تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 45

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 45

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " رَسائِلُ الْجاحِظِ "]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

قالَ بَعْضُهُمْ في تَشْبيهِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ - وَهذا شِعْرٌ يَنْبَغي أَنْ يُحْفَظَ - :

وَهَيَّجَ صَوْتُ النّاعِجاتِ عَشيَّةً نَوائِحَ أَمْثالَ الْبِغالِ النَّوافِر

يُمَخِّطْنَ أَطْرافَ الْأُنوفِ حَواسِرًا يُظاهِرْنَ بِالسَّوْءاتِ هُدْلَ الْمَشافِر

بَكَى الشَّجْوَ ما دونَ اللَّهى مِنْ حُلوقِها وَلَمْ يَبْكِ شَجْوًا ما وَراءَ الْحَناجِر

وَما سَمِعْنا في صِفَةِ النَّوائِحِ الْمُسْتَأْجَراتِ ، وَفِي اللَّواتي يَنْتَحِلْنَ الْحُزْنَ وَهُنَّ خَليّاتُ بالٍ - بِأَحْسَنَ مِنْ هذَا الشِّعْرِ !

الله الله الله !

بالله صدقت بالله !

وليست النائحة الثكلى كالمستأجرة !

ولكنني أدركت وأنا صبي ، امرأة في قريتنا ، دخلت على نسائنا في شأن ، فقالت لي عمتي : هذه كانت تنوح بالأجر  ! فرأيتها منتفخة ما تحت العينين ، طويلة ما بين الطرفين ، ممصوصة !

قُلْ لِابْنِ أُمَيٍّ لا تَكُنْ جازِعًا لا يَرْجِعُ الْبِرْذَوْنُ بِاللَّيْت

استنكر المحقق العلامة أن يكون في الأصل " قل لابن مي " ، وليس على الشعراء بمستنكر تغيير ابن أمي إلى ابن مي :

قُلْ لِابْنِ مَيْ = مُسْتَفْعِلُنْ

أما الغريب فالبيت بالخزم :

قل/ لِابْنِ أُمَيْ = قُلْ/ مُسْتَعِلُنْ

الذي لا لأكاد له على أمثلة إلا بعدد بعض أصابع اليد الواحدة !

مُتَبَرِّمًا أَبَدًا بِمَنْ آخَيْتَ وُدُّكَ في سَفال

سَفالٌ إذن لعَلاء ، وسُفول لعُلوّ !

إنها اللغة الشاعرة التي يبتكرها الشعراء ، ثم يتبعهم سائر الناس !

قالَ عُثْمانُ بْنُ الْحَكَمِ : كانَ عِنْدَنا فِي الْحَيِّ فَتًى وَلَدَتْهُ امْرَأَةٌ مُذَكَّرَةٌ لِرَجُلٍ مُؤَنَّثٍ ، فَما رَأَيْتُ وَلا سَمِعْتُ بِخُلُقٍ رَديٍّ مِنْ أَخْلاقِ الْبِغالِ ، إِلّا وَقَدْ رَأَيْتُه فيهِ !

معنى مفهوم ؛ فأمه هي رجل البيت !

ولكنني كنت أظن أن أبا السامي مصطفى صادق الرافعي - رحمه الله ! - هو أبو عُذْرة " ليلة مُؤَنَّثة " ، في ضد قولهم " يوم مُذَكَّر " ، حتى قرأت ما هنا ! لكأن كل شيء قد قيل ، وإنما هو النقل أو الحفظ ! ولا غرو ؛ فمَنازِع الإنسان مغروسة فيه منذ كان إلى أن يزول !

وَأَحَقُّ بِالصَّبْرِ الْجَميلِ مِنِ امْرِئٍ كَزٍّ أَنامِلُه قَصيرِ الْباع

رحم الله المحقق العلامة !

لو لم يَكُنْ لم يُنْتَبَهْ إلى تحريك سكون نون " من " بالكسر ، إذا لَقِيَتْ غَيْرَ " ال " !

كانَ زَيْدٌ الضَّبيُّ هُوَ الَّذي حَمَلَه ( البردخت الشاعر ) عَلى ذلِكَ الْبَغْلِ الَّذي صَرَعَه !

يكاد طلاب العلم لا يعرفون أن " صرعه " هذه معناها " اطَّرَحَه أَرْضًا " ، مما يجدون في مباريات المصارعة الإنسانية والحيوانية ، من حرص على القتل !

قَدْ تَصْدِمُ الدّابَّةُ الدّابَّةَ ؛ فَيَموتُ الرّاكِبانِ وَالْمَرْكوبانِ !

سبحان الله !

شيمة تلاقي سياراتنا - يا أبا عثمان - لا شيمة تلاقي سياراتكم !

قالَ لي كَمْ شِئْتَ مِنْ أَصْحابِ الْقَصَبِ وَالْبَواري : نَحْنُ لا تَعْتَرينَا الْبَواسيرُ ، لِطولِ قُعودِنا عَلَى الْقَصَبِ الْبَواري !

أدركت من القاهريين من يقول : " كَذا أَكَمْ " ، أي كثير ، وكنت أسمعها في غناء رباعيات صلاح جاهين ، فلا أفهمها !

سَمِعْتُ أَبا شُعْبَةَ الْأَعْمَى الْمُعَبِّرَ ، وَنَحْنُ باِلنَّهْرَوانِ ، سَنَةَ قَدِمَ الْحَسَنُ بْنُ سَهْلٍ ، وَهُوَ يَقولُ لِمُوَيْسِ بْنِ عِمْرانَ : اذْكُرْ لِإِخْوانِكَ هؤُلاءِ رُؤْياكَ وَتَعْبيري لَها ! قالَ : رَأَيْتُ فيما يَرَى النّائِمُ كَأَنّي عَلى بَغْلِ بَريدٍ ، فَقُلْتَ لي : تُحَمُّ يَوْمَيْنِ وَثُلُثَيْ يَوْمٍ ، فَكانَ كَما قُلْتَ ! فَسَأَلْتُكَ عَنِ الْعِلَّةِ ، فَقُلْتَ : لِأَنَّ تَشْريفَ ذَنَبِ الْبَغْلَةِ ( رفع بعض أجزاء الذنب للزينة ) تَشْريفَتانِ وَثُلُثا تَشْريفَةٍ !

وأنا سمعت الشيخ عبد الحميد كشك الخطيب المفوه الساخر اللُّقّاعَة المخالف عن الحكام - رحمه الله ! - يذكر أن خَبيثًا اعترض طريقه إلى مسجده الجامع ، يشغله برؤيا رآها أن يعبرها له ، قال : شُفْت يا مَوْلانا خيرَ اللهمَّ اجْعَلُو خيرْ ، قالْ إيهْ انا واقِفْ لِوَحْدي في أَرْضِ خَضْرا واسْعه . فقال الشيخ : طورَ اللّهْ في بَرْسيمُو !

أَنْشَدَ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدَلٍ أَسْماءَ بْنَ خارِجَةَ شِعْرًا ذَكَرَ فيهِ أَنَّه رَآهُ فِي الْمَنامِ ، فَقالَ :

أَغْفَيْتُ قَبْلَ الصُّبْحِ نَوْمَ مُسَهَّدٍ في ساعَةٍ ما كُنْتُ قَبْلُ أَنامُها

فَرَأَيْتُ أَنَّكَ رُعْتَني بِوَليدَةٍ مَغْنوجَةٍ حَسَنٍ عَلَيَّ قِيامُها

وَبِبَدْرَةٍ حُمِلَتْ إِلَيَّ وَبَغْلَةٍ شَهْباءَ ناجِيَةٍ يَصِلُّ لِجامُها

فَدَعَوْتُ رَبّي أَنْ يُثيبَكَ جَنَّةً عِوَضًا يُصيبُكَ بَرْدُها وَسَلامُها

قالَ أَسْماءُ : كُلُّ ما رَأَيْتَه فِي النَّوْمِ فَهُوَ عِنْدَنا كَما رَأَيْتَ ، إِلَّا الْبَغْلَةَ ؛ فَإِنَّها دَهْماءُ ! قالَ : أُعْتِقُ ما أَمْلِكُ إِنْ كانَ رَآها إِلّا دَهْماءَ ، وَلكِنَّه غَلِطَ !

حضرت أواخر ثمانينيّات القرن الميلادي العشرين ، بمعرض القاهرة الدولي للكتاب ، محاضرة للأستاذ محمد حسنين هيكل ، تعودها كل سنة ، فلم يكد يدخل إليها حتى غَنّى جماعة من شبيبة الناصريين تقدموا من أجله ، في نفس واحد ، أغنية عبد الحليم حافظ " أحلف بسماها وبترابها " ؛ فاقشعرت منا الجلود - حتى إذا ما فرغ من محاضرته جاءته أوراق الأسئلة ، فجعل مدير اللقاء الدكتور سمير سرحان رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب - رحمه الله ! - يقرؤها له ورقة ورقة ، ليعلق عليها بما يرى ، فإذا في إحداها : رأيت فيما يرى النائم ، أنك أهديتني نسخة من كتبك ! وكتب الأستاذ هيكل غالية الثمن جدا ؛ فضحك الأستاذ هيكل ، وضحكنا جميعا ، وكأنه قال : هذا كابوس - يا بني - عافاك الله !

كُنْيَةُ خالِدٍ أَبو سُلَيْمانَ ، اكْتَنى بِكُنْيَةِ خالِدِ بْنِ الْوَليدِ .

والمصريون يكنون بأبيه كثيرا من تسمى باسم صحابي أو أحد كبار رجال الإسلام ؛ فيدعون خالدا أبا الوليد ، وعبد الرحمن بن عوف أبا عوف ، إلا أن يعرفوا ابنه المكنى به ، فيدعونه به كما يدعون عليا أبا الحسن .

قالَ أَصْحابُ الْبِغالِ : لا نَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْحَيَوانِ رُكِّبَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ نَزَعَ إِلَيْهِما نَزْعًا سَواءً لا يُغادِرُ شَيْئًا ، غَيْرَ الْبَغْلِ ؛ فَإِنَّ شَبَهَ أَبَوَيْهِ عَلَيْهِ بِقِسْمَةٍ عَدْلٍ !

كنا إذا زرنا حديقة الحيوان بجيزة مصر صغارا ، فَرِحْنا بالسّيسي ، الحصان القزم القريب من الأرض . ثم صرنا إذا رأينا حيوان اللّاما الأميركي الجنوبي بين الجمل والزرافة فيما يبث برنامج عالم الحيوان ، عجبنا لتقسيم الحيوانات الأليفة الجميلة على البشر !

قالوا : وَلَيْسَ في جَميعِ الْخَلْقِ الْمُرَكَّبِ مِثْلُ الرّاعِبيِّ ، الَّذي هُوَ مِنْ نِتاجِ ما بَيْنَ الْوَرَشانِ وَالْحَمامِ ؛ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ هِدايَةِ أُمِّه شَيْئًا ، وَلَمْ يُعْطِه أَبوهُ مِنْ طولِ عُمُرِه شَيْئًا ! وَمِنَ الْمُرَكَّبِ السِّمْعُ وَالْعِسْبارُ . وَكَما تَحْكِي الْفَلاسِفَةُ وَالْمُجَرِّبونَ عَنِ الْكَوْسَجِ وَاللُّخْمِ . وَالدَّجاجُ الْخِلاسيُّ مِنْ بَيْنَ النَّبَطيِّ وَالْهِنْديِّ . وَإِذا كانَ مِثْلُ ذلِكَ بَيْنَ الْبَيْضاءِ وَالْحَبَشيِّ فَهُوَ خِلاسيٌّ ، فَإِذا كانَ بَيْنَ الْبَيْضاءِ وَالسِّنْديِّ فَهُوَ بَيْسَريٌّ . وَكَذلِكَ الْخِلاسيُّ مِنَ الْكِلابِ بَيْنَ الْكُرْديِّ وَبَيْنَ السَّلوقيِّ . وَمِثْلُ الْجَمّازاتِ الَّتي تَجيءُ بَيْنَ فَوالِجِ الْبُخْتِ وَقِلاصِ الْعِرابِ ، وَمِثْلُ الْبِرْذَوْنِ الشِّهْريِّ مِنَ الرَّمَكَةِ وَالْفَرَسِ الْعَتيقِ . قالوا : فَلَيْسَ يَعْتَدِلُ في شَيْءٍ مِنْ ذلِكَ الشَّبَهُ ، كَما يَعْتَدِلُ فِي الْبَغْلِ !

كنت وأنا صغير أميز في دجاج دور شارعنا بقريتنا ، المُهَجَّن من غيره ، بضخامة الحجم وطول الأرجل وطبيعة الريش ولونه ، لا أنسى مقالة دجاجتنا البلدية لربة البيت : جَرّيني ولا تغدّيني ! وأجد الأشبه بالدجاجة الهجينة أن تقول : غَدّيني ولا تجَرّيني !

ثم إن العرب أثنت على خِفّة السِّمْع ( ولد الضبع من الذئب ) وعَدْوِه : " أَعْدى مِنَ السِّمْعِ " ! وفي كلمة ابن أخت تأبط شرا الصعبة المخيفة :

" مُسْبِلٌ فِي الْحَيِّ أَحْوى رِفَلّ    وَإِذا يَعْدو فَسِمْعٌ أَزَلّ " !

ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ النّاسِ أَنَّه شَتَمَ بَعْضَ الْأَشْرافِ ، فَقالَ : عَجِبْتُ لِقَوْمٍ إِذا قيلَ لَهُمْ : مَنْ أَبوكُمْ ؟ قالوا : أُمُّنَا الْفَرَسُ !

هذا عكس المثل القديم : " قيلَ لِلْبَغْلِ : مَنْ أَبوكَ ؟ قالَ : الْفَرَسُ خالي " !

قالوا : وَكُلُّ شَيْءٍ يُنْتَجُ وَيولَدُ وَيَتَرَبّى في مَنازِلِ النّاسِ مِنْ طائِرٍ وَسَبُعٍ وَبَهيمَةٍ ، إِذا تَحَوَّلَ صاحِبُ الدّارِ لَمْ يَتَحَوَّلْ مَعَه مِنْها شَيْءٌ ، وَآثَرَتِ الْأَوْطانَ عَلى صاحِبِ الدّارِ ، إِلَّا الْكَلْبَ ؛ فَإِنَّه يُؤْثِرُه عَلى وَطَنِه ، وَيَموتُ دونَه ، وَيَصْبِرُ عَلى جَفائِه وَإِقْصائِه !

وسبحان الله !

غفر الحقُّ - سبحانه ، وتعالى ! - لرجلٍ في كَلْبٍ سقاه من ظمأ ، وليس دون الجنة من غفران - وأدخل امرأةً النارَ في هرة حبستها فأظمأتها وأجاعتها حتى ماتت ، وليس بعد النار من لعنة !

إِنَّ لِلْماءِ وَالْهَواءِ في هذا ( التطور ) عَمَلًا لَيْسَ يَخْفى عَلى أَهْلِ التَّجْرِبَةِ . وَكُلُّ عَرَبيٍّ تَراهُ بِخُراسانَ أَصْهَبَ السِّبالِ أَحْمَرَ اللَّوْنِ مَفْطوحَ الْقَفا ، فَإِنَّ الْأَعْرابيَّ الَّذِي انْتَقَلَ إِلى ما هُناكَ كانَ عَلى ضِدِّ ذلِكَ !

أعجب ما ثبت من صنيع الشعوب المسيحية في فهم ذلك ، أن كل شعب صور سيدنا عيسى بن مريم - عليه السلام ! - بصورة مثل صورة الرجل منه ، فالزنجي صوره زنجيا ، والرومي صوره روميا ، والهندي صوره هنديا ، وهكذا !

قَدْ رَأَيْنا بِلادَ التُّرْكِ ، فَرَأَيْنا كُلَّ شَيْءٍ فيها تُرْكيًّا . وَمَنْ رَأى دَوابَّهُمْ وَإِبِلَهُمْ عَلِمَ أَنَّها تُرْكيَّةٌ (...) وَقَدْ نَرى جَرادَ الْبَقْلِ وَديدانَه خُضْرًا ، وَنَرى قَمْلَ رَأْسِ الشّابِّ الْأَسْوَدِ الشَّعَرِ أَسْوَدَ ، وَنَراه في رَأْسِ الشَّيْخِ الْأَبْيَضِ الشَّعَرِ أَبْيَضَ ، وَنَراه في رَأْسِ الْخاضِبِ بِالْحُمْرَةِ أَحْمَرَ . نَعَمْ حَتّى إِنَّكَ لَتَرى فِي الْقَمْلَةِ شُكْلَةً إِذا كانَ خِضابُ الشَّيْخِ ناصِلًا ! وَهكَذا طَبَعَ اللّهُ الْأَشْياءَ !

والموظف شيء منها ! حتى لقد بلغ في عصرنا هذا ، أن يتلون في وظيفته كالقملة في رأسه ؛ فإذا رَأَسَه يميني أَيْمَنَ ، وإذا رَأَسَه يَساري أَيْسَرَ ، على طريقة قول البردوني في مأساة حارس الملك :

" وَتَمَصْعَبْتُ بِكَفَّيْ مُصْعَبٍ وَلِمَرْوانَ حَذِقْتُ الْمَرْوَنَهْ " !