خلخلة السائد ومعنى الحياة
في "كائنات من غبار" للروائي المغربي هشام بن الشّاوي
فاطمة بن محمود / تونس
"هل يمكن أن نحكم على كتاب من غلافه ؟".
قطعا، لا.
لا أعرف كيف تدبّر الروائي المغربي الشاب هشام بن الشاوي عنواني الالكتروني ليراسلني.. هو لا يندرج ضمن أصدقائي الكتّاب، الذين أتواصل معهم.. ولا يمت بصلة ما إلى أيّ من أحبتي المغاربة، الذين أحب القراءة لهم.
وصلتني رسالة الكترونية وفيها روايته.. لم ترقني كثيرا فكرة القراءة الالكترونية للكتاب.. أحبّ أن أتنفّس حبر الرواية وأن ألمس الصفحات وأتصفّح الأوراق.. وكأني أداعب الشخوص.. أحبّ أن أثني كل مرة طرف الصفحة وكأني أغمز لأحد رجال القصة أو الرواية.. وكأني أترك علامة أن هنا مرّت بهم امرأة وستعود لهم. لذلك طلبت من الروائي هشام بن الشاوي الرواية ورقيا ووصلتني.. بسرعة.
إلى هنا.. تبدو المسألة عادية جدا.
في تلك الأثناء كنت على معركة على صفحات النتّ مع أحدهم؛ كان لا يرى في الكاتبة سوى امرأة/ جسد يضجّ بالرغبة.. وكان من عادتي دائما ألا أفرض على الكاتب أن يراني كاتبة.. لأنه هكذا سيفعل، أم الرجل الذي يطيل النظر إلى نصفه الأسفل.. كان يجب أن أفرض عليه أن يرفع بصره، و ينظر إلي... باحترام.
في معركتي هذه.. كنت أحسّ أني امرأة جريحة في كبريائها، وأحب من يتعاطف معي.. عندها وصلتني رسالة الكترونية من هشام بن الشاوي يطلب مني أن أتستّر على هذه المعركة.. أن تكون حربا سرية بيني و بين ذاك الرجل البائس، الذي يطيل النظر إلى نصفه الأسفل و.. ثرت.
غضبت من هشام بن الشاوي.
لماذا يريد مني التستر على رجل أهانني؟
أليس في ذلك خذلانا لي ومساندة لعدوي؟
ثم في فورة الغضب.. قلت: لن أقرأ له.
هل كان يكفي أن يقول لي هشام بن الشاوي رأيه عن معركة غير أدبية، لأحكم عليه في مسألة أدبية؟
قطعا، لا.
اهدئي قليلا، يا فاطمة.. تنفسي جيدا..
لو فعلت.. سأتحول عندها من امرأة كاتبة إلى امرأة تقف في شرفتها، لتتلصّص على جاراتها و.. سأكون بائسة، ولن تصلح رفوف الكتب في بيتي إلا أكداسا أصعد عليها لأسترق النظر إلى الرجال المارين في الشارع.
كم سأكون بائسة جدا.. !!
ويحك يا فاطمة !.. أين هي الديمقراطية التي تؤمني بها، والاختلاف الذي تحبينه وحرية الرأي التي تحلمين بها.
إذن، سأقرأ لهشام بن الشاوي، وسأترك روايته تدافع عنه.
إن كانت الرواية مثيرة، ورائعة فستفتك بقلبي وتكتب نفسها بروحي التواقة إلى الجمال، وأرتشف بهاءها، و إن لم ترقني ستكون هناك أكثر من طريقة أنيقة للاعتذار.
قرأت الرواية..
وذهلت..
لم يكن من عادتي أبدا أن أقرأ الرواية دفعة واحدة، ولكن هذا ما حدث مع رواية هشام بن الشاوي "كائنات من غبار".. قرأتها دفعة واحدة.
لم أستطع أن أتوقف عن بهائها.
لم أستطع أن أردّ أنفاسي.
شربتها دفعة واحدة.. و كان من عادتي أن أرتشف الرواية/القصص قطرة.. قطرة..
كنت أحبّ أن أتملّى الأحداث وأقف عند بعضها.. و أتخيّل ربما سياقا آخر للأحداث أو تعرجات في هندستها.. كنت أحب أن أقف قليلا عند الشخوص، وأتفاعل مع أبطال الرواية فأحبّ هذا.. وأكره ذاك..
و لكن ما حصل أني قرأتها دفعة واحدة، ولم.. أرتوِ.
لم أستطع أن أتوقف لأرتشف قهوتي..
لم أستطع أن أتوقف لأتملى عاشقين يجلسان بحميمية على يساري.
لم أستطع أن أتوقف لأنتبه إلى رجل وحيد يجلس في أقصى فضاء المقهى، ويشغل وقته بالنظر.. إليّ.
لم أستطع أن أتوقف لأسأل صديقتي عبر الهاتف عن القناة، التي ستبث في ذلك المساء فيلم ريشارد جير.. وريشارد جير هذا أنا مفتونة به.. عندما ينظر إليّ – عبر الشاشة – أرتعش، وعندما يلامس امرأة ما في لقطة من فيلمه.. أذوب أنا في مكاني.
كان في الرواية سحرا خاصا يشدّك..
كان في الرواية متعة تخصّها، وتأسرك..
كان من الغبن أن أقرأ مثل هذه الرواية، ولا أكتب عنها.
لذلك كنت بحاجة إلى أن أعيد قراءتها ثانية، لأجد لنفسي مسالك فيها تؤدي إليها..
غلاف الرواية متوسط الحجم، وفيه ترتسم على كامل الصفحة صورة لشمس توشك أن تغرب.. يبدو أن النهار قد انقضى أو يكاد.. لملم أحداثه ويستعدّ للرحيل، وعندها كان الكاتب على ما يبدو أن يجمع أدواته ليبدأ سرده.. كأن الكتابة حكمة عند الروائي هشام بن الشاوي.. كأن الكتابة فعل تأمل للأحداث، ولعله يتناسب وهيقل الذي يعتبر الفلسفة حكمة.. هي كبومة مينرفا، التي لا تظهر إلا حين ينتهي النهار، ويلملم أحداثه أو يكاد.. يتوغل بعيدا، ليترك مكانه لليل.. عندها يبدأ الفيلسوف بالتفكير.
ولأن الشمس تكاد تغيب، كان اللون المنتشر على غلاف الرواية هو البرتقالي، المائل إلى الأصفر الفاقع.. ويكاد في الأطراف يلتقي مع لونه الداكن.. هذا البرتقالي هو لون الحزن والألم والحداد في الثقافة اليابانية.. هل كان الشاوي يريد أن يقول أنه سيكون حزينا جدا في روايته.. كئيبا حدّ الألم .. موجوعا حدّ العظم؟
واللون الأصفر الفاقع يأخذ دلالته في الثقافة الشعبية لبلادي بأنه لون الوقاحة والفجور..
هل هناك علاقة بين الحزن والوقاحة، بين الألم والفجور؟
** تفجير الكتابة و كتابة التفجير :
عندما قرأت الرواية علمت لماذا اختار هشام بن الشاوي هذا العنوان.. إنه، في روايته، يحوّل الكتابة إلى أداة تفجير، ومن هذا المنطلق نجده يوجه قلمه إلى المجتمع.. إلى قيمه البالية وضوابطه المهترئة.. إنه يفجّر المخفي والمسكوت عنه.. إنه يفجّر العلاقات المشبوهة، ويدين أشكال التخلف والجهل.. إنه يفجّر التركيبة الاجتماعية الفاسدة، ويحاكم مسببي الفساد..
يفجّر الكبت الجنسي، وإن كان فرويد يحوّله إلى طاقة إبداع، فإن بن الشاوي يحوّله إلى علاقات شاذة هي اللواط، ونكاح الأتان ومضاجعة المحارم. يفجّر صورة الأم الرائعة ويحوّلها إلى امرأة/ جسد، تبيع اللذة لمن يشتهي.
يفجّر العلاقات الأسرية، التي تنبني على الاحترام والثقة، ويجعلها علاقات مشبوهة، بل آثمة.. عندما يجتمع الإخوة (الأخوال) الثلاثة في حبّ امرأة واحدة، ويعوّض الشاب المكبوت أتان عمّه بزوجة عمّه.
يفجّر صورة الصديق الوفي والشهم، ويحوّله إلى لوطي.. يرخي عينيه في ظلام الغرفة، ويبعث بأنين شهيّ. يفجّر صورة المعلّم/ حارس القيم والأخلاق الفاضلة، ويجعله متحرّشا بالأطفال يفتضّ براءتهم بمداعباته السافرة.
إن الروائي هشام بن الشاوي يجعل من الكتابة عملية تفجير.. عنيفة وحادة، لذلك إثر كل كتابة/ تفجير يتعالى الغبار كثيفا، ويشكّل كائناته أوعناصره.. هذه الشخصيات المتشظّية، المقهورة المسلوبة، البائسة، الحزينة...
بقدر ما أمتعني الروائي هشام بن الشاوي بفعل ضربات المطرقة، على حدّ تعبير نيتشه، والذي يجعلنا نتحدث مع هذا الروائي المغربي عن التفجير الإبداعي، الذي يجعل من المبدع كائنا عضويا يساهم في مواجهة الظلم والقهر ويعرّي أشكال الفساد وينحاز للمقهورين بقدر ما أجده أفسد عليّ يومي.. أربك اطمئناني الزائف، وبعثر يقيني الساذج ببعض المسلّمات، التي أحتاج إليها ليستقيم يومي في واحدة من بلدان الجنوب.. هنا، حتى و إن اتّسعت الأرض تضيق السماء على العصافير، فلا تقدر على التحليق بحرّية.
ذهبت إلى مدينة بنزرت، واحدة من المدن التونسية الجميلة، التي تمددّ جسدها على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، لقضاء عطلتي الصيفية. ذهبت لأخفّف عنّي ضغوطات الحياة، وأحطّ جانبا كل تعبي. لكن حملت معي رواية هشام بن الشاوي "كائنات من غبار ". يبدو أن الذنب.. ذنبي.
لماذا أحمل مثل هذه الرواية، التي كانت بطعم قهوة البن، التي على طاولتي؟ هل، حقا، هذه الرواية المتفجّرة أفسدت عليّ عطلتي؟ لكن، منذ متى كنت أحبّ الكتابات المغلّفة بالأوهام؟
أنا أدرك أنه منذ صباي المكتنز برغباته الممنوعة لا أستلذّ غير القهوة المرّة. منذ أن عشقت الكتابة لا أستلذّ غير الكتابات العنيفة والحادّة والقاتلة..
رحم الله نيتشه.. إن الحقيقة/ الكتابة امرأة لا تحبّ أن تؤخذ إلاّ.. بالقوة.
** بناء المعنى في هندسة الرّواية :
يقسّم الروائي المغربي هشام بن الشاوي روايته " كائنات من غبار " إلى وجودين :
- وجود افتراضي : هو عالم الأوهام الجميلة والقيم الزائفة.
- وجود مادي : هو عالم الواقع المعاش.. هو قاع المجتمع.. إنه عالم الفقراء والمسحوقين و المكبوتين..
بين هذين الوجودين يتعارض عالمين :
- الوجود الافتراضي يعكس عالما خياليا يتمثل في تلك الشبكة العنكبوتية وفضاء الانترنت، وكل مواقع التواصل، التي تكون وهمية وزائفة، فهي ليست حقيقية، و إن كانت تدّعيها... هنا تصاغ علاقات وهمية، وتجيش انفعالات الرغبة، والانكسار، والمتعة، والفرح، والأمل واليأس.. وكل هذه المشاعر تنطلق من معطى افتراضي خيالي.
- الوجود المادي يراوح بين ورش البناء و قاع المجتمع.. هنا أو هناك يصوغ الفقر حكايات المهمّشين والمنسيين والمقهورين.. هنا يتعالى الغبار من حولهم بفعل أكوام الرمل والحجارة وأكداس الحاجة والفاقة والرياح التي.. لا ترأف.
يذكّرني هذا إلى حد كبير بذلك التقسيم الأنطولوجي، الذي يقوم به الفيلسوف اليوناني أفلاطون في أمثولة الكهف الشهيرة، فيقسم الوجود إلى وجودين/ عالمين:
- العالم العلوي.. عالم الحقيقية والمثل المطلقة.
- العالم السفلي.. عالم الأوهام والقيم الزائفة.
ولكن.. إذا كان أفلاطون يجعل من العالم المثالي هو الحقيقة والعالم الواقعي هو الزيف، فإن الروائي المغربي هشام بن الشاوي في روايته هذه، يقلب تلك المعادلة، ويجعل من العالم الافتراضي عالم الأوهام، والعالم الواقعي عالم الورش وقاع المجتمع عالم المسحوقين والمنسيين هو العالم الحقيقي.. هنا تنشــأ الحياة وتنتشر الأحلام.. هنا تضطرم الرغبة ويتسرّب المحظور..
هنا تأتي لقمة الخبز مغمّسة بالغبار، وكأس الشاي به مرارة الوقت.
لذلك تناول هشام بن الشاوي.. عالم الانترنات الافتراضي، فقط ليكشف ما يحدث فيه من فجور لغوي.. من مغالطات و تزييف.. من رغبات تأتي مشوّهة، لا تحقق إشباعها الحقيقي، فتعود منتكسة.. لذلك كان بطل الرواية في كل مرة يلجأ إلى عالم الانترنات ليتواصل مع كائناته الافتراضية بالنشر في صفحاته أو التعليق..
إن الروائي هنا يقترب كثيرا من كل واحد فينا إلى حدّ التّماس.. إنه واحد منّا، نحن كائنات الكتابة، الذين نسبح في الشبكة العنكبوتية، ويكون قريبا جدا هذا الشاوي منّا، فيصاب مثلنا بخيبة ما.. عندما نكتشف خاصة أن في عالم الكتابة هناك الكثير من التوحش والفظاعة.. الكثير من النميمة والتباغض.. الكثير من المتموموسين و المتمومسات في عالم الكتابة.. إنهن النساء اللاتي يشعرن بضعف نصوصهن، ربما، فيضفن من بهارات الأنثى ما يرفع من "قيمة" حضورهن الإبداعي، فيلذّ لهن، ربما، مغازلة هذا أو التقرّب من ذاك.. إني أجد الشاوي هنا جريئا وحاسما وصريحا، فيفضح من أسميهن بـ"مومسات الكتابة" و.. لأقلها بطريقة هشام بن الشاوي : " شراميط الكتابة ".
يبدو أن الروائي المغربي هشام بن الشاوي في روايته يتتبع آثار التمومس في العالم الحسي.. في قاع المجتمع.. إنه ملزم بما، ككاتب يحب القيم النبيلة، بفضح الظواهر التي يراها تدنّس عالم الكتابة.. وتشوّه حقول الإبداع.
الآن، فهمت لماذا تدخّل هشام بن الشاوي في معركتي مع ذلك البائس، الرجل المعقد الذي يترك أوراقه جانبا، ويطيل النظر إلى نصفه الأسفل.. فهمت لماذا طلب مني أن أخفي معركتي تلك.. أن أحلّها بيني وبين ذالك الشاعر البائس.. إنه يحبّ عدم تعكير هذا الفضاء بمعارك تكشف بؤس بعضهم، وتدنّس، ربما، فضاء الكتابة، الذي يفترض نقاءه و صفاءه.
لذلك كانت شخصية الكاتب في رواية هشام بن الشاوي حزينة، خائبة، موجوعة، تجرّ مرارة خيبتها من موقع إلى آخر...
يقوم هشام بن الشاوي في روايته هذه بالكتابة عن الكتابة.. إنها الحلم داخل الحلم، و يبدو أنه يعتقد أن الكاتب هو كائن حالم رهيف، ولكن الكتابة هي فعل تفجير، وخلخلة للسائد.. إنها تسونامي ضد الرداءة والبؤس والتمومس.. لذلك كان هشام بن الشاوي ينتقل في روايته بشخصية أخفّ من الملائكة، حسب تعبير بول نيزان، عندما يتحدث عن الفلاسفة.. وإذا كان بول نيزان يتحدث عن صنف من الفلاسفة ليبرز تساميهم عن الواقع، فإن هشام بن الشاوي يختلف معه، ويتحدث عن الكتّاب ككائنات حالمة، مرهفة، ورقيقة، لكن هذه الكتابة الشرسة والعنيفة تجعلهم يلتزمون بقضايا مجتمعاتهم، بواقع البؤساء.. مهمّتهم خلخلة السائد.
** في مواجهة ثوابت المجتمع : تكسير النمطية :
من أبرز ما أثارني- كامرأة- صورة المرأة في رواية "كائنات من غبار".. إنه يقدمها امرأة شهوة ورغبة جامحة، إنها امرأة شبقية و إيروسية فاتنة.. انها باختزال : جسد.. جسد يرتعش من الحرارة.. جسد يهتزّ من الشهوة.. جسد لا يراعي كليّا.. ضوابط المجتمع.
يقوم الروائي هشام بن الشاوي بزعزعة الصورة النمطية للمرأة. إنها في عالم الكتابة تستعمل جسدها لتمرير نصوصها الضعيفة والتافهة، وهي في العائلة امرأة تهتك ستر العلاقات الأسرية المحترمة لترتكب الفجور، وبسرعة، ترضى زوجة العم أن تحلّ محلّ أتان العمّ، ليفعل بها الشاب القوي والمكبوت ما يفعله بأتان عمّه.. وهي في المجتمع تستمتع بإثارة الفتنة، وتجد ذاتها فقط في دور الإغراء.. تشغل أطفالها الصغار و خادمتها الشابة لتحصر ثيابها على جسدها الذي يضجّ بمفاتنه.. وهي في الحب امرأة لعوب تقطّع قلب حبيبها، وتستمتع بهجره وتعذيبه.. وفي دور الأمومة تهتك قدسيتها كأمّ، لتكون عشيقة صديق ابنها..
أمرّر بصري على هذه الصور التي يقدمها الروائي هشام بن الشاوي، وأحاول أن أبحث بذاكرتي عن ثقب أرى منه امرأة خارج هذا السرب من النساء، وعبثا... لا أجد.
هل انتصر عليّ الروائي هشام بن الشاوي عندما كرّس هذه الصورة للمرأة، فقدمها في شكل إيروتيكي فجّ؟ ألا يعلم أنّ هناك امرأة، في مكان ما من الأرض، قد تقرأ روايته و تعجب بها، ومن الوجاهة الأخلاقية أن نحافظ، ولو بشكل مبتسر، عن صورة مشرقة لامرأة ما.
و أجد من بؤس القارئ أن أفكر بهذا الشكل.. و أستسمح قرامشي لتنزيل مفهوم المثقف العضوي، الذي يشتغل عليه في الحديث عن الكاتب العضوي، الذي يشتغل عليه والذي لا يكون ممكنا بالحديث عن الصور الجميلة، بل عن تأكيد الصور المشوهة والرديئة والشاذة في المجتمع.
الكاتب بمثابة الجرّاح، والجرّاح لا يعنيه أن يتحدث عن الأعضاء السليمة، بل أن يوجه مشرطه إلى الأعضاء المريضة والمتورّمة.. أن يزيل عنها ما التصق بها من جراثيم و تعفن و دمل و قيح.
كم سيكون بائسا ذلك "المبدع"، الذي سينقل صورة جميلة عن الطبيعة، بإحساس انطباعي ساذج وعفوي: السماء صافية، والأشجار خضراء، والعصافير تزقزق و... ألا يمكن أن يكتفي بأن يلتقط لذلك صورة فوتوغرافية تكون أصدق منه بالضرورة في عكس تلك الصورة؟.. وإذا كانت الأوضاع مستقرة، والبلاد سائرة في طريق النمو، والحياة جميلة.. ألا يليق بالمبدع عندها أن يتخلّص من أوراقه وأقلامه، ويكتفي بأن يكون قارئ نشرة أخبار في واحدة من بلدان الجنوب..
على المبدع أن يبحث له عن منفذ يقول به هذا الجمال، دون أن يحاكي الطبيعة بسذاجة، والروائي المغربي هشام بن الشاوي يقول الجمال، وبقوة .. عندما يتحدث عن الرداءة المنتشرة في المجتمع.. عن الكبت الذي يحرّك شخوصه.. عن الحرمان الذي يتنفسونه.. عن الفقر الذي يلبسهم.. و بقدر ما يغالي في رسم هذه الشخوص الشاذة، و السلبية و الوقحة، بقدر ما يؤكد على مشروعية الجمال و القيم النبيلة..
إنها طريقة المبدع، الذي يدافع عن عالم الخير والجمال.. و مثالية هذا العالم لا تلغيه، بل بقدر ما تكون طوباوية، بقدر ما تعني مشروعيتها في واقع بائس، فجّ، ركيك و غير سوي.
إلى حدّ الآن، أعتقد أني أستمتع بالرداءة المنتشرة بين شخوص الرواية، وحتى أزيد من متعة عطلتي.. خرجت من شقتي، وذهبت في نزهة - وحدي- على كورنيش مدينة بنزرت..
أن أكون وحدي هي طريقتي للتواصل مع أناي..
كان البحر هادئا، و قوارب الصيد تبحث عن لقمة ممكنة، والنوارس تساهم في جمالية المشهد.. ما أمتع الطيران بحرية.. ووجدت نفسي أفكر من جديد في رواية هشام بن الشاوي "كائنات من غبار"، وتحديدا في تلك العلاقة الشاذة بين الصديقين..
كنت أشعر بانشراح، وأنا أرى الزوارق تختال في عرض البحر، وأفواج العشاق تتهادى بتناسق، والأطفال يتتبعون براءتهم هنا وهناك.. كنت سعيدة.. أشعر بخصوصية اللحظة، وأشعر أن هشام بن الشاوي قد ذهب بعيدا في فضح رداءة المجتمع.. قد وظّف كل تقنياته السردية من أجل زعزعة اطمئنان القارئ.. كنت أقرأ الرواية، وأستمتع بوقتي.. كانت الرواية تشدّني بأحداثها الحياتية البسيطة، عندما يقدم فجأة الجملة/ الرجّة التي تفيد شذوذ الصديق مثلا.. هو لم يمهّد إطلاقا لشذوذه.. لم يلمّح أو يصرّح.. كان في سرده عاديا.. كل شيء يوحي بالانتظام، وفجأة، يقدم تلك الجملة التي تزلزل الحدث و ترجّ القارئ : "( .... ) يشاهد عبد الرحيم وهو يخلع قميصه، وإلى جانبه عماد، و قد بدأ يستسلم لإغفاءة لذيذة (.... ) يطفئ المصباح، و يتصاعد أنين خافت...
و يغرق المكان في إظلام تام" (ص87).
أذكر أني قرأت الجملة، ثمّ انتبهت.. كأن الجملة صعقتني، والمفاجأة التي لم أتوقعها.. فقد مثّل عماد، منذ برهة، صورة نمطية للصديق. جاء لزيارة صديقه بعد غياب طويل، وقد أضنته الوحدة، وأتعبته الحياة، فعاد إلى صديقه.. جاء به وفاءه للصداقة واحترامه للعشرة بينهما.. هكذا أوحى لي الرّاوي، ولكن هشام بن الشاوي كان يخفي لي السرّ الرّهيب.. إن ما يجمع الصديقين ليست الصداقة كقيمة أخلاقية وعلاقة إنسانية راقية، و إنما الرغبة الجنسية الشاذة... لم أتوقع هذه الرجّة.. وعدت صفحتين إلى الوراء أعيد القراءة، وأبحث عن بعض التفاصيل، التي قد تخفّف عني وقع المفاجأة.. أن أجد الراوي قد مهّد لهذا الحدث.. وأجد أنّ هشام بن الشاوي- عن عمد- قد جعل قارئه ينساب مع تداعي الأحداث في سرد عادي.. ثم فجأة، يقوم برجّه.
وهي طريقة فنّية تعتمد المخاتلة، وإرباك القارئ لإحداث المفاجأة.. تنجح هذه التقنية الفنية في القصيدة، لكنها تنجح أيضا في الرواية، وتساهم في كسر نمطية السرد، و انسيابية الأحداث.. و تدفع بحركة الرواية إلى .. الأمام.
وفي الحقيقة، أجد هذه التقنية الفنية عند هشام بن الشاوي عندما يكشف لنا عن زوجة العم، التي ترضى في لحظة صاعقة أن تقبل المضاجعة محلّ الأتان.. وأيضا عندما يكشف لنا أن هذه الأم هي عشيقة صديق ابنها..
لا زلت أجلس على الكورنيش، البحر يرسل أمواجه بلا كلل، والنوارس تحلق بمتعة، وأنا أستمتع بوقتي، وأفكر، ربما، في كيفية اقتناص هذا المشهد، وأزجّ به داخل قصيدة.. وأجدني أفكر في عماد، الصديق اللوطي في رواية "كائنات من غبار" لهشام بن الشاوي.
أتذكر جيدا أن الروائي المغربي قد فسّر بعد تلك الرجّة الأسباب النفسية والعائلية والاجتماعية، التي دفعت بعماد إلى هذا السلوك.. فهل يبرّر شذوذ هذه الشخصية من خلال أمه الماجنة، التي لم تحسن تربيته، أبيه الذي لا يعرفه.. معلّمه الذي تحرّش به.. أصدقائه الذين أحبّوا فيه رغبتهم المكبوته المحرقة.. وأنتبه إلى أم تصرخ في طفلها، وتمنعه من الاقتراب أكثر من أمواج الشاطئ و.. أشعر بتعاطف مع عماد.. لم تكن أمه تخاف عليه من أمواج الحياة .. من غدر الدنيا.. من تعرجات الطبيعة.. و أرى الأم التي كانت تصرخ في طفلها تحضنه، وتذهب به إلى بائع "القطانية"، الذي يجرّ عربته ببطء، و.. أتألم أنا.. لعماد.
هل هكذا تفعل فيّ شخوص الرواية، كأنها لم تعد رواية.. بالنسبة لي؟
هل يتعاطف هشام بن الشاوي مع عماد مثلي؟
أعتقد أن الأمر يختلف بيني كقارئة، وبين هشام بن الشاوي كروائي.
رغم أن هشام بن الشاوي يحمّل ماضي عماد ما انتهى إليه من شذوذ، يحمّل أمه نصيبا من عذابه، ومعلّمه الذي أفسد عليه طفولته، ورفاقه الذين استغلوا هشاشته إلاّ أني أجد الروائي هشام بن الشاوي يرفض كليا هذا الشذوذ.. يكفي أن نجد في أسلوبه السردي المفاجئ طريقة للقول أن حدثا رهيبا شائنا، هنا، لا يصحّ.. ثم لننظر قليلا في التقنية السردية التي استعملها الروائي لنقل وضعية الشذوذ تلك :
" لقطة بانورامية من فوق.. يشاهد عبد الرحيم وهو يخلع قميصه، و إلى جانبه عماد، وقد بدأ يستسلم لإغفاءة لذيذة.." ( ص 87 ).
في تقنية التصوير السينمائي، إذا كانت الصورة تلتقط من الأسفل في اتجاه الفوق تعني عملقة الشخصية، أو تعظيم الحدث للتدليل على القوة والجبروت والعظمة.. وإن كانت الصورة تلتقط من فوق موجهة إلى الأسفل تعني تقزيم الشخصية، وتضئيل الحدث.. إنها تدليل على الضياع، والتشتت وتفريغ الموضوع من كلّيته وقيمته.
لذلك نجد الروائي هشام بن الشاوي، وللمرّة الوحيدة في روايته "كائنات من غبار"، يحدّد موقع عينه الساردة، تطلّ على الحدث من فوق، كأنه أحدث ثقبا في سقف الغرفة، "بعد أن أسدل (عبد الرحيم) ستارة النافذة.. بعد أن أحكم إغلاق باب حجرته.. يطفئ المصباح ..." (ص 87 ). لم يعد لهشام بن الشاوي من فرصة سوى التسلل إلى الحدث من ثقب افتراضي في سطح الغرفة، يطلّ منه بقلمه التي تتحوّل إلى كاميرا تلتقط مشهد الشذوذ الذي يجمع عبد الرحيم وصديقه عماد.
وأجد في اعتماد هشام بن الشاوي هذه التقنية التصويرية موقفا قيميا من الحدث، إنه يقزّم شخوصه في هذا المشهد، ويتفّه فعل الشذوذ، ويشتّت حركة الجسد.. فيختزله إلى مجرد أنين خافت، بما في الأنين من شعور بالضعف والعجز.. والمرض.
ألم أقل - أعلاه- أن دور الكاتب تمجيد القيم النبيلة، دون السقوط في المباشرتية، و مواجهة الرداءة دون أن يفقد جمالية الأسلوب و دهشة الكتابة.
** خصوصية الأسلوب و جمالية الكتابة :
في روايته " كائنات من غبار " يختار هشام بن الشاوي أسلوبا غير سائد في الكتابة. يتخلص الكاتب من الأسلوب السردي المألوف، ويقذف بنفسه داخل الرواية، فيكون المتكلم الذي يتمثّل لي كل مرّة أحد الشخوص، ويحاول أن ينفذ التركيبة النفسية و الذهنية له.. ويتحدث عنها، وكأنه الآخر..
يبدو هنا هشام بن الشاوي قد اختار أسلوبا أجده عصيّا في روايته، ربما يريد أن يقنع المتلقي بمهارته.. يريد أن يلفت انتباهه إلى أنه روائي خارج سرب جيله. أجد المعجزة الروائية حنا مينه ينوّع في أساليبه، بعد أن سار طويلا في درب الكتابة الروائية العريقة، ولكن المغربي هشام بن الشاوي يريد أن يجرّب الصعب.. يريد أن يبدأ عكس السائد و المعتاد.. وحسب رأيي أجده قد وفّق إلى أبعد حدّ ..
في هذا الأسلوب في الكتابة.. قدّم الشاوي نفسه، وكأنه إله شخوصه.. خلقها كما يحبّ.. و يحرّكها كما يريد.. لذلك لم أشعر على امتداد الرواية أن أحد الشخوص قد تمرّد عليه، أو أن الأحداث قد انفلت من بين أصابعه..
في هذا الأسلوب في الكتابة قدّم الشاوي نفسه، وكأنه الضمير الخفي الساكن في كل شخصية. يقول الفيلسوف الاجتماعي دوركايم : "عندما نصمت يتكلّم الضمير فينا". هكذا كان حال الشخوص في الرواية.. تحب و تكره، تستبدّ بها الشهوة و يهدّها الحرمان.. يضنيها الفقر وتعذّبها الأحلام.. وهكذا اختار هشام بن الشاوي أن يكون الضمير، الذي ينفذ في تلك الشخوص، ويجوس في التركيبة النفسية والذهنية لها.. محترما تلك المسافة الفاصلة بينه ككاتب، وبين شخوص هي كائنات بشرية تعبّر عن نفسها كشرائح اجتماعية مختلفة، فلم ألحظ أنه يتدخل في شخصية بشكل يتناقض وبنيتها، أو يتدخل في أحداث بطريقة سافرة فيجعلها مركّبة.. كانت الشخوص متناسقة مع ذاتها، والأحداث منسابة في تمشّيها..
وأعود لسؤالي: هل أفسد عليّ هشام بن الشاوي في روايته " كائنات من غبار" عطلتي؟
بعد أن أنهيت القراءة الثانية للرواية، وحدّدت أهمّ الأفكار، التي سأشتغل عليها في مقاربتي.. أجد ذلك السؤال سيئ الطرح، كما يقول هايدقار، وأرى أن تتغيّر صيغة السؤال كما يلي: هل لهشام بن الشاوي رواية أخرى غير هذه؟ هل تراها ستكون بمثل هذا الجمال و تصنع المتعة لقرائها؟
أجد الروائي هشام بن الشاوي قد كان في تمام الإبداع في روايته هذه، و إن لم أتطرق إلاّ لبعض أبعادها، وهو لم يصعّد النسق على أبناء جيله فقط، بل رفّع النسق على نفسه أيضا.. لقد صعّب على نفسه كثيرا العمل الأدبي، الذي سيلي " كائنات من غبار".
مثل هذا السؤال لا تعنيني إجابته إطلاقا.
في هذه اللحظة، يرنّ التليفون، وإذا بصديقتي تهتف : "هل رأيت كم كان ريتشارد جير فاتنا ورائعا في فيلمه الذي .. انتهى الآن ؟".
و صعقت...
رواية هشام بن الشاوي لم تفسد عطلتي.. بل فوّتت عليّ فيلم لممثل أنـا أعـشــقه
....
رجاء، لا تقولوا هذا.. لزوجي.