سبل نفوذ الفارسية في ثقافة عرب الجاهلية ولغتهم
د. نعيم محمد عبد الغني
التأثير والتأثر بين اللغات من القضايا المهمة التي يهتم بها المتخصصون في الدراسات الإنسانية؛ حيث إن اللغة مرآة المجتمع، ومن خلالها يمكن الوقوف على مسار تقدمه في ركب الحضارة.
ومن هذه الدراسات كتاب "سبل نفوذ الفارسية في ثقافة عرب الجاهلية ولغتهم" لمؤلفه آذرتاس آذرنوش، وقد قام بترجمته إلى العربية وعلق عليه محمد التونجي، وهو من منشورات المجمع الثقافي بأبي ظبي بالإمارات العربية المتحدة، ويقع في 387 صفحة من القطع المتوسط وزعت على اثني عشر فصلا بدأت بتعريف مصطلح الجاهلية ودراسة شبه الجزيرة العربية من حيث الجغرافيا والتاريخ، وكيفية الاتصال بين الحضارتين العربية والفارسية؛ ليتتبع بعد ذلك المفردات الفارسية في الشعر الجاهلي.
ويظهر من عنوان الكتاب مدى تحيز المؤلف للفارسية من خلال ذكره لكلمة "نفوذ" التي توحي بالقوة والغلبة، وهذا التحيز يجعلنا نصنف مؤلف الكتاب - رغم اقتداره- بأنه من الشعوبية التي كانت تكره كل ما هو عربي إسلامي وتتحيز إلى كل ما هو فارسي، وما زالت قائمة حتى الآن وهذا ما أكد عليه مترجم الكتاب في مقدمته عندما ذكر بأن المؤلف عندما يجد شيئا من آثار الفارسية في العربية فإنه يبرزه إبرازا حسنا، وفي المقابل يغفل أثر العربية في الفارسية أو يذكرها ذكرا مقتضبا، بل تراه يستصغر دور العرب أحيانا كاستصغاره دور العرب في اليمن مثلا، ويتعدى الأمر إلى أن المؤلف قد سبق طه حسين في الطعن في الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
ولكن رغم ذلك فالكتاب دراسة قيمة لأثر اللغة الفارسية في ثقافة عرب الجاهلية ولغتهم؛ حتى وإن غض المؤلف الطرف عن تأثير اللغة العربية في اللغة الفارسية، فلئن تأثرت العربية بالفارسية في العصر الجاهلي لقوة نفوذ الفرس سياسيا وازدهارهم حضاريا حتى جعل العرب يحتكون بهم رغبا ورهبا؛ فأخذوا من ألفاظ لغتهم مفردات تكلموا بها حتى استقرت في نسيج العربية من الكلمات العربية؛ لينزل القرآن بلسان العرب الذي قد تسربت إليه هذه المفردات فلم تعد غريبة على اللسان العربي؛ فترى في القرآن مثلا ما يقارب خمسين لفظة فارسية وما يعادلها من السريانية والحبشية أيضا إلا أن الحضارة الإسلامية أثرت تأثيرا كبيرا في اللغة الفارسية على مستويات كثيرة؛ فترى أن نصف المفردات الفارسية مأخوذة من العربية حتى هذا الكتاب يحمل في عنوانه الفارسي ثلاث مفردات عربية من أصل ثمان مفردات.
والجديد في هذا الكتاب ذلك التأصيل التاريخي للألفاظ الفارسية الموجودة في لغة العرب بل الإسلام؛ مما يعد إسهاما في عمل المعجم التاريخي الذي باتت الحاجة إليه ملحة الآن والذي خصصت له الإمارات تمويلا ماديا ليقوم بعمله مجمع اللغة العربية بالقاهرة؛ فالمؤلف في ثنايا الكتاب يثر تساؤلا مفادها في أي زمن تسربت الألفاظ الفارسية إلى العربية؟ ولماذا يطرأ تغير شديد أحيانا على بنى الكلمات؟ وهل من الممكن أن تكون قد تسربت هذه الكلمات عن طريق لغة أخرى بشكل غير مباشر، وأي من العرب كانوا أقرب إلى الإيرانيين فتأثروا بهم؟
وفي سبيل الإجابة على هذه الأسئلة الصعبة تناول المؤلف في اقتضاب تاريخ شبه الجزيرة العربية بشكل موجز؛ فحرر مصطلح الجاهلية وبين أن الجهل ليس منافيا للعلم في هذا المقام بل يكون منافيا للحلم والأناة، فالجاهلية ترادف في هذا العصر العنف والعصبية، وهذه الفترة رغم الخلاف في بدايتها ونهاياتها إلا أنه استقر على دراسة كل ما هو قبل الإسلام؛ ليتتبع الحركة البشرية للفرس والعرب في الجزيرة العربية وينتهي إلى أن الحيرة التي تقرب من الكوفة كانت محل تمازج الفرس مع العرب؛ حيث إن العرب استقروا بها بعد مطاردة الأشكانيين لهم وانقسموا فريقين: فريق تحت رعاية الفرس، وآخر تحت رعاية الروم.
ويقف الباحث من خلال هذه الدراسات التاريخية إلى جملة من الأساطير التي نسجت حول بعض الألفاظ؛ ليصرح بصعوبة جعلها دليلا على دراسة الكلمة تاريخيا، ككلمة الخورنق والسدير، في قول الشاعر اليشكري:
ولقد شربت من المدامة بالصغير وبالكبير
فإذا انتشيت فإنني رب الخورنق والسدير
فالخورنق والسدير قصران، كل منهما له قصة؛ فالخورنق قصر بناه النعمان وقتل "سنمار" ذلك المعمار الرومي الذي ضرب به المثل في شدة الإخلاص والإبداع فقتل حتى لا يبدع قصرا مثل الخورنق لغير النعمان فيقال: "جزاء سنمار"
والسدير قصر في الحيرة ذو ثلاث قباب، وكان ذا استحكامات جاهزة ويعتقد أن المنذر بناه لأحد ملوك العجم.
ولا يجزم المؤلف بصحة القصتين ويتتبع أصل الكلمتين تتبعا تاريخيا؛ فالسدير مثلا: يراها كلمة آرمية مكونة من مقطعين (se) و(der) ، وهي كلمة مبهمة لم يعرف لها أصل إلى الآن، وهو على أية حال ليس بشهرة قصر الخورنق، وإن كانا جميعا من عجائب الدنيا الثلاثين على حد تعبير المؤلف.
والخورنق كلمة مختلف فيها؛ فهناك من يرى أنها من أصل فارسي ومعناها "الصبح البهي" أو تعني "الاحتفال بالعيد"، وهناك من يرى لها أصولا عبرية وتعني المزرعة أو البستان، وعلى كل فالخورنق قصر تهدم في مطلع الإسلام إلى أن عزم المنصور أول خلفاء العباسيين على إعادة تشييده؛ ليكون سكناً له إلا أنه عزف عن ذلك.
وهكذا يظل المؤلف متتبعا للكلمات الفارسية الموجودة في الشعر الجاهلي في دراسة تاريخية جعلته يدرس المدن المتاخمة لإيران وكيف أثرت فيها اللغة الفارسية في دراسة شائكة لما تثيره من آراء، شائقة؛ لما تحويه من معلومات نادرة.