تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 42
تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 42
مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها
[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " رَسائِلُ الْجاحِظِ " ]
د. محمد جمال صقر
قالَ |
قُلْتُ |
إِنْ كُنْتَ لا تَحْذَرُ شَتْمي لِما تَعْرِفُ مِنْ صَفْحي عَنِ الْجاهِل فَاخْشَ سُكوتي سامِعًا ضاحِكًا فيكَ لِمَشْنوعٍ مِنَ الْقائِل مَقالَةُ السّوءِ إِلى أَهْلِها أَسْرَعُ مِنْ مُنْحَدِرٍ سائِل وَمَنْ دَعَا النّاسَ إِلى ذَمِّه ذَمّوهُ بِالْحَقِّ وَبِالْباطِل |
كأن مقالة السوء حَجَرَةٌ يدفعها قائلها ( الذي هو أهلها ) إلى أعلى ، فتؤوب إليه ، وتهوي عليه ! ومن كلام أطفال المصريين : " إِللّي بِيِشْتِمْ بِيِشْتِمْ نَفْسو " ! |
أَنْشَدَ (...) وَأَنْشَدَ (...) وَأَنْشَدَ (...) |
ما ظننت أن تغفل تحقيق نسبة هذا المقدار الكثير من الشعر ! |
حَدَّثني نوحُ بْنُ أَحْمَدَ ، عَنْ أَبيهِ ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ، قالَ : جاءَ النّابِغَةُ الْجَعْديُّ إِلى رَسولِ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - فَقالَ : هَلْ مَعَكَ مِنَ الشِّعْرِ ما عَفَا اللّهُ عَنْهُ ؟ قالَ : نَعَمْ . قالَ : أَنْشِدْني مِنْهُ ! فَأَنْشَدَه : وَإِنّا لَقَوْمٌ ما نُعَوِّدُ خَيْلَنا إِذا مَا الْتَقَيْنا أَنْ تَحيدَ وَتَنْفِرا وَتُنْكِرُ يَوْمَ الرَّوْعِ أَلْوانَ خَيْلِنا مِنَ الطَّعْنِ حَتّى تَحْسِبَ الْجَوْنَ أَشْقَرا وَلَيْسَ بِمَعْروفٍ لَنا أَنْ نَرُدَّها صِحاحًا وَلا مُسْتَنْكَرًا أَنْ تُعَقَّرا بَلَغْنَا السَّماءَ مَجْدُنا وَسَناؤُنا وَإِنّا لَنَبْغي فَوْقَ ذلِكَ مَظْهَرا فَقالَ لَه رَسولُ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - : إِلى أَيْنَ ، يا أَبا لَيْلى ! فَقالَ : إِلَى الْجَنَّةِ ! فَقالَ رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - : إِلَى الْجَنَّةِ ، إِنْ شاءَ اللّهُ ! ثُمَّ رَجَعَ في قَصيدَتِه ، فَقالَ : وَلا خَيْرَ في جَهْلٍ إِذا لَمْ يَكُنْ لَه حَليمٌ إِذا ما أَوْرَدَ الْأَمْرَ أَصْدَرا وَلا خَيْرَ في حِلْمٍ إِذا لَمْ يَكُنْ لَه بَوادِرُ تَحْمي صَفْوَه أَنْ يُكَدَّرا فَقالَ رَسولُ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - : لا فَضَّ اللّهُ فاكَ ! - قالَ - فَأَتَتْ عَلَيْهِ عِشْرونَ وَمِئَةُ سَنَةٍ ، كُلَّما سَقَطَتْ لَه سِنٌّ اثَّغَرَتْ أُخْرى مَكانَها ، لِدَعْوَةِ رَسولِ اللّهِ - صَلَّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! فَهذا أَحْسَنُ ما رُوِيَ فِي الْبادِرَةِ الَّتي يُصانُ بِهَا الْحِلْمُ . |
من قديم إذن يستعمل علماؤنا مادة " ر ج ع " ، في التعبير عن العودة إلى ما كان فيه الكلام من بعد استطراد ! وكأن الغالب على ما يستعملون منها كلمة " رَجَعَ " فعلا ماضيا ، يريدون : رَجَعَ الْمُتَكَلِّمُ ، أو الْكَلامُ نَفْسُه ، على ما يحتمله التأويل . ثم سبحان الله ! أينصرف الشعراء عن مثل هذا الشعر بزعم سذاجته وقربه ، وهو على ما يُحَيِّرُ من العمق المقتضي التأمل والموازنة ، حتى يستقيم آخره بعد أوله ! |
لَمّا بَلَغْتُ هذَا الْفَصْلَ مِنْ تَأْليفِ هذَا الْكِتابِ دَخَلَ عَلَيَّ عَشَرَةُ نَفَرٍ مِنَ الْكُتّابِ قَدْ شَمِلَهُمْ مَعْروفُكَ ، وَرَفَعَ مَراتِبَهُمْ جَميلُ نَظَرِكَ ؛ فَهُمْ مِنْ طاعَتِكَ وَالْمَحَبَّةِ لَكَ عَلى حَسَبِ ما أَوْلَيْتَهُمْ مِنْ إِحْسانِكَ وَجَزيلِ فَوائِدِكَ . فَأَفاضوا في حَديثٍ مِنْ أَحاديثِ الْحَسَدِ ، فَشَعَّبَ لَهُمْ ذلِكَ الْحَديثُ شُعوبًا افْتَنّوا فيها - وَالْحَديثُ ذو شُجونٍ - فَما بَرِحوا حَتّى أَتَتْني رُقْعَةٌ أَناسِيَةٌ مِنَ الْحُسّادِ ، فيها سِهامُ الْوَعيدِ ، وَمُقَدِّماتُ التَّهْديدِ وَالتَّحْذيرِ وَالتَّخْويفِ ، لِلطَّعْنِ عَلى ما أَلَّفْتُ مِنَ الْكُتُبِ - إِنْ أَنَا لَمْ أَضْمَنْ لَهُم الشَّرِكَةَ فيما يُجْرى عَلَيَّ - فَدَفَعْتُ رُقْعَتَهُمْ إِلى مَنْ قَرُبَ إِلَيَّ مِنْهُمْ ، فَقَرَأَها ثُمَّ قالَ : قاتَلَهُمُ اللّهُ ! أَبِظُلْمٍ يَرومونَ النَّيْلَ وَيَلْتَمِسونُ الشَّرِكَةَ فِي الْمَعْروفِ ! لَنَزْعُ الرّوحِ بِالْكَلاليبِ أَهْوَنُ مِنْ بَذْلِ مَعْروفٍ بِتَرْهيبٍ ! وَأَنْشَأَ يَقولُ : أَبْقَى الْحَوادِثُ مِنْ خَليلِكَ مِثْلَ جَنْدَلَةِ الْمَراجِمْ قَدْ رامَنِي الْأَعْداءُ قَبْلَكَ فَامْتَنَعْتُ مِنَ الْمَظالِمْ وَدَفَعَها إِلى مَنْ قَرُبَ مِنْهُ ، فَقَرَأَها ، وَقالَ الثّاني : صَكَّةُ جُلْمودٍ لِكُلِّ مُرْعِدٍ حَسودٍ ، يَسْتَمْطِرُ الْعُرْفَ بِالتَّهْديدِ . خَلِّ الْوَعيدَ ، يَذْهَبْ فِي الْبيدِ ! وَأَنْشَأَ يَقولُ : أَبْرِقْ وَأَرْعِدْ يا يَزيدُ فَما وَعيدُكَ لي بِضائِرْ وَدَفَعَها إِلَى الثّالِثِ ، فَقَرَأَها ، وَقالَ : سَأَلوا ظُلْمًا ، وَخَوَّفوا هَضْمًا ، لَقوا حَرْبًا ، وَلَقيتَ سِلْمًا ! وَأَنْشَأَ يَقولُ : زَعَمَ الْفَرَزْدَقُ أَنْ سَيَقْتُلُ مِرْبَعًا أَبْشِرْ بِطولِ سَلامَةٍ يا مِرْبَع وَدَفَعَها إِلَى الرّابِعِ ، فَقَرَأَها ، وَقالَ : قَوْلُ الذَّليلِ وَبَوْلُه سِيّانِ ! وَأَنْشَأَ يَقولُ : ما ضَرَّ تَغْلِبَ وائِلٍ أَهَجَوْتَها أَمْ بُلْتَ حَيْثَ تَناطَحَ الْبَحْران وَدَفَعَها إِلَى الْخامِسِ ، فَقَرَأَها ، وَقالَ : نَهيقُ الْحِمارِ ، وَدَمُ الْأَعْيارِ جُبارٌ جُبارٌ ! وَأَنْشَأَ يَقولُ : ما أُبالي أَنَبَّ بِالْحَزْنِ تَيْسٌ أَمْ لَحاني بِظَهْرِ غَيْبٍ لَئيم وَدَفَعَها إِلَى السّادِسِ ، فَقَرَأَها ، وَقالَ : إِذا عَلِقَتْكَ الْأَمْجادُ ، فَلْيَهُنْ عَلَيْكَ الْحُسّادُ ! وَأَنْشَأَ يَقولُ : إِذا أَهْلُ الْكَرامَةِ أَكْرَموني فَلا أَخْشَى الْهوانَ مِنَ اللِّئام وَدَفَعَها إِلَى السّابِعِ ، فَقَرَأَها ، وَقالَ : كَيْفَ يَخافُ الصُّرَعَةَ ، مَنْ هُوَ في ذِي الْمَنَعَةِ ! وَأَنْشَأَ يَقولُ : كَمْ تَنْبَحونَ وَما يُغْني نُباحُكُم ما يَمْلِكُ الْكَلْبُ غَيْرَ النَّبْحِ مِنْ ضَرَر وَدَفَعَها إِلَى الْعاشِرِ ، فَقَرَأَها ، وَقالَ : نَوْكى هَلْكى ، لَمْ يَعْرِفوا خَبَرَكَ ، وَلا دَرَوْا أَمْرَكَ ! وَأَنْشَأَ يَقولُ : فَلَوْ عَلِمَ الْكِلابُ بَنو كِلابٍ بِحالِكَ عِنْدَ سَيِّدِنا لَذَلّوا وَعِنْدي صَديقٌ لي مِنَ السّوقَةِ ، لَه أَدَبٌ ، فَقالَ بِعَقِبِ فَراغِهِمْ مُسِرًّا : إِنَّ هؤُلاءِ الْكُتّابَ قَدْ أَظْهَروا الِاسْتِخْفافَ بِقَوْلِ الْحُسّادِ ، وَضَرَبوا لَهُ الْأَمْثالَ في هَوانِهِمْ عَلَيْكَ ، وَعَرَفوا أَنَّكَ في مَنَعَةٍ مِنْ عِزِّ أَبِي الْحَسَنِ - أَطالَ اللّهُ بَقاءَه ! - وَمَعْقِلٍ لا يُسامى ، وَلا يُنالُ . وَأَنَا أَقولُ بِالشُّفْعَةِ : تَوَقَّ قَوْمًا مِنَ الْحُسّادِ قَدْ قَصَدوا لِحَطِّ قَدْرِكَ في سِرٍّ وَفي عَلَن فَقُلْتُ لَه : إِنّي أَقولُ بَيْتَيْنِ هُما جَوابُكَ وَجَوابُ الْحُسّادِ : إِنَّ ابْنَ يَحْيى عُبَيْدَ اللّهِ أَمَّنَني مِنَ الْحَوادِثِ بَعْدَ الْخَوْفِ مِنْ زَمَني فَلَسْتُ أَحْذَرُ حُسّادي وَإِنْ كَثُروا ما دُمْتُ مُمْسِكَ حَبْلٍ مِنْ أَبِي الْحَسَن فَلَمّا رَأى صَديقِي اقْتِفائي آثارَ الْكُتّابِ ، بِاسْتِهانَتي لِلْحُسّادِ عِنْدَ اعْتِلاقي حَبائِلَكَ - أَعَزَّكَ اللّهُ ! - أَنْشَأَ مُتَمَثِّلًا بِقَوْلِ نَصْرِ بْنِ سَيّارٍ : إِنّي نَشَأْتُ وَحُسّادي ذَوو عَدَدٍ يا ذَا الْمَعارِجِ لا تَنْقُصْ لَهُمْ أَحَدا إِنْ يَحْسُدوني عَلى ما قَدْ بَنَيْتُ لَهُمْ فَمِثْلُ حُسْنِ بَلائي جَرَّ لِي الْحَسَدا وَلَيْسَ الْعَجَبُ أَنْ يَكْثُروا وَأَنَا أَنْعِقُ بِمَحاسِنِكَ ، وَأَهْتِفُ بِشُكْرِكَ ، وَلكِنَّ الْعَجَبَ كَيْفَ لا تَتَفَتَّتُ أَكْبادُهُمْ كَمَدًا ! وَكانَ بَعْضُهُمْ يَقولُ : اللّهُمَّ ، كَثِّرْ حُسّادَ وَلَدي ؛ فَإِنَّهُمْ لا يَكْثُرونَ إِلّا بِكَثْرَةِ النِّعْمَةِ ! فَإِنْ كانَ والِدي سَبَقَ مِنْه هذَا الدُّعاءُ ، فَإِنَّ الْإِجابَةَ كانَتْ مَخْبوءَةً إِلى زَمانِ عِزِّكَ ؛ فَقَدْ رَأَيْنا تَباشيرَها ، وَبَدَتْ لَنا عِنْدَ عِنايَتِكَ غايَتُها . |
" قَوْلُ الذَّليلِ وَبَوْلُه سِيّان " ، قائل هذا شاعر أو غاوٍ ؛ فلم يتزن على العروض غير قوله هذا الذي نظر فيه إلى شاهده الآتي ، من قبل أن ينشده ! ثُمَّ - يا رب ، سبحانك ، وشكرانك ! - لقد كَثُرَ حُسّادي حتى قال لي أستاذ لي كبير الفضل علي : ما أكثرَ شانئيك ! وما أَدَلَّه على تَمَيُّزِكَ وتَوْفيقِكَ ؛ لقد لقيت منهم - قال - من لامني أن أَمْرَرْتُ تَرْقِيَتَكَ ! ثُمَّتَ حدثني بعض تلامذتي ، قال : جالست بعض زملائك ، فلما رأى افتتاني ، أراد أن ينبهني من غفلتي ، فقال : لا أنكر أن صاحبك كذا - يَمْدَح - ولكنه يخوض في أشياء ليست من تخصصنا ! فقال له : إنكم تتكلمون عن اللغة ، فأما هو فيتكلم اللغة نفسها ! ثُمَّتَ اعتذر لي أخ حبيب مخلص - لا أزكيه على الله - أن قال في حضرة أستاذي الجليل الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف ، ونحن شبيبة في أولية طلب العلم بالتعلم والتعليم : إنه يحب تجميع الطلاب من حوله ، واصطناع التلاميذ في مدرسته ! - أو كما قال - فرد أستاذي غيبتي - رد الله غيبته ! - : ذاك أن عنده ما يقدمه لهم ! فارتدع بإيحائه أن قد اغتابني وما كان من المغتابين - ولكنها جرأة الأخ على أخيه - فسبق إلى الاعتذار مني ، فدلني على نفس كبيرة ، وقلب سليم ! ثُمَّتَ كان لي في عمل عارض زَميلٌ ، بقي صامتا يتلدد ، لا يعبر عن تقدير لا كبير ولا صغير ، حتى استقلْتُ من عملي معه ، فلم أَعُدَّ صُنوفَ إكباره لي - ولو أَصْغَر فيها نَفْسَه ! - فكأنه كان خشي إن هو أثنى عليَّ بما علم ، أن يُتَّخَذَ ذلك عليه ، فيُعْفى به أَثَرُه ، ويُقْطَع خَبَرُه ! ثُمَّتَ لأمر ما سَمّى أبو الطيب المتنبي ابنه مُحَسَّدًا ! ثُمَّتَ ما أعجب ما اجترأ أبو عثمان من أساليب من السخرية وشبهها ، على ما لم يتعوده الناس إلا في زماننا ! |
سَأَلْتُ جَعْفَرًا الْخَيّاطَ عَنْ مِثْلِ ذلِكَ ( صفة حرب ) ، فَقالَ : لَقيناهُمْ في مِقْدارِ سوقِ الْخُلْقانِ ، فَما كانَ بِقَدْرِ ما يَخيطُ الرَّجُلُ دَرْزًا ، حَتّى قَتَلْناهُمْ وَتَرَكْناهُمْ في أَضْيَقَ مِنْ جُِرُِبّانٍ ، فَلَوْ طُرِحَتْ إِبْرَةٌ ما سَقَطَتْ إِلّا عَلى رَأْسِ رَجُلٍ ! |
قال المحقق العلامة : " الدَّرْزُ " مَوْضِعُ الْخِياطَةِ ، كَما في شِفاءِ الْغَليلِ (...) وَمِنْهُ أُخِذَ " الدَّرْزيُّ " الْخَيّاطُ ، الَّذي صَحَّفَتْهُ عامَّةُ عَصْرِنا بِـ" التَّرْزيّ " ! قُلْتُ : لما دلني بعض الناس - أو نبهني - على أن كلمة " أسْتُرْجي " ، هي " أسْطُرْجي " ، لأنه يدهن دهانه أَسْطُرًا أَسْطُرًا - ظننت " التّرْزي " من " الطّرْزي " ، لأنه يطرز مخيطاته كثيرا ؛ فالآن ظهر تخريج أمكن في العلم . |