د. محمد الفاتح ميرغني وثورة الحروف
الشاعر الدكتور/ محمد الفاتح ميرغني
وثورة الحرف
شريف قاسم
ولد الشاعر صاحب الحرف الثائر / محمد الفاتح ميرغني في العزازي بولاية الجزيرة ــ مدينة القطينة في دولة السودان حماها الله عام 1967م ، أي في عام نكبة العرب الكبرى ، وولدت معه ثورة الحرف التي ترفض الانصياع للقوى الصليبية والصهيونية في العصر الحديث ، وترفض الواقع المرير الذي تعيشه الأمة .
نشأ في بلدته وتعلم ، وتابع دراسته لينال شهادة الطب من جامعة الخرطوم ، حيث شارك في محافلها الأدبية ، وفاز بعدة جوائز ، وهو أحد مؤسسي رابطة أدباء جامعة الخرطوم ، وأحد أهم أعضائها البارزين . صدر له ديون عنوانه ( قطوف من حروف )وقد قدَّم له الأستاذ الأديب / مصطفى سند الذي رأى أن الشاعر الفاتح أعاد للقصيدة حيويتها ورونقها العربي الأصيل ، وتخطَّى ماجاءت به الحداثة البائسة الخاوية الخالية من قيم أمتنا السامية ، وركل بقدمَيْ إيمانه بالله وأصالته المجيدة الزخرفة والطلسمة والإلحاد والإفساد التي تبنَّته هذه المدارس المستورة بمناهجها وأساتذتها وخزعبلاتها ، وردَّ بقوة دعوة مضامينها إلى الفجور والسفور والاختلاط ، وفتح أمام الشعراء الشباب صفحات من مجد الأدب الإسلامي .
شاعرنا التهبت حروفه بعزة الجهاد في سبيل الله ، وفخاره بالسؤدد الذي مازال يمنح النفوس قوتها ، هاهو يخاطب وطنه الذي يهدده الأعداء على اختلاف مآربهم :
بـشـراك سوداني فدونك سارت إلى الموت الزؤام كتائب الفجر يلقاها تزمجرُ في الوغى | فتيةقـد أرخصوا مهجا فداك مـشـغـوفـة بنوازل ونزالِ والـلـيل ليلُ تضرُّعٍ وسؤالِ | غوالِ
كـابول عاد الفاتحون هيهات يُهزم في الكريهة مؤمنٌ وَعَـدَ الإلـهُ المؤمنين بنصرِه | لساحهاعَـوْدَ الهزبرِ المستشيطِ لغابِه يـلـقـى الكتائبَ تاليا لكتابِه وحـبـا الإجابةَ مَن يلوذ ببابِه |
فكانت قصائدُه دفَّاقةً قويةً كقوة انطلاق الذخيرة الحيَّة من أفواه البنادق والمدافع ، وهو يروي ( كما ذكر الأديب السند ) عن غنائه العنيف للشهادة والموت في خنادق
الفداء والثبات على الحق . هكذا على مشارف ( كبويتا ــ وبور ــ وفرجوك ــ والكرمل ــ وقيسان ... ) وهو يرى أرواح الشهداء تصعد إلى بارئها ، يقول في رثاء أخيه المجاهد الطالب الجامعي أسامة أحمد فضل الله يرحمه الله بعد استشهاده :
الله أكـبـرُ من فمي تـلك المبادئ يا أُخيَّ ستنبري تبني جماجمُنا صروحَ شموخِنا فاهنأ بمقعدِك العليِّ ولا نخف قسما سنفدي أرضَنا مهجا كما | ودمائيوالـحمدُ للرحمنِ ذب مـن أجلها أسدٌ على الأعداءِ وتـخـطُّ عـزَّتَها بحمرِ دماءِ فـلـواؤُك احتضنتْهُ كفُّ فداءِ فـدَّيـتَـهـا بالمهجة العذراءِ | النعماءِ
ويعود التكبيرُ مرةً أخرى حُلوا مشوقا هادرا يوم تخرَّج ( 100000) مئةُ ألف مجندٍ من قوات الدفاع الشعبي ، فيردد :
الله أكــبـرُ فـوهـةٌ مـن نـارِ بـركـانُـها غضبٌ تفجَّرَ بالدجى فـيـهـم بـسـالـةُ جدِّهم مهديِّهم من ( خالد ) ورثَ الرجالُ صمودَهم كـي يـعـلـم الغربُ المذلُّ لغيرِه | حـربٌ عـلـى الـعملاءِ فـأحـالَ ظـلـمـتَها كوهْجِ نهارِ وبـطـولـةٌ ورثـتْ من الأنصارِ والـشـوق لـلجنَّاتِ من ( عمَّارِِ ) أن لانــذلَّ لـغـيـرِ ربٍّ بـارِ | والفجَّارِ
وتحتدم معارك التحرير ، وتفتح الجنَّةُ أبوابَها ، وتتدفقُ دماءُ الأبرارِ الشهداءِ ، وتهب رياح الفردوس الأعلى . فكم من مجند استُشهد ، وكم من رائد سقط مضرجا بدمه ، وكم من عقيد و عميد ولواء اشتروا الجنة ... ويرى شاعرنا مواكب الشهداء تترى :
أبـتـاهُ ألجمت الخطوبُ والخطبُ أودى بالجوارح والنُّهى لـكـنَّ دمـعـي قد أبلَّ يراعتي فرثيتُ ملءَ محاجري مَنْ لو رأى | لسانيواحـتـرتُ مـاذا قد يخطُّ جـفَّ اليراعُ وغاض نبعُ بياني وأعـانـنـي بـنـزيفِه وجداني مـا حـلَّ بـي من فقدِه لرثاني | بناني
والبكاء يعبِّر عن صدق لوعة الفؤاد ، وتوهج المشاعر ، وما فاض إلا ليروي شجرة الإخاء والوفاء ، لشباب قدَّموا أرواحهم في سبيل الدعوة الإسلامية ، ولا مكان لفساد النفوس وطغيان الضلال وعمى البصائر أن يلحق بكتائب الحق :
مللتُ العودَ والمزهرْ فخلِّ بنادقي تزأرْ
سأُسكتُ همسَ قيثاري لأطلقَ صيحةَ العسكرْ
وبمنهج التربية الإيمانية ، وطيب سجايا الشباب المسلم المتميز بسُمُوه وطهارته ، وقيامه بالأعمال الصالحات الباقيات ، وصدقه عند لقاء الأعداء ، يأتي النصر من ربِّ السماء ، وبمثل هؤلاء المجاهدين حُرِِّرت ذات يوم مدينة ( توريت ) فهلل شاعرنا وكبَّرْ قائلا :
الله أكـبـرُ جلجلت في هـتفتْ بها قبل اللسانِ جوانحي شعبي الأبيَّ إليك فيضُ مشاعري وطـني الذي أفدي ثراه بناظري | خاطريفـدوى : يردد سجعَها حـيـثُ الفؤادُ وشوقٌه المكبوتُ فاليوم زال عن الدنى الطاغوتُ عـادت إلى أحضانِه ( توريتُ) | الملكوتُ
وهكذا تتأججُ صادقة ثائرة ومتزنة ، رغم طبيعة الصراع بين الحق والباطل ، ورغم حقد الباطل واستعلائه الظالم ، ورغم كثرة المنهزمين نفسيا ومعنويا من أبناء الأمة ، ورغم قسوة المعاناة لقوى الإصلاح ،وكثرة مواقع ومنتديات التشكيك بدين الله عزَّ وجلَّ جملة وتفصيلا ، وبالصحوة التي مازالت تجدد الانتصارات المرحلية في كل الثغور ، وربما لن يطول اليوم الذي تحقق فيه الأمة انتصارها العسكري الموعود تحت راية الإسلام بمشيئة الله تبارك وتعالى ، لتزول الأكدار ، ويأتي الأمن محمَّلا ببشائر الوحي يقول الشاعر الفاتح :
والـصوت بالقرآن هزَّ وإذا ( بـراءة ) من لسانك رتلت أو ترسل ( الأنفال ) متقد الصدى | مسامعيوانـداح ملء الحسِّ فـالـنفسُ والأنفاس في إصغاءِ فـأحـس جيش المؤمنين إزائي | والأعضاءِ
وإن ثورة الحرف الطهور لم تُنسِ الشاعر جوانب مايحمله الفن في ومضاته الشعريةوهو الذي أكَّدَ :
لاتسل أين القوافي لاتســـلني
إنني أهديتُ للإســـلام فنِّـي
فكانت رسالة الشعر عنده تعكس ثورته على مظاهر البعد عن الدين الحنيف ، ومخالفة الناس لأوامره ، وركوب الكثير منهم موجة الفساد والانحلال ، وقد جعل العديد من قصائد مجموعته ( قطوف من حروف ) للمرأة التي أراد لها مكانتها المرموقة في الحياة الكريمة ، ففاخر بالأخت المسلمة المحجبة الطاهرة ، وحذَّر مما يُحاك لها من مؤامرات لتكون سلعة رخيصة في أسواق المجرمين ، ولتبتعد عن كونها الأم الرؤوم ، والأخت الأبية ، والزوجة الوفية ،والبنت المطيعة ذات الحياء والسمو يقول في إحدى تلك القصائد :
أرى مرقاك في بيض السجايا وحسنُك في الحياء وفي الحجابِ
وخيرُ كساءِ غادتِنا تُقاها وثوبُ عفافها أغلى الثيابِ
وربما يقرأ الفاسدون ــ ذات يوم ــ سِير المؤمنات الصابرات المجاهدات في هذا العصر على الأقل ، لعلهم يخجلون من أنفسهم لموقف ( أسرار ) زوجة الشهيد يحيى عياش يرحمه الله ، أو لصبر وثبات ( ماجدة قنيطه ) زوجة الشهيد صلاح شحادة يرحمه الله التي أعلنت فرحها الكبير أيام جهاد زوجها في قولها : ( عشتُ شهرين في عصر الصحابة ) رضي الله عنهم أجمعين ... وهكذا في سير مئات وآلاف النساء المجاهدات المجالدات زوجات أو بنات أو أمهات أو أخوات المجاهدين والشهداء الذين وقف الناس على حالات استشهادهم في هذا العصر ، فأين اللواتي بعن لإبليس ماوهبهن الله من عزة ومنعة ورفعة ؟ وقد انتصر عليهن . ولكن إبليس وجنود إبليس خسروا معركتهم في ميدان الصالحات المحجبات ، ولنسمع كيف أقرَّ إبليس بالهزيمة وهو يخاطب لينين رأس الفساد والإلحاد بعد هزيمة المرأة الفاجرة السافرة :
أرى دنـيا الفجور إلى فـمَـن لجحافل الإلحاد يحدو لـقد كانت على الإسلام جيشا وفـي الإغواء كانت أيَّ زند | زوالِفـيـالينين قم واحزنْ ومَن يدعو الأنامَ إلى الضلالِ تـذود عـن البغاء والانحلالِ وفي الفوضى كساعدي الشمالِ | لحالي
ثمَ يذكِّرُ لينين بمآله ، وبمصير أعوانه وأتباعه :
وداعا مَن خُدعتَ بعذبِ قولي وذاك جزاءُ مَن يرضى حبالي
وعنواني إذا رمت التلاقي جهنَّمُ جانب البابِ الشمالي
وتبقى قصائد مجموعة ( قطوف من حروف ) متأججة ثائرة على واقع نشاز ، ماكان يجدر بالأمة أن تبقيَه ، فلقد هجر المسلمون شريعتهم ، فكثرت نكباتهم ، وتنوعت أحزانهم ، واحتل الأعداء بلدانهم ، وكان الذل والهوان والوهن ، وكانت الغفلة العمياء وغياب الوعي ، وكاد اليأس أن يأكل بقية العزائم لولا المجاهدون الصابرون والمجاهدات الصابرات ، الذين أقاموا البرهان ، ورفعوا صرح الحجة جليًّا على أشباه الرجال ، أولئك الذين أسدلوا ستار شهواتهم على حيوية الأمة وروحها الوثابة ، وتناسوا ــ متعمدين ــ سؤال الفتى / معاذ بن عفراء رضي الله عنه حين سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم : مايضحك الرب من عبده ؟ قال : ( غمسُه يدَه في العدو حاسرا ) . فألقى رضي الله عنه درعا كانت عليه وقاتا حتى سقط شهيدا .
ولعل ثورة الحرف هذه تذكر الأمة بآلاف القصص والمواقف التي تناساها أكثرُ المسلمين اليوم ، ولكن التاريخ لاينسى ، وهيهات ينسى مجاهدو الأمة وشبابها الصالح مارواه أبو الدرداء رضي الله عنه ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( ثلاثة يحبهم الله ، ويضحك إليهم ، ويستبشر بهم : الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه ، فإما أن يقتل ،فإما أن ينصره الله ويكفيه ، فيقول تعالى : انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه ... ) . فطوبى لأمة فيها مثل هؤلاء العباد !! واهنأ أيها الشاعر بقولك :
سنصنع بدرنا الأخرى ونفتحُ بعدها خيبرْ
على الأعداء قد هبَّت نفوسٌ بالهدى تزخرْ