قراءة في قصيدة ملحمة رحلة إلى عالم الغيب

حين يتحدث إلينا هوميروس ودانتي و المعري بلسان أوفيد العصر

قراءة في قصيدة ملحمة رحلة إلى عالم الغيب

للشاعر والأديب العالمي مُنيرُ مَزيَدْ

منير مزيد / رومانيا

[email protected]

سلمى بالحاج مبروك

القصيدة :

ملحمة

رحلة  إلى عالم الغيب

القصيدة مهدة للشعراء العظام :هوميروس.. المعري ....دانتي.....ملتون..بوشكين.. أوفيد..بودلير... دو فو.. عمر الخيام...باشو ماتسوو...ريمبو... امينسكو...طاغور

أتامل

 متلهفاً لعالم الغيب

أهوي في عالم مجهول

تشعر روحي بنشوة غامرة

و هي تدخل أبوابَ السماءِ

يكسوها الوشاح السماوي

مطرزاً بالنجوم...

تتبعني جوقة من الملائكة

تترنم بأناشيد السماء

تقودني إلى العرش العظيم...

أتسمر ... أركع ساجداً

أشعر بروح تلمسني

أسمع صوتاً قادماً من الهالة

يناديني ...

إني أصطفيتك من بين أحبائي

أباركك... أهبك الرحمة

أمجدك

و أرفع من شأنك

اهبط بسلام منا...

تبدأ رحلتي...

سائراً فوق جسر من الضباب

ملون بألوان طيف قزح

أسمعُ صراخاً وعويلا

أنظر

أرى رجالاً و نساءً

يسبحون في بحر من الحمم

يأكلون الصهاري الذائبة

يشربون القطران...

أقف صامتاً بين الوجوم و الذهول

آه ... لو أن لي جناحين

خائفاً من السقوط

أصلي

يتكوم الضباب حولي

يلفني

يجذبني إلى الأعماق

أجاهد

بلا جدوى

أستسلم

أغرق في دوامة الغيم...

متهاوياً في الأعماق

أجد نفسي في كهفٍ هائلٍ

محاطٍ بسياج من نارٍ و دخان

و على الجدران

رجالٌ ونساءٌ

أراهم عراة مصلوبين...

أركض في متاهة المحرقة

مرعوباً

عويلهم يصم أذني...

تظهر امرأة كطاووس

أتبعها... ألحقها

تركض مسرعة

ما أن أوشكت الإمساك بذيلها

يتبعثر الريش من حولي

يتلألأ...

أمسك الريش

أراني فوق قمة جبل من عاج ملون

يداي مملوئتان بالريش

أبحث عن المرأة

أراها كتل ضباب تتلاشى

تختفي...

انظر إلى الأسفل

وإذا بالسماء بساط قرمزي

ممدودٌ فوق البحر

الشمس والنجوم كرات من نار

تحترق

والقمر موقد من الرماد

يتطاير...

أرى جزيرة صغيرة

أتنهد

قائلاً: هذه أمي الحبيبة

إني أشتم عبير نسائمها

أغلق عيني

أتنفس بعمق شديد

تأتي صرخة من روحي

آه هذه جنة عدن

فردوسك الموعود...

يطير قلبي مغرداً...

فجأة

أرى أناساً على تلك الجزيرة

يحثون الرمال على رؤوسهم

والغربان تحوم فوقهم.. ...

أرى المسيح

على الدرب الرهيب ينزف

النبي يهاجر من مكة إلى المدينة

طلباً للأمان...

بوذا يسافر غريباً

متعباً و جائعاً

سقراط يجبر على تجرع السم

جيفارا يلاحق.. مطلوباً

لوركا يقطع أشلاءً

الفنانون يقايضون لوحاتهم بالخبز

والشعراء يتلون قصائدهم للصم

أبكي أقول: لابد أن هذا كابوسْ...

ابتهج

تعود الصرخة قائلة :

أبسط يديك

و دع الريش يتناثر

أنثر الريش

يظهر أمامي طير عملاق

أقفز على ظهره

أمتطيه

يهبط

يتحول الطائر إلى امرأة

ويعود كل شيء إلى شكله المرئي

السماء

البحر

الشمس

النجوم...

أما الجزيرة فثملة

حبلى بالمسرات

الندى يقطر من نهدها ألوانا

و الماء يضاجع التراب...

السماء ترضعها حليب الأسرار

تكسوها بالوشاح بسره اللازوردي

الشمس تداعب شعرها الذهبي

القمر يلهمها الأحلام و الأساطير

البحر قاعة للرقص

يغازل النجوم

يغويهم بالتأملِ و الرقص

الحوريات يعزفن على قيثارة الماء

أنغاماً سحرية

وطيور العندليب تشدو

تراتيل السماء و الأرض...

أقطف زهرة

أركع أمامها خاطباً ودّها

أقفز

أصرخ فرحاً

  أرقص...

بانينا كوخا

معبدا

و قارباً

نحيا في انسجام

نقطف الأزهار

 نسقي الحقول

من بئر شتاء الأحلام

نغني

نرقص

لا خوف

لا دموع

لا كوابيس...

وفي الليل

وبهدوء

نترك السماء تضاجع الأرض

لتلد الشعر و الأنبياء...

يصيح الشيطان

يعصره الحسد و الغيرة

يحرض الظربان

الأفاعي

الذئاب

والكلاب المسعورة

لتقرع طبول الكراهية و الحرب...

أرى النور على هيئة رجل

يحزم أمتعته

يستعد للرحيل

و قبل أن يرحل

يدخل الظلام  و يقتله...

تفتح أبواب الجحيم

يُخرج الشيطانُ

و كل أفاعيه

يمتطون تيتاناً

مسلحين

بالوحوش و الحيوانات البرية

تقودهم " هيدرا "

والشيطان...

ينثرون سُمُومَهُمْ

نيرانهم التي  يغذيها الحقد

يتركون الدمار وراءهم

يحرقون البحر

يذبحون الحياة

يلوثون الأرواح

يخطفون الشمس

يغتصبون القمر.. ...

أستيقظ

أشتم رائحة الدخان

والرماد

أصرخ

إلهي

لقد فقدتُ فردوسي..

و وجه الشيطان--

الأفاعي

والذئاب

ما تزال تطاردني...

أحمدُ اللهَ

على مخاطر الجحيم

التي سيرثونها جميعهم

لتكون مسكنهم الأبدي

آمين...

………………..

ما الذي سنفعله حين نجد أنفسنا وجه لوجه طقس شعري كل شيء يوحي فيه بأننا إزاء قصيدة من القصائد التي نادر ما تحدث في التاريخ؟

بدء من الإهداء الموجه إلى عظماء التراجيديا والملاحم من هوميروس إلى .. المعري ..دانتي.....ملتون..بوشكين.. أوفيد..بودلير... دو فو.. عمر الخيام...باشو ماتسوو...ريمبو... امينسكو...طاغور... وما سطوره بروعة إبداعهم مجد الإنسانية الإبداعي وصولا إلى شاعر القصيدة نفسه الذي لا يقل عنهم نجومية وسطوعا في عصره وهو المتوج ذاته بلقب أوفيد العصر تحكي القصيدة ملحمتها على لسان شاعر أتقن قنص الروائع وصناعة الحدث الإبداعي في زمن أصابه زكام الرداءة المستمر.

هو هذا الشاعر الأوفيدي البروميثيوسي والأوديسيسي رغما عن أنف كل من لا يريد الحقيقة

 وهو ينشد رائعة الدهر وملحمته الشعرية بأسلوب تداخلت فيه حتى تقنيات السرد والوصف والحوار وكل ما يلزم لصناعة الرواية و حتى لإنجاز سيناريو سينمائي بالشعري كما تداخل الواقعي بالأسطوري والفلسفي بالشعري ليستقرا في مكان ميتافيزيقي حيث تتوارد علينا صور من عالم آخر ما فوق بشري شبيه بجحيم أبي العلاء المعري وجحيم دانتي ولعل لهذا الأمر إختار الشاعر أن تنطلق القصيدة بفعل مضارع "أتأمل" وهي حركة توحي بالهدوء والسكينة والروية وهي في علاقة بفعل التفكير العميق والرؤية الإستشرافية خاصة وأن التأمل كثيرا ما يقترن بالفلسفة ويذكرنا فعل التأمل دائما "بكتاب الفيلسوف الفرنسي ديكارت "ستة تأملات فلسفية" فهل نحن إذن أمام حكاية شعرية وملحمة وجودية تحكي قصتها على طريقة التأملات الفلسفية؟ فماذا رأى الشاعر وماذا ستحمل حكايته الشعرية وملحمته الشعرية من مفاجآت لقارئ ينتظر من يوقظه من سباته العميق ونومه الدغمائي ؟

لعل المفاجأة الأولى التي تصفعنا في هذه القصيدة تلك المراوغة الشعرية التي أتى بها الشاعر عبر لعب وتلاعب لفظي حين انتقل من إيهامنا برصانة التأمل إلى تهور " اللهفة" يا إلهي أي صفعة تلك التي تنقلنا من وهم" التأمل" لتلقي بنا في لجاج " التلهف" وأي انقلاب وسخرية تمارسه الملحمة منذ بدايتها الأولى فما بين رصانة التأمل ووقاره ولهفة "اللهفة" مسافات ضوئية انقلابية فإذا كانت الأولى رمز السكينة والهدوء فإن الثانية رمز التهور والاندفاع بغريزة البدء نحو فعل شيء دون حساب عواقبه يقودنا فيه جموح المغامرة وجنون الإنسان المدفوع بغريزة البحث والكشف عن سر بداية وجودنا ..

فهل نحن أمام مغامرة بحث وكشف تتنازعها سلطة العقل والغريزة ؟..

إننا أمام قصيدة تبعثر الوجود وتعيد صياغته استنادا إلى مخزونها الأسطوري والحضاري ولغتها التي يلونها الخيال والتجذر العميق في تربة هويتها الإنسانية العميقة تلك الهوية التي تفيض من كل أصقاع العالم وتتنفس كل لحظات التاريخ الإنساني المعقولة وغير المعقولة ، المرئية و غير المرئية  وتنبش إرثه الحضاري الإبداعي، تركب أمواته من أحيائه و أحيائه من أمواته فلا انقطاع ولا انفصال ما دامت شجرة الإبداع الإنساني واحدة ، فروع أغصانها متنوعة في تشابك عنيف وإذا كانت جذورها هي هوميروس وأبي العلاء ودانتي وغيرهم من العظماء فإن جذعها وبقية فروعها شعراء المرحلة المعاصرة ولا سيما شاعرنا العالمي منير مزيد هو امتداد لهذه الشجرة..

فما بال هذا الشاعر لا يكف عن التحرش بنا وهو يقذف بنا من صدمة شعرية إلى أخرى وكأنه قد آل على نفسه أن يفجر سكوننا وأن يقتلعنا من جذورنا الراكدة ويقذف بنا في قلب حيرة شعرية لا تكف عن ممارسة فتنة إيقاظ الحواس والرمي بها في قلب رحى الجميل . فمهلك شاعرنا علينا فبعض دائك دواء وحسبنا أننا نتلمس الطريق إليك إلى مغارة شعرك العجيبة ولكن أمهلنا بعضا من الأنفاس حتى نستطيع متابعة نسقك الضوئي نحو هالة الجمال حتى وإن كانت على شاكلة "الجحيم الدانتي" فأليس "الليلة خمر وغدا أمر"؟

أقول هذا لأنك هويت بنا حين كنت أنت تهوي إلى عالم مجهول " أهوي في عالم مجهول" وربما كل ملحمة القصيدة تتركز في هذا المقطع الراكض بين التأمل و اللهفة والسقوط الذي يأتي في فعل "أهوي" هنا تنسج كل ملامح الملحمة الأسطورية لتأخذنا وتسحبنا دون موعد مسبق إلى عالم سفرتك الغريب. فهل أنت منزعج من السفر وحدك أم منزعج من أن تتركنا لجهلنا وحدنا ؟ وهل أنت مشفق من وحدتك علينا؟

ألهذا الأمر أبت ذاتك الشاعرة أن تكون وحيدة في هذه الرحلة الميتافيزيقية على مركبة شعرك الفضائية ؟

حتما سنركب مركبتك الشعرية وسنحلق معك بها في هذا الفضاء المتكور طالما ستخترق بنا ليس المكان فحسب بل الزمان أيضا . أقول ذلك لأن الشاعر في رحلته هذه يأخذننا إلى عالم لا يشبه عالمنا في شيء عالم يصير فيه انصهار الزمان في المكان وانصهار المكان في الزمان لينسكبا في قالب فضائية جديدة اسمها المطلق ولربما لهذا الأمر تحتشد جيوش الأفعال المضارعة بين أفعال تصف وأخرى تحكي وتقص فهل نحن أمام كوميديا إلهية جديدة من فصول جهنم كتلك التي صاغها دانتي في كوميدياه الشهيرة؟

وهل هذه القصيدة باختيارها السير على هذا الإرث العظيم للبشرية هي تبشر بقدوم عصر النهضة معها وحلول عصر العقل والإبداع ولو من بوابة الجحيم والسفر إلى جهنم ؟

تتوالى الأفعال والأحداث في القصيدة تباعا بين انفراج وأمل بسطوع ضوء فردوس ولو على سبيل المجاز كإحدى أمنيات الشاعر في إنقاذ العالم من هوته السحيقة ويظهر ذلك في هذا المقطع المقتطف الذي يأتي كحدث اعتراضي أو كما نسميه في لغة السينما بالفلاش باك غير أن هذا الفلاش باك ليس بمعنى العودة إلى الوراء فقط ولا بمعنى القفز إلى المستقبل بل هو هذا وذاك حيث تضيع خيوط التقسيم الزماني في اللامقسم في زمانية السرمد والاتصال والاستمرارية ما دام كل شيء مشدود إلى رؤية ترى رؤيتها أمامها على طريقة استبصار النبيين فيقول رؤيته ويرى قوله مروي في منولوج داخلي حيث تحاور الذات ذاتها فتنقسم شطرين شطر يكلم وشطر ينصت ما يتكلم في دلالة واضحة على فقدان الشاعر لتواصله الكامل مع الآخرين وعزلته عنهم بسبب سوء الفهم فالذات لا تكلم ذاتها إلى إذا عجزت عن إيجاد من يتكلم معها وهنا قمة الجحيم

 "إذ الجحيم كله في كلمة عزلة " ولننصت لهذا المنولوج.

أرى جزيرة صغيرة

أتنهد

قائلاً: هذه أمي الحبيبة

إني أشتم عبير نسائمها

أغلق عيني

أتنفس بعمق شديد

تأتي صرخة من روحي

آه هذه جنة عدن

فردوسك الموعود

يطير قلبي مغرداً...

فحتى ما شابه الفردوس أو ظنه الشاعر فردوس عدن ينقلب جحيما و حتى هذا الحدث الاعتراضي الفردوسي هو مجرد خدعة شعرية تمنحها الشاعر للقارئ كي يتنفس بعض الصعداء ويخفف عنه وطأة صورة الجحيم المتخفي في قناع /فردوس زائف .

لذلك ما تفتأ القصيدة أن تعود سريعا وبصيغة المباغتة الذي يلي هذا المقطع حيث ينفتح بعبارة " فجأة" و "الفجأة" هنا طبعا تحمل المفاجأة والتغير والانقلاب مجددا في حركة اتجاه سياق القصيدة حيث " الجحيم مجددا يطل برأسه الأشعث المغبر الناري وبئس المصير" . فما ذا أرته الفجأة يا ترى ؟

لننصت فقط إلى هذا المقطع الشعري في الملحمة الشعرية حتى نفهم مدى قدرة الشاعر على صناعة المأساة أو التراجيديا وصياغتها بلغة عالمية تحكي عذابات كل البشر سواء كانوا من جنس النبيين أم البشر العاديين أو القدسين أو الشعراء لم يترك شاردة بشرية ولا واردة في سجل جحيهم إلا وقد أتقن تشخيص عذاباتها من المسيح المصلوب إلى النبي العربي المهاجر مطاردة إلى بوذا الغريب إلى الفيلسوف سقراط الذي نفذ فيه حكم الإعدام ظلما إلى جيفارا السياسي الثائر إلى لوركا الشاعر المقطع إربا والشاعر عندما يذكر و يذكّر بعذابات هؤلاء فلأنه يعيش عذابهم نفسه في نفسه فهو المطارد والمهجر والمغترب والمعذب مثلهم وهو عذابهم وهم عذابه وكأن التاريخ لا يمل عن إعادة نفسه ولو بشكل المأساة والمهزلة : -

فجأة

أرى أناساً على تلك الجزيرة

يحثون الرمال على رؤوسهم

والغربان تحوم فوقهم

أرى المسيح

على الدرب الرهيب ينزف

النبي يهاجر من مكة إلى المدينة

طلباً للأمان

بوذا يسافر غريباً

متعباً و جائعاً

سقراط يجبر على تجرع السم

جيفارا يلاحق.. مطلوباً

لوركا يقطع أشلاءً

الفنانون يقايضون لوحاتهم بالخبز

من هنا يأتي المقطع الأخير تأكيدا لاختلاط تجربة الشاعر الكوني منير مزيد بتجارب هؤلاء العظماء وتماثلها في التعب من هذا العالم الذي لا يمل من لعبة تعذيب عباقرته حين يقول :

لقد فقدتُ فردوسي

و وجه الشيطان

الأفاعي

والذئاب

ما تزال تطاردني

أحمدُ اللهَ

على مخاطر الجحيم

التي سيرثونها جميعهم

لتكون مسكنهم الأبدي

آمين

  في الختام نستطيع أن نقول أن هذه القصيدة "ذخيرة إبداعية حية " وهي ملحمة شعرية حقيقية سيكتب لها الخلود على غرار ملحمة هوميروس ودانتي بانفتاحها على مشهدية القيامة المؤجلة والجحيم المؤجل والمطلق اللامتناهي تتراكم فيها الرؤى اللامرئية في لغة محكية مرئية تروي أساطيرها وأساطير من سبقها في لغة ملحمية يمتزج فيها الأسطوري بالواقعي والفردوسي بالجحيمي والشياطيني بالملائكي في تكويرية زمانية لا تمل من تكرار قصة العود على البدء

فهل ستقولون ما قاله الشاعر "آمين" لمآسينا حتى يتواصل هطول مطر الإبداع دون انقطاع ولو على جثة سعادتنا وكأن التراجيديا والإحساس بالمأساة هو ركن أساسي من أركان الإبداع ؟ فهل لأن قدر الأدب الرفيع أنه مأساوي أو لا يكون ؟