأُصولِ الَّتي رَسَمَها وَالْعِلَلِ الَّتي بَيَّنَها ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ خَرَجَ مِنْها ، وَلا قَصَّرَ دونَها . فَلَمّا أَحْكَمَ وَبَلَغَ مِنْهُ ما بَلَغَ ، أَخَذَ في تَفْسيرِ النَّغَمِ وَاللُّحونِ ، فَاسْتَدْرَكَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَرَسَمَ لَه رَسْمًا احْتَذى عَلَيْهِ مَنْ خَلْفَه وَاسْتَتَمَّه مَنْ عُنِيَ بِه . وَكانَ إِسْحاقُ بْنُ إِبْراهيمَ الْمَوْصِليُّ أَوَّلَ مَنْ حَذا حَذْوَه وَامْتَثَلَ هَدْيَه ، وَاجْتَمَعَتْ لَه في ذلِكَ آلاتٌ لَمْ تَجْتَمِعْ لِلْخَليلِ بْنِ أَحْمَدَ قَبْلَه : مِنْها مَعْرِفَتُه بِالْغِناءِ ، وَكَثْرَةُ اسْتِماعِه إِيّاهُ ، وَعِلْمُه بِحَسَنِه مِنْ قَبيحِه وَصَحيحِه مِنْ سَقيمِه . وَمِنْها حِذْقُه بِالضَّرْبِ وَالْإيقاعِ وَعِلْمُه بِوَزْنِها . وَأَلَّفَ في ذلِكَ كُتُبًا مُعْجِبَةً ، وَسَهُلَ لَه فيها ما كانَ مُسْتَصْعِبًا عَلى غَيْرِه ، فَصَنَعَ الْغِناءَ بِعِلْمٍ فاضِلٍ وَحِذْقٍ راجِحٍ وَوَزْنٍ صَحيحٍ ، وَعَلى أَصْلٍ مُسْتَحْكِمٍ لَه دَلائِلُ صَحيحَةٌ واضِحَةٌ وَشَواهِدُ عادِلَةٌ . وَلَمْ نَرَ أَحَدًا وَجَدَ سَبيلًا إِلَى الطَّعْنِ عَلَيْهِ وَالْعَيْبِ لَه .

كلام فاخر ينسخ ما سبقه من سفاهةٍ على الخليل ، رضي الله عنه !

من فوائده أن كتابه إنما هو " العروض " ، لا " العروض والقافية " ، وأنه كتاب واحد  ، لا كتابان " العروض " ، و" القافية " ، لأن العروض مشتمل مع الوزن على القافية .

ثم من فوائده أن علم الموسيقا العربي مبني على علم العروض العربي . وقد عرفنا مما روى الأصفهاني عن أبي النضير ، أنه لما دخل عليه الموصلي فوجده يغني على تقطيع العروض ، فقال له في ذلك - قال : هذا الغناء القديم .

ثمت من فوائده أن الخليل نظر في علم العروض ، بما نظر به في غيره من علوم العربية ، على منهج علم الأصول ؛ وبمثل هذا استحدثتُ في تمهيدية الماجستير بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة ، توجيه هذا العلم ( علم الأصول ) من مقرراتها ، إلى ما بين علم العروض وعلم الصرف من توافق ، على ما في كتابي " ظاهرة التوافق العروض الصرفي " ؛ فلم أخل من إعراض تلامذة وهمز زملاء ولمز أساتذة ، حتى لَأَسْأَلُ الحق - سبحانه ، وتعالى ! - أن يخزن لي أجرها !

ثمت من فوائده أن علم معالج الفن بالفن الذي يعالجه ، أكمل وأصح فيه مِنْ عِلْم مَنْ لم يعالجه .

لَوْ خَيَّرْنا رَجُلًا بَيْنَ الْفَقْرِ أَيّامَ حَياتِه ، وَبَيْنَ أَنْ يَكونَ مُمَتَّعًا بِالْباهِ أَيّامَ حَياتِه - لَاخْتارَ الْفَقْرَ الدّائِمَ مَعَ التَّمَتُّعِ الدّائِمِ !

في العبارة اضطراب ، وكأنها ينبغي أن تكون : " بين الغنى (...) وبين (...) - لاختار الفقر " ، أي عدم الغنى !

لَسْنا نَقولُ وَلا يَقولُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَعْقِلُ : إِنَّ النِّساءَ فَوْقَ الرِّجالَ ، أَوْ دونَهُمْ بِطَبَقَةٍ أَوْ طَبَقَتَيْنِ أَوْ بِأَكْثَرَ ، وَلكِنّا رَأَيْنا ناسًا يُزْرونَ عَلَيْهِنَّ أَشَدَّ الزِّرايَةِ ، وَيَحْتَقِرونَهُنَّ أَشَدَّ الِاحْتِقارِ ، وَيَبْخَسونَهُنَّ أَكْثَرَ حُقوقِهِنَّ . وَإِنَّ مِنَ الْعَجْزِ أَنْ يَكونَ الرَّجُلُ لا يَسْتَطيعُ تَوْفيرَ حُقوقِ الْآباءِ وَالْأَعْمامِ إِلّا بِأَنْ يُنْكِرَ حُقوقَ الْأُمَّهاتِ وَالْأَخْوالِ ؛ فَلِذلِكَ ذَكَرْنا جُمْلَةَ ما لِلنِّساءِ مِنَ الْمَحاسِنِ . وَلَوْلا أَنَّ ناسًا يَفْخَرونَ بِالْجَلَدِ وَقوَّةِ الْمُنَّةِ وَانْصِرافِ النَّفْسِ عَنْ حُبِّ النِّساءِ حَتّى جَعَلوا شِدَّةَ حُبِّ الرَّجُلِ لِأَمَتِه وَزَوْجَتِه وَوَلَدِه ، دَليلًا عَلَى الضَّعْفِ وَبابًا مِنَ الْخَوَرِ - لَما تَكَلَّفْنا كَثيرًا مِمّا شَرَطْناهُ في هذَا الْكِتابِ !

فـ" إن النساء شقائق الأقوام " ! كما قال الشاعر العربي ؛ فليس الكلام في تدريج الدرجات بل في تحقيق الحقوق والواجبات . ولكن الإنسان مجبول على ظلم الضعيف وخوف القوي ، وبين هذين تضطرب أحوال الرجال والنساء مهما كانت طبيعة ضعف الضعيف وطبيعة قوة القوي !

لَيْسَ يَكونُ أَنْ تَصْفُوَ الدُّنْيا وَتَنْقى مِنَ الْفَسادِ وَالْمَكْروهِ ، حَتّى يَموتَ جَميعُ الْخِلافِ وَتَسْتَوِيَ لِأَهْلِها وَتَتَمَهَّدَ لِسُكّانِها عَلى ما يَشْتَهونَ وَيَهْوَوْنَ ، لِأَنَّ ذلِكَ مِنْ صِفَةِ دارِ الْجَزاءِ ، وَلَيْسَ كَذلِكَ صِفَةُ دارِ الْعَمَلِ .

كلما تقويتُ بما في الصبر على أذى الناس ، ضعفتُ بما في الصبر عنه ؛ فإن في هذا من الصفاء ما ليس في ذاك .

لِكُلِّ النّاسِ نَصيبٌ مِنَ النَّقْصِ وَمِقْدارٌ مِنَ الذُّنوبِ ، وَإِنَّما يُتَفاضَلُ بِكَثْرَةِ الْمَحاسِنِ وَقِلَّةِ الْمَساوي . فَأَمّا الِاشْتِمالُ عَلى جَميعِ الْمَحاسِنِ وَالسَّلامَةُ مِنْ جَميعِ الْمَساوي دَقيقِها وَجَليلِها ظاهِرِها وَخَفيِّها ، فَهذا لا يُعْرَفُ فيهِمْ .

هذا هو الرأي ، وهو ما نؤمن به ، ونجري عليه ، ونُعَلِّمه . وهو أراه في الناس من كل جهة تناولتُهم بها ، حتى لَأَعُدُّ في كبار العلماء أو الفنانين ، من كانت غلبة إحسانه على إساءته أكثر في أعماله منها في أعمال غيره .

قَدْ عَلِمْنا أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتي عَمَّتِ الْخَوارِجَ بِالنَّجْدَةِ ، اسْتِواءُ حالاتِهِمْ في أَشَدِّ الدِّيانَةِ وَاعْتِقادُهُمْ بِأَنَّ الْقِتالَ دينٌ لِأَنَّنا حينَ وَجَدْنَا السِّجِسْتانيَّ وَالْجَزَريَّ وَالْيَمانيَّ وَالْمَغْرِبيَّ وَالْعُمانيَّ وَالْأَزْرَقيَّ مِنْهُمْ وَالنَّجْديَّ وَالْإِباضيَّ وَالصُّفْريَّ وَالْمَوْلى وَالْعَربيَّ وَالْعَجَميَّ وَالْأَعْرابيَّ وَالْعَبيدَ وَالنِّساءَ وَالْحائِكَ وَالْفَلّاحَ ، كُلُّهُمْ يُقاتِلُ مَعَ اخْتِلافِ الْأَنْسابِ وَتَبايُنِ الْبُلْدانِ - عَلِمْنا أَنَّ الدِّيانَةَ هِيَ الَّتي سَوَّتْ بَيْنَهُمْ في ذلِكَ .

ولم أجد في الإسلاميين أظهر على الحُكّام وأظهر بهم ، مِنَ الوهابية في السعودية ، ولا مِنَ الإباضية في عمان !

أَمّا سُكّانُ الصّينِ فَإِنَّهُمْ أَصْحابُ السَّبْكِ وَالصِّياغَةِ وَالْإِفْراغِ وَالْإِذابَةِ وَالْأَصْباغِ الْعَجيبَةِ ، وَأَصْحابُ الْخَرْطِ وَالنَّجْرِ وَالتَّصاويرِ وَالنَّسْجِ وَالْخَطِّ وَرِفْقِ الْكَفِّ في كُلِّ شَيْءٍ يَتَوَلَّوْنَه وَيُعانونَه ، وَإِنِ اخْتَلَفَ جَوْهَرُه ، وَتَبايَنَتْ صَنْعَتُه ، وَتَفاوَتَ ثَمَنُه .

عجبا !

ما زالوا كما وصفتهم منذ أكثر من ألف ومئتي سنة !

كَذلِكَ الْعَرَبُ لَمْ يَكونوا تُجّارًا وَلا صُنّاعًا وَلا أَطِبّاءَ وَلا حُسّابًا وَلا أَصْحابَ فِلاحَةٍ ، فَيَكونوا مَهَنَةً ، وَلا أَصْحابَ زَرْعٍ لِخَوْفِهِمْ صَغارَ الْجِزْيَةِ ! وَلَمْ يَكونوا أَصْحابَ جَمْعٍ وَكَسْبٍ ، وَلا أَصْحابَ احْتِكارٍ لِما في أَيْديهِمْ وَطَلَبٍ لِما عِنْدَ غَيْرِهِمْ . وَلا طَلَبُوا الْمَعاشَ مِنْ أَلْسِنَةِ الْمَوازينِ وَرُؤوسِ الْمَكاييلِ . وَلا عَرَفُوا الدَّوانيقَ وَالْقَراريطَ . وَلَمْ يَفْتَقِرُوا الْفَقْرَ الْمُدْقِعَ الَّذي يَشْغَلُ عَنِ الْمَعْرِفَةِ ، وَلَمْ يَسْتَغْنُوا الْغَناءَ الَّذي يورِثُ الْبُلْدَةَ ( البلادة ) ، وَالثَّرْوَةَ الَّتي تُحْدِثُ الْغِرَّةَ ، وَلَمْ يَحْتَمِلوا ذلًّا قَطُّ ، فَيُميتَ قُلوبَهُمْ وَيُصَغِّرَ عِنْدَهُمْ أَنْفُسَهُمْ . وَكانوا سُكّانَ فَيافٍ وَتَرْبِيَةَ الْعَراءِ ، لا يَعْرِفونَ الْغَمَقَ ( الوخامة ) ، وَلَا اللَّثَقَ ( الرطوبة ) ، وَلَا الْبُخارَ ، وَلَا الْغِلَظَ ( غلظ الهواء ) ، وَلَا الْعَفَنَ ، وَلَا التُّخَمَ ( الوباء ) . أَذْهانٌ حَديدَةٌ ، وَنُفوسٌ مُنْكَرَةٌ ! فَحينَ حَمَلوا حَدَّهُمْ ، وَوَجَّهوا قُواهُمْ إِلى قَوْلِ الشِّعْرِ وَبَلاغَةِ الْمَنْطِقِ وَتَشْقيقِ اللُّغَةِ وَتَصاريفِ الْكَلامِ وَقِيافَةِ الْبَشَرِ بَعْدَ قِيافَةِ الْأَثَرِ وَحِفْظِ النَّسَبِ وَالِاهْتِداءِ بِالنُّجومِ وَالِاسْتِدْلالِ بِالْآثارِ وَتَعَرُّفِ الْأَنْواءِ وَالْبَصَرِ بِالْخَيْلِ وَالسِّلاحِ وَآلَةِ الْحَرْبِ وَالْحِفْظِ لِكُلِّ مَسْموعٍ وَالِاعْتِبارِ بِكُلِّ مَحْسوسٍ وَإِحْكامِ شَأْنِ الْمَناقِبِ وَالْمَثالِبِ ، بَلَغوا في ذلِكَ الْغايَةَ ، وَحازوا كُلَّ أُمْنيَّةٍ ! وَبِبَعْضِ هذِهِ الْعِلَلِ صارَتْ نُفوسُهُمْ أَكْبَرَ ، وَهِمَمُهُمْ أَرْفَعَ ، وَهُمْ مِنْ جَميعِ الْأُمَمِ أَفْخَرُ ، وَلِأَيّامِهِمْ أَذْكَرُ !

ما أنصفتهم - يا أبا عثمان - واشتطت بك الكتابة لأمراء الترك في مناقبهم ، حتى كسلت عن تحصيل حقيقة الوجود العربي الحضاري ، من قبل الإسلام بعيدا وقريبا ، ومن بعده !

وبمثل هذا يفتتن ناشئة العرب ، حتى ليذهلون في بعض حقائق أنفسهم عن بعض ، بأكاذيب المستشرقين وأضاليلهم ، التي لم تنج منها حقيقة من حقائق وجودهم ذلك الحضاري !

ولكن يأبى الحق - سبحانه ، وتعالى ! - إلا أن يتيح للحضارة العربية كل حين ، من يستوعبها ؛ فينافح عنها ، ويستخرج في سبيل ذلك كل خبيئة من كل طوية ، عربية وعجمية - مثل الدكتور محمد نجيب البهبيتي ، ولا سيما في كتابه " المعلقة العربية الأولى ، أو عند جذور التاريخ " !

أكل هذا كان - يا سيدنا - ويكون ، ونحن عنه غافلون ! لقد اختدعنا أعداؤنا عن أنفسنا ، ثم سلطوا بعضنا على بعض ، وبقوا يضحكون !

رحمة الله وبركاته عليك - سيدنا الدكتور البهبيتي - أيَّ نِقابٍ كنت ، وأي مخلص متقن ! أَلَمْ يقرَّ لك بمصر قرارٌ على دَخَن الخيانة والخباثة المتردِّيَتَيْن ملابس الحداثة والبداعة ، حتى فررت إلى المغرب بدينك وعلمك وعملك ؛ ففتح لك " فَتْحًا مُبينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقيمًا وَيَنْصُرَكَ اللّهُ نَصْرًا عَزيزًا " !