رجاء النقاش يترافع عن "أولاد حارتنا"
قضية خاسرة ودفاع متهافت:
رجاء النقاش يترافع عن "أولاد حارتنا"
أ.د/إبراهيم عوض
في خريف 1989م كنت فى مقابلة شخصية فى المكتب الثقافى السعودى بالقاهرة بخصوص العمل فى جامعة أم القرى- فرع الطائف قبل أن تستقل الطائف بجامعة خاصة بها، ودار، كما هى العادة فى مثل تلك اللقاءات، حوار بينى وبين
الدكتور السعودى الذى كان يرأس لجنة التعاقدات، وكان مما سألنى عنه: ما رأيك فى فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل؟ فأجبته بأنى سأقول له ما أقوله لطلابى فى الجامعة، وهو أن محفوظا منا وعلينا نحن العرب والمسلمين لا مراء فى هذا، وفوزه فخر لنا أيا كانت الدوافع التى أدت بلجنة نوبل إلى إعطائه الجائزة. وهو يستحقها بكل يقين، بل هو أفضل إلى حد بعيد من بعض من فازوا بها قبله. وكان من الواضح أن هذا الجواب قد أعجب الأستاذ السعودى، وإن شعرتُ بنفس الوضوح أنه لم يكن يتوقع ردا على هذه الشاكلة. ولعلى أشرت يومها أيضا إلى ما كتبته فى كتابى: "فصول من النقد القصصى"، الذى كنت
أصدرت الطبعة الثانية منه قبل ذلك بثلاثة أعوام، من أن "ثلاثية" نجيب محفوظ وأمثالها من أعماله التى أبدعها قبل أن يتحول إلى القَصَص الجاف كــ"رحلة ابن فطومة" مثلا هى "قمم يصعب بلوغها فى ميدان القَصَص: قوميّه وعالميّه على السواء". وهذا الذى قلته يومها هو نفسه ما أومن به الآن بنفس القوة، بل إن إيمانى به فى الواقع قد صار أقوى وأرسخ.
تذكرت هذا وأنا أقرأ منذ أيامٍ آخر كتاب صدر لرجاء النقاش، وعنوانه: "أولاد حارتنا بين الفن والدين"، وهو من منشورات "كتاب الهلال" (العدد 686/ فبراير 2008م). وفى هذا الكتاب يحاول الأستاذ النقاش بكل ما أُوتِىَ من قوة أن يقنعنا بأمرين أساسيين: الأول أن رواية "أولاد حارتنا" لعملاق الرواية العربية نحيب محفوظ لا علاقة لها لا بالله ولا بالأنبياء ولا بالدين. والثانى أنه لا يقول بهذا التفسير إلا علماء الدين، الذين لا يستطيعون بطبيعتهم قراءة الروايات على النحو الصحيح، لأنهم يقرؤونها قراءة دينية، على حين أن القراءة الصحيحة هى قراءتها قراءة فنية، وهذا
أمرٌ هم غير مؤهلين له، ومن ثم فكلامهم عن الرواية كلام خاطئ.
وأنا ممن يستمتعون بما يخطه قلم الأستاذ النقاش حتى ما أخالفه فيه أشد المخالفة كما فى هذا الكتاب الذى نحن بصدده حسبما سيرى القارئ فيما يلى من صفحات، وكما فى كتابه عن رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، الذى تطاول فى "وليمته" على الله وعلى الرسول والإسلام والمسلمين أبشع ما يكون التطاول،
وحرّض الفتاة المسلمة على مواقعة الفحشاء وزينها لها وأغراها بها بكل سبيل وأقام فى روايته لهذا الغرض علاقة دنسة بين مدرس عراقى شيوعى سافل وبنت جزائرية كانت تدعوه إلى بيت أسرتها حينما يبيت أفرادها عند بعض الأقارب فتعتذر البائسة المغيَّبة العقل والشرف عن مصاحبتهم كى يخلو لها ولهاتك عرضها الجو لقضاء الليل فى ممارسة للزنا يجند لها الكاتب الشيوعى كل أدواته لتقديمها للقارئ فى ثوب أرجوانى فاتن رغم كل العفن والرائحة الكريهة التى يشمها كل ذى ضميرٍ حىٍّ من على بُعْد سبعمائة خريف لا سبعين فقط، فينبرى الأستاذ النقاش فى كتابه المذكور لتحلية هذا
الخراء والزعم بأن الرواية إنما تصور علاقة عاطفية فى منتهى السمو والشاعرية، أو كما قال. ونفس الموقف قد وقفه النقاش من رواية السافلة تسليمة نسرين، التى هاجمت الإسلام والمسلمين والقرآن لصالح الهندوس الوثنيين، فى الوقت الذى صورت هؤلاء ملائكة مخبتين فى مواجهة الشياطين الملاعين الـمُسَمَّيْنَ بــ"المسلمين" أكلة لحوم البشر ومغتصبى الهندوسيات وهادمى المعابد التى التى يمارس الهندوس فيها شعائرهم فى سلام ومحبة، إذ ادعى الأستاذ رجاء النقاش أن نسرين إنما تدافع فى روايتها هذه عن الإسلام وتجلو قيمه الرفيعة أحسن ما يكون الدفاع والجلاء، وهو ما يقرؤه
القارئ فى مقدمته لترجمة تلك الرواية، التى قام بها عصام زكريا. بل زاد فأثنى على الترجمة ثناء عجيبا رغم ما أثبتّه بالصوت والصورة من أنها ترجمة مملوءة بالأخطاء. وتعبير "بالصوت والصورة" هو، لمن لا يعرف، من ابتداع أحد وزراء الداخلية المصريين حين كان يريد التدليل على أنه قد قبض على المتهم متلبسا بجريمته بحيث لا يمكنه التنصل مما يتهمه به، وإن كان الفرق بينى وبينه أن كلامى ليس من النوع الفشنك، بل هو كلام مدعوم بالشواهد والنصوص والتحليلات التى لا يخرّ منها الماء ولو قطرة واحدة.
نعم أنا ممن يستمتعون بكتابات النقاش كثيرا لسلاسته وهدوئه، وكذلك لذوقه النقدى السليم فى كثير من الأحيان، اللهم إلا أن يكون ذا غرض كما فى الحالات الثلاث السابقة. ولعل أول اهتمامى به كان يوم أن صدر له فى سلسلة "كتاب الهلال" أيضا فى أواسط الستينات من القرن المنصرم كتابه عن محمود درويش. ومما قرأته له وأعجبنى أيضا كتابه: "ثلاثون عاما مع الشعراء" وكتابه الآخر عن لويس عوض وزمرته الخارجة عن العروبة، والكارهة لكل ما يتصل بالعروبة. وإذا كان التكرار يعلم الشطار
فليسمح لى القراء أن أسوق هنا ما كتبته فى مناسبة غير بعيدة عن رجاء النقاش، فى سياق ردى على كتاب لويس عوض الضحل التافه: "مقدمة فى فقه اللغة العربية": "وكنت، حين بدأت أقرأ الكتاب (كتاب لويس عوض)، قد استخرجت من مكتبتى الخاصة كتاب الأستاذ رجاء النقاش: "الانعزاليون فى مصر"، الذى رد فيه على لويس عوض عندما كتب مقالاته فى السبعينات من القرن الفائت يهاجم العروبة وينكر أن تكون مصر عربية رغم لغتها العربية وأدبها العربى وتاريخها العربى وفكرها العربى ودينها العالمى الذى حمله إليها صحابة الرسول العربى محمد صلى الله عليه وسلم (والبند الأخير هو مربط
الفرس فى "ذلك كله"، وما "ذلك كله" إلا توطئة له وذر للرماد فى العيون كيلا ترى العيون هذا البند الأخير)، فألفيت الأستاذ النقاش قد أحسن الرد على لويس عوض إلى حد كبير. إلا أنّ... نعم إلا أنّ...! وهاكم توضيحا للأمر: فلرجاء النقاش فى بعض الأحيان مواقف فكرية نبيلة وجريئة يأخذ فيها جانب الحق والعدل فيدفع الشرفاء إلى الإعجاب به وبما يكتب، لكنه فى بعض الأحيان الأخرى للأسف يتخذ من المواقف ما لا ينسجم أو يتسق مع حق أو عدل.
ومن المواقف الأخيرة ما كتبه قبل عدة سنوات دفاعا عن رواية "وليمة لأعشاب البحر" محاولا أن يجعل من فسيخ تلك الرواية شربات، ومن خرائها عطرا فوّاحًا تَلَذّه الأنوف وتنتشى منه النفوس، إذ ادعى أن الرواية المنتنة التى يدعو صاحبها الفتاة العربية المسلمة، بكل ما يملكه من خبثٍ إبليسى وشرٍّ شيوعىٍّ مَرِيدٍ، إلى التمرد على تقاليد العفة ومكارم الأخلاق الإسلامية والرمى بنفسها وجسدها فى مستنقع الرذيلة والخنا، ويجعلها تمارس الزنا مع شيوعى كافر سافل أنانى ساقط يستغل براءتها وغرارتها وغياب أسرتها عن البيت ويظل طول الليل يجامعها فى منزل أسرتها الخالى، ادعى أن هذه الرواية تدور حول قصة حب رقيقة مرفرفة! الله أكبر! ولا أدرى كيف استطاع أن يجد فى نفسه تلك الجرأة التى تقلب الباطل حقا، والحق باطلا دون أية مبالاة بالقراء الذين اطلعوا على الرواية وأدركوا حقيقة العفن بل القىء الخلقى والفنى الذى يلوث كل صفحاتها، وكذلك دون أى اعتبار لقيم الإسلام الكريمة التى ينافح عنها فى بعض الأحايين ويقف حائلا دون ما يريد أهل القلوب المريضة أن يلطخوا به وجهها. ألا إن هذا لأمر غريب! ومثل ذلك مدحه بل تمجيده لرواية "العار" لتسليمة نسرين البنت البنجالية المفعوصة التى هاجمت الإسلام والمسلمين فى روايتها وزعمت بشأنهما الأكاذيب الحاقدة ولم تدع شيئا يلطخهما إلا انتهجته ببجاحة وكذب ما بعدهما بجاحة أو كذب، وانحازت تماما إلى الهندوس المتعصبين وصوّرتهم ملائكة أطهارا ينكِّل بهم ويغتصب فتياتهم المسلمون المتوحشون، فجاء رجاء النقاش وأطرى الرواية وصاحبتها أيما إطراء زاعما أنها إنما تدافع عن قيم الإسلام الحقيقية!".
وعودةً
إلى ما قاله النقاش عن "أولاد حارتنا" وتخطئته لأصحاب "القراءة الدينية" للرواية كما يسميها نقول إن معنى كلامه فى هذا الصدد هو أن الدين والفن عالمان منفصلان لا يلتقيان، وإن أنت حاولت أيها المسلم أن تحكّم إسلامك فى أى عمل أدبى فأنت جاهل لا تفقه شيئا. لم يقل النقاش هذا باللفظ، لكنه هو النتيجة المنطقية لكلامه ولفصله الدين عن الفن والأدب وإلحاحه على أن الدين لا ينبغى أن يكون له مدخل أى مدخل فى عملية التفسير والتقويم لأى نص أدبى، وكأن الدين عالم ضيق منغلق على نفسه. وهذا إن جاز فى أديان أخرى فإنه لا يجوز البتة فى الإسلام، إذ الإسلام هو قانون المسلمين
الذى ينظم كل شأن من شؤون حياتهم، ومنها الأدب والفن، لأن الأدب والفن نشاطان من الأنشطة البشرية يلزمهما أن يكون لهما قواعد وقوانين اجتماعية وأخلاقية، اللهم إلا إذا كان على رأسهما ريشة تعفيهما من ذلك، وهو ما لا وجود له، وعلى من يكذّبنى أن يرينى هذه الريشة، ويشرح لى من أين أتت، ولأى شىء رُكِّبَتْ على رأسهما. نعم، الإسلام هو القانون الذى ينظم للمسلمين حياتهم فى كل مناحيها، بالضبط مثلما أن لكل شعب قوانينه التى يجب على كل فرد من أفراده طاعتها، وإلا عرض نفسه لطائلة الحساب. وعلى ذلك فلا يُعْقَل أن يَنْهَى الإسلام عن الزنا واللواط مثلا، ثم يأتى
كاتب يزيّن فى رواية من رواياته الزنا واللواط، فإذا تعرض له ناقد قائلا إن هذا لا يصح، قيل له: هذه قراءة دينية لا أدبية، ومن ثم لا تصلح ولا قيمة لها، وخير لك أن تبحث لك عن قط تغمِّضه أو أى شىء آخر تتلهى به بعيدا عن ميدان النقد. وكأن الإسلام قد جاء ليحنَّط فى العُلَب أو ليوضع فى الخزائن بعيدا عن الأيدى والعيون. شىء للبركة مثلا! ويا ليته كسائر الأشياء التى يُتَبَرَّك بها فيوضع تحت الأنظار كى تستطيع العيون النظر إليه، وقريبا من الأيدى حتى تستطيع الأصابع لمسه، فيحصل لأصحابها البركة عن طريق النظر واللمس، بل هو شىء لا يصح لمسه ولا النظر له. كيف؟ هذا
ما لا أدريه، ولا أدرى كيف يدريه سَدَنة النقد الجُدُد الذين يريدون تحويل عملية النقد إلى كهانة ككهانة الوثنيين، فى الوقت الذى لا يتورعون هم فيه عن الفتوى فى الدين بكل جرأة وبجاحة رغم ما تتطلبه فتاوى الدين من تبحر فى العلم وحساسية فى التناول ينقصان أولئك السدنة تمام النقصان. إلا أن هؤلاء السدنة الجدد لا يبالون بشىء من هذا، مع جرأتهم فى ذات الوقت على نهى كل من لا يرافئهم على آرائهم عن مقاربة القراءة لأى عمل أدبى بحجة أن شرح الأعمال الأدبية وتقويمها أمر دونه خرط القتاد، بل دونه القنابل والمدافع وبَقْر البطون وسَمْل العيون وتطيير الرقاب
وتدمير البيوت والتغييب فى بطون السجون والتعليق على أعواد المشانق!
ونحن نقول للأستاذ النقاش، وإن كان انتقل إلى ذمة الله، إلا أنه حاضر معنا بكتاباته وآرائه ومواقفه، وبخاصة فى كتابه هذا الذى يدور عليه حديثنا الآن: إنك قد استفتيت بشأن "أولاد حارتنا" الدكتور محمد سليم العوا والدكتور أحمد كمال أبو المجد وطرت بما قالاه حتى لامست النجوم التى نراها فوق
رؤوسنا، بل حتى تجاوزتها إلى نجوم المجرّة التى فوقها مما لا نراه الآن، وقد نراه فى مقبل الأيام إن كتب الله لنا عمرا طويلا ندرك به عصر المناظير الفلكية العملاقة التى سوف يتم اختراعها فى تلك الأثناء لترينا نجوم المجرات الأخرى، مع أنهما ليسا ناقدين بالمعنى الذى تريد، فكيف كان منك ذلك؟ إنهما أقرب إلى أن يكونا عَالِمَىْ دينٍ، وليسا ناقدين أدبيين. فلماذا قَبِلْتَ منهما ما قالاه عن الرواية المحفوظية وأثنيت عليه وطنطنت به، ورفضت أن يكون لأمثالهما ممن ليسوا بنقاد، أى ممن لم يدرسوا النقد مثلى ومثلك فى قسم اللغة العربية
بكلية الآداب أو أى قسم آخر يناظره، رأى يَرَوْنَه فى تلك الرواية؟ وهل كل النقاد الذين يملأون الساحة النقدية هذه الأيام وقبل هذه الأيام بزمن طويل هم من المتخصصين فى النقد الأدبى؟ بطبيعة الحال لا، فلم إذن تخص من تسميهم: "علماء دين" ممن لا يَحْسُن رأيهم فى رواية نجيب محفوظ بالحرمان، وكأننا فى محكمة من محاكم التفتيش؟ ألا يكفى أن يكون لدى الشخص اطلاع جيد على الأعمال الأدبية ومعرفة بالطريقة التى ينبغى التعامل معها من خلالها؟ وهل يفعل الدارسون فى أقسام اللغة العربية والأدب العربى شيئا آخر غير هذا؟ صحيح أن الدراسة المنظمة قمينة أن تكون أفضل، إلا
أن ثم كثيرا من النقاد استطاعوا تكوين شخصياتهم النقدية بالقراءة الحرة والعكوف على الكتب والدراسات التى من شأنها إعانتهم على أداء هذه المهمة. وهل كان سليمان البستانى مثلا أو إبراهيم اليازجى أو جبران خليل جبران أو أمين الريحانى أو روحى الخالدى أو شكيب أرسلان أو الرافعى أو العقاد أو الزيات أو محمد لطفى جمعة أو محمد عبد الغنى حسن أو مصطفى عبد اللطيف السحرتى أو جورج طرابيشى أو لطفى الخولى أو محمد دكروب أو محمود أمين العالم أو حتى نجيب محفوظ ذاته من خريجى أقسام اللغة العربية الذين درسوا النقد الأدبى دراسة منظمة، ودعنا من الفُسُول من أصحاب
الدبلومات الضِّحَال الثقافة والذوق الذين لا يستطيع الواحد منهم أن يكتب أو يقرأ جملة واحدة سليمة، فضلا عن أن يفهم النص الذى أمامه فهما صحيحا، وهم الذين يتصدرون مجالس الأدب والنقد هذه الأيام ويمدد الواحد منهم رجليه فى وجوهنا وكأنه جالس على المصطبة الملاصقة لبيتهم فى القرية ثم يفتى فى كل شىء وفى أى شىء، وهو يجهل كل شىء جهلا فاحشا يبعث على القىء، بل هو أجهل من الجهل ذاته إن كان هناك جهل يتجاوز ما نعرفه من جهل، وكل بضاعته كَمْ مصطلحًا من مصطلحات الخردة النقدية الغربية يرددها دون وعى ودون ذوق ودون عقل متصورا أنه قد جاء بالذئب من ذيله؟ الجواب هو
"كلا" بالثلث. فلماذا لا تنكر على أى من هؤلاء قيامهم بمهمة الناقد الأدبى وحديثهم عن رواية محفوظ التى نحن بسبيلها؟ أقول لك السبب؟ إنه رفضك أن يكون هناك رأى فى رواية "أولاد حارتنا" يخالف ما ترتئيه. هذا هو السر، ولا سر سواه!
ثم هل هناك، يا أستاذ نقاش، قراءة دينية فى مقابل القراءة الأدبية؟ الذى يعرفه العارفون هو أن هناك عددا من المناهج النقدية المختلفة
كالمنهج اللغوى والبلاغى، والمنهج الأسلوبى، والمنهج البنيوى، والمنهج الأسطورى، والمنهج النفسى، والمنهج الاجتماعى... وبعض هذه المناهج يركز على الجوانب الفنية، وبعضها يركز على المضمون. ولعل أقرب منهج يناسب روح الإسلام هو المنهج المتكامل، وهو المنهج الذى يعمل بكل وسعه على الاستفادة من جميع تلك المذاهب. ذلك أن الدين ليس مقصورا على الحلال والحرام وحَسْب، بل يشمل الذوق والفهم وقواعد اللياقة، وكذلك ما ينفع وما يضر، وما يؤدى بالمجتمع إلى الأمام وما يعرقله ويأخذه إلى الوراء، وما ينجز عملية التحضر أو يبذر العقبات فى سبيل الناس ويجلب التخلف على
أم رؤوسهم، هادفا فى كل ذلك إلى تحقيق سعادة الفرد والجماعة فى ضوء ما يمكن إحرازه فى دنيانا هذه من السعادة. وفى القرآن دعوة ملحة إلى تملِّى جمال الكون فى الجماد والنبات والحيوان والإنسان، والسماء والأرض والبحر. وكان رسول الله يتذوق الأدب تذوقا راقيا، ويقول إن من البيان لسحرا وإن البراعة فى القول لقد تقلب الحق باطلا، والباطل حقا. ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم ينهَى المسلمين عن التهاجى والتفاخر بالأحساب والأموال وينبه أتباعه إلى أن الكلمة الطيبة صدقة، وأن حصائد ألسنة الناس يمكن أن تكبّهم فى النار على وجوههم. وكان يجمع حوله الشعراء والخطباء
ويقربهم ويكرمهم ويقدر إبداعهم ويشجعهم، ويستمع إلى الشعر والخـُطَب ويُسَرّ بالجيد من ذلك ويدعو لصاحبه، وإذا وجد ما يُحْوِج إلى سؤال الشاعر مثلا عن مقصده سأله عن ذلك وأنصت جيدا لما يجيب به. وكان واسع الصدر يقدّر دور الكلمة فى الحياة، ويعرف لها ما تحدثه من أثر فى المجتمع. ذلك أن الأدب نشاط من الأنشطة الإنسانية التى لا يمكن أن تستغنى عنها حياة الناس، ولا يمكن من ثم أن يهمله دين محمد، الذى شرعه الله لتنظيم أنشطة البشر وتوجيهها بما يعود على أصحابها بأعظم درجة من النفع ويقيهم مختلف ألوان الأذى والمتاعب التى تنغص عليهم حياتهم. ولا ننس أن معجزته
عليه الصلاة والسلام هى معجزة قولية، إذ القرآن هو برهانه الذى لا برهان فوقه بما فيه من بلاغة ليس لها نظير، وبما فيه من تشريعات ونبوءات وقيم ومبادئ سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية تفوق أية تشريعات ومبادئ بشرية قاصرة، فهو الكتاب الأول لدى العرب والمسلمين. وكان صلى الله عليه وسلم فوق ذلك خطيبا مفوَّها فى أعلى درجات الفصاحة، وكان هذا سببا من أسباب نجاح دعوته هذا النجاح المذهل واقتحامها القلوب واستيلائها على النفوس والعقول والضمائر. ولسوف تظل ماضية فى طريقها تستولى على النفوس والعقول والضمائر فى كل مكان فى العالم وتحوز حصونها ومعاقلها
إلى يوم الدين!
لا يوجد إذن ما سماه الأستاذ النقاش: "قراءة دينية"، بل هناك نقد أدبى، وهذا النقد الأدبى صور وألوان واهتمامات مختلفة كما قلنا، وإن كان المنهج المتكامل، أو إن شئت فقل: المنهج التكاملى، هو أشمل تلك المناهج جميعا رغم معرفتنا أنه من الصعب على الناقد تناول العمل الأدبى من كل جوانبه فى دراسة واحدة، إذ كل ناقد، أو كل
بحث نقدى، إنما يركز اهتمامه فى المرة الواحدة على بعض الجوانب دون بعض. وليس من حق أحد أن يقول لغيره إنه لا يجوز لك أن تقرأ العمل الأدبى القراءة الفلانية، وإنما يمكن أن يناقشه فيما قال وأن يبين له الأسباب التى تدعوه إلى مخالفته، ويحاول أن يكسبه إلى صفه إن استطاع.
والحق أن تفسير "أولاد حارتنا" الذى تقدمه لنا القراءة التى خطّأها رجاء النقاش ووَسَمَها
على سبيل التقليل من شأنها بــ"القراءة الدينية" هو لا غيره التفسير الصحيح لرواية "أولاد حارتنا"، وليس فيه أدنى افتئات عليها أو على صاحبها. لماذا؟ لأن هذا التفسير هو التفسير الذى وصفه نجيب محفوظ بأنه أصح تفسير للرواية، وأثنى عليه وعلى صاحبه. لكنه بطبيعة الحال لم يثن على الشيخ الغزالى والشيخ الشرباصى، اللذين فسراها نفس التفسير قبل أن يفسرها ذلك المفسر الذى مدحه محفوظ ونشر هو بدوره مديح محفوظ على الغلاف الخلفى للكتاب الذى سجل فيه ذلك التفسير، فعلم القراء جميعا بتلك الموافقة وذلك المديح، وأضحى إنكار ما كتبه محفوظ من المستحيلات. وذلك المفسر هو
الناقد السورى المعروف جورج طرابيشى، وهو كاتب شيوعى نصرانى. أى أنه ليس عالم دين، بل ليس مسلما أصلا، وفوق ذلك فقد وافقه صاحب الرواية على رؤيته لها ومجَّد هذه الرؤية وعدّها أصدق تفسير لتلك الرواية وغيرها من الروايات التى تعرّض لها طرابيشى فى كتابه: "الله فى رحلة نجيب محفوظ الرمزية"، إذ كان محفوظ قد أرسل له رسالة على إثر كتابته ما كتب جاء فيها: "بصراحة أعترف لك
بصدق بصيرتك وقوة استدلالك، ولك أن تنشر عنى بأن تفسيرك للأعمال التى عرضتَها هو أصدق التفاسير بالنسبة لمؤلفها".
لقد أكد طرابيشى في ذلك الكتاب أن نجيب محفوظ قد رمز إلى الله بالجبلاوى، مشتقا ذلك الاسم من الفعل: "جَبَلَ" أي خَلَقَ، ورمز إلى "إبليس" بــ"إدريس"، وإلى آدم بــ"أدهم"، وإلى "حواء" بــ"أميمة"، وهو تصغير "أُمّ" إشارةً إلى أنها أم البشر، وإلى الجنة بــ"حديقة بيت الجبلاوى"، وأطلق على موسى اسم "جبل" لأن الله كلَّمه عند جبل الطور، وسمى عيسى "رفاعة" لأن الله رفعه إليه، ودعا محمدا بــ"قاسم" لأنه كان يُكْنَّى: "أبا القاسم". وهذا التحليل موجود فى الفصل الأول من كتاب الطرابيشى المشار إليه آنفا، فلا سبيل إلى المماراة فيه. فكيف يكون هذا التفسير مقبولا بل ممدوحا ومشكورا من طرابيشى، وفى ذات الوقت مرفوضا ومخطّأً ومحقورا من غيره، وفوق ذلك موسوما على سبيل التقليل والتحقير بــ"القراءة الدينية"، ومسخورا منه ومن أصحابه لا لشىء إلا لأنهم من رجال الأزهر، مع أنهم يكتبون بأسلوب أدبى أفضل كثيرا من أسلوب طرابيشى والنقّاش ذاته؟
ولعبد المنعم صبحى، وهو من الذين يحبون محفوظا ويثنون عليه وعلى إبداعه ثناء كبيرا، مقال عن "أولاد حارتنا" نشره فى مجلة "الفكر المعاصر" (عدد مايو 1967م) جاء فيه أن من السهل جدا حل الرموز التى تقوم عليها تلك الرواية: فإدريس هو إبليس، وأدهم هو آدم، وأميمة هى حواء، وقدرى هو قابيل، وهمام هو هابيل، وعرفة نبى العصر الحديث هو العلم، وأن محفوظا يؤكد أن ما يقدمه ليس رواية واقعية، بل رمزا لأحداث تناولها الدين من قبل، وأنه يروى قصة الإنسان بدءًا من طرده خارج الجنة، مرورًا بثورات الأنبياء ومحاولاتهم صنع الخير للإنسان، وانتهاءً بمجىء العلم فى النهاية.
وفى مقدمة ترجمته لرواية "حضرة المحترم" المحفوظية التى نشرتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى 1987م يذكر د. رشيد العنانى بمنتهى الصراحة أن "أولاد حارتنا" هى "قصة رمزية متفردة فى تاريخ البشرية منذ الخلق أو التكوين وحتى عصرنا الحاضر، وفيها تُنْزَع عن أصحاب اليهودية والمسيحية والإسلام قداستهم ويتم تمثيلهم تحت ستار رقيق باعتبارهم لا يزيدون عن كونهم مصلحين اجتماعيين ناضلوا بأقصى جهدهم لتحرير شعوبهم من الطغيان والاستغلال. وثمة شخصية أخرى فى القصة الرمزية تمثل العلم الذى يتم إظهاره على أنه حَلَّ محلّ الدين، وعلى يديه تحقق فى النهاية موت الله" (عن "الطريق إلى نوبل 1988 عبر حارة نجيب محفوظ" للدكتور محمد يحيى ومعتز شكرى/ أمة برِسْ للإعلام والنشر/ القاهرة/ 1989م/ 18- 19). وفى هذا السياق يحسن أن نشير إلى ما ذكره عبد الله المهنا من أن موت الإله هى فكرة فلسفية غربية كتب عنها نجيب محفوظ في بداية حياته مقالات عدة مستقاة من أفكار سلامة موسى (عبد الله المهنا/ دراسة المضمون الروائى فى "أولاد حارتنا"/ عالم الكتب/ الرياض /62). أما د. السيد أحمد فرج فقد أشار، فى هذا الصدد،إلى ما كتبه محفوظ فى ذلك الوقت من مقالات كثيرة عن المعتقد والجنس والعلم وفلسفة برجسون والبرجماتية العلمية والمجتمع والرقى البشرى والحياة الحيوانية والسيكلوجية ونظريات العقل وفكرة الله فى الفلسفة (د. السيد أحمد فرج/ أدب نجيب محفوظ وإشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب/ دار الوفا/ المنصورة/ 1410هـ- 1990م/ 40).
وعلى نفس الشاكلة من التفسير لرواية "أولاد حارتنا" يقول فؤاد قنديل، وهو أيضا من المحبين لمحفوظ المثنين عليه أعظم الثناء، فى كُتَيِّبٍ له عنوانه: "نجيب محفوظ كاتب العربية الأول" (الثقافة الجماهيرية/ 1988م/ 28): "ألحت المشكلات الإنسانية والفكرية عليه وحاصره الحنين إلى الرواية فكتب "أولاد حارتنا"، التى نشرت فى "الأهرام" عام 1959، واحتج عليها رجال الدين، ولم تصدر فى كتاب إلا فى عام 1967 عن "دار الآداب" ببيروت. وهى تتناول ببراعة، وربما لأول مرة، علاقة الخالق بالإنسان وحيرة الإنسان بين قدره ورغبته فى البحث عن طريق تسطع عليه أنوار الدين والعلم والاشتراكية".
كذلك تعرض ستورى ألن سكرتير الأكاديمية السويدية التى منحت نجيب محفوظ جائزة نوبل لتفسير رواية "أولاد حارتنا"، ومبلغ علمى أن هذا الرجل السويدى ليس من خريجى الأزهر ولا يضع عمامة على رأسه ولا يجهل قراءة الروايات، بل قرأ منها الكثير والكثير. أليس خواجة؟ ثم إنه ليس فى لقبه "غزالى" ولا "شرباصى" ولا "سابق" ولا دياولو. فلنقرأ معا إذن الكلمات التالية التى قالها فى حفل توزيع جوائز نوبل: "وللقراء الكثيرين الذين اكتسبهم نجيب محفوظ من خلال الثلاثية بخلفيتها الواسعة التى تصور الحياة المعاصرة جاءت "أولاد حارتنا" كالمفاجأة، فهى تمثل التاريخ الروحى للبشرية. وقد قُسِّمَتْ إلى فصول بعدد سور القرآن الكريم، أي 114 فصلا. وشخصيات الإسلام واليهودية والمسيحية العظيمة تجىء متخفية لتواجه مواقف مملوءة بالتوتر. فرجل العلم الحديث يمزج بنفس الجدارة بين إكسير الحب وبعض المواد المتفجرة، وهو يتحمل مسؤولية موت "الجبلاوى" أو الإله، ولكنه يفنى. فهناك بريق أمل فى نهاية الرواية".
كذلك لا ينبغى فى هذا السياق أن ننسى الدراسة القيمة التى كتبها الدكتور إبراهيم محمد قاسم حول الرواية، وهو أستاذ للأدب والنقدبكلية اللغة العربية- جامعة الأزهر، وعضو عدد من الجمعيات العلمية والأدبية، وصاحب إنتاج متنوع فى ميدان الأدب والنقد، ومشرف على عدد غير قليل من الرسائل الجامعية... إلخ. وهى دراسة علمية مفصلة تتناول تاريخ إبداع الرواية وتتحدث عن ظروف نشرها وتحلل مضامينها وتذكر ما قاله نجيب محفوظ وغيره فى الدفاع عنها وتناقشة مناقشة تفصيلية لا تترك شيئا فيه دون تقليب له على وجوهه المختلفة، مع إيراد الشواهد على كل رأى من هذه الآراء، كل ذلك فى منهجيةٍ نقديةٍ صارمةٍ وحرصٍ على الإحالة لكل ما رجع إليه من مصادر ومراجع لها صلة بالقضية والتزامٍ بالهدوء والموضوعية. وهو يرى ما يراه كل من قرأ الرواية بعيدا عن الاعتبارات الوقتية المحلية من أنها تعالج مسيرة البشرية منذ بداية الحلق حتى عصرنا الحديث، وترمز بالجبلاوى إلى الله، وبأدهم إلى آدم، وبإدريس إلى إبليس، وبجبل إلى موسى، وبرفاعة إلى عيسى، وبقاسم إلى محمد، وبعرفة إلى العلم، الذى افتتن به الناس فى العصر الحديث وأحلّوه فى ضمائرهم وحياتهم محل الله سبحانه وتعالى، وهو ما عبرت عنه الرواية بموت الجبلاوى. وهذه الدراسة النقدية متاحة فى مواقع مشباكية مختلفة، وعلى رأيها موقع الكاتب نفسه: "www.bab.com"، وعنوانها: "قراءة نقدية لرواية أولاد حارتنا".
وأخيرا وليس آخرا نسوق إلى القارئ الكريم ما كتبته الموسوعة المشباكية الحرة: "ويكيبيديا: Wikipaedia" عن الرواية ضمن مقال خصصته لها، وهو أن "الرواية واقعية رمزية تدور في أحد أحياء القاهرة كما هي معظم روايات نجيب محفوظ كــ"الحرافيش" و"زقاق المدق" وغيرها، وتبدأ بحكاية عزبة الجبلاوي الخاصة التي يملأها أولاده. تندلع حبكة السرد منذ ولادة أدهم ابن السمراء وتفضيل الجبلاوي له على بقية أبنائه وتمرد ابنه إدريس، الأمر الذي أدى إلى طرده من عزبة الجبلاوي لتبدأ رحلة معاناته. ينجح إدريس في التسبب بطرد أدهم من العزبة، و تمضي رحلة الإنسان و الشيطان في الخلق كما روتها الكتب السماوية، فيقتل ابنُ أدهم ابنَه الآخر، ويتيه أبناؤه في الحارة فتنشأ فيها أحياء ثلاثة، ويظهر منها أبطال ثلاثة يرمزون إلى أنبياء الديانات التوحيدية الثلاث. كما يظهر في عصور الحارة المحدثة شخص رابع هو العلم، الذي سيقضي على الجبلاوي... فيما يلي قائمة بأسماء أهم شخصيات و أحداث الرواية وتفاسيرها القياسية بالاعتماد على التفسيرين الديني والنقدي لها:
الشخصية |
الكناية أو التفسير |
الجبلاوي |
الله الخالق عز و جل: وذلك بسبب صفات الجبلاوي الأزلية، وأخذا من الجَبْل (بتسكين الباء) أي الخَلْق. |
البيت الكبير |
السماء أو العرش |
الحارة |
العالم أو الكون |
قنديل |
جبريل: التشابه الواضح بين لفظ الاسمين. ينقل كلام الجبلاوي إلى بعض الناس، خصوصا ظهوره لقاسم ونقله تعليمات الجبلاوي. |
أدهم |
آدم، التشابه الواضح بين لفظ الاسمين، وكون أدهم الابن الصغير المفضل للجبلاوي. ولادته من أم سمراء (التراب)، وواقعة طرده من البيت/ الجنة. |
إدريس |
إبليس: التشابه بين الاسمين، وفكرة تكبره وكراهيته لأدهم، وخروجه من زمرة الأبناء المفضلين بتمرده على أبيه. |
جبل |
النبي موسى: مأخوذ من حديث القرآن عن حديث الله لموسى على جبل الطور، ومن تجلي الله للجبل. |
رفاعة |
المسيح: ومن ذلك أن القرآن يذكر أنه لم يمت ولم يُصلب، وإنما رُفِع إلى السماء/ أخذه الجبلاوي إلى بيته. |
قاسم |
محمد: وذلك من كنية الرسول (أبي القاسم). ومنه أنه جاء في حي كان يُدْعَى: "حي الجرابيع"، فأعلى شأن قومه، وكان له أصحاب، وتزوج نساء كثيرات. |
صادق |
أبو بكر الصديق: وذلك من اسمه وصحبته لقاسم وخلافته له. |
عرفه |
عرفة: من المعرفة أو العلم، وهو العلم في الرواية، فليس جبليا أو رفاعيا أو قاسميا/ ليس يهوديا أو مسيحيا أو مسلما، وينسبه كل فريق إليهم. وهو قاتل الجبلاوي. |
الحدث/ المكان |
رمزه |
ولادة أدهم من أم سمراء |
خلق آدم من الطين. |
تمرد إدريس |
تمرد إبليس على الله ورفضه السجود. |
اطّلاع أدهم على الحجرة حيث الوصية |
الأكل من الشجرة المحرمة. |
قتل قدري لأخيه |
قصة قابيل وهابيل. |
حديث جبل والجبلاوي |
حديث الله وموسى. |
موت رفاعة والاختلاف فيه |
واقعة تعذيب المسيح والاختلاف بين المسيحية والإسلام حول صلبه من عدمه. |
تحول رفاق رفاعة إلى حكام |
بناء القديس بطرس للكنيسة . |
تزوج قاسم من امرأة غنية أكبر منه بعشرين سنة. |
تزوج الرسول من السيدة خديجة بنت خويلد |
خروج قاسم من الحي |
|
المعركة الأولى بالنبابيت |
|
وراثة صادق لقاسم |
|
جهل نسب عرفة |
العلم لا جنسية له ولا دين. |
موت الجبلاوي |
قلة التدين وضعف الدين في صدور الناس. |
تَسَمِّي كل حي من أحياء الحارة باسم الأبرز فيه |
الاختلاف بين أتباع الديانات التوحيدية الثلاث. |
عزبة الجبلاوي |
الجنة. |
الحارة |
الأرض. |
هيه؟ ترى هل ما زالت فى الجعبة ألاعيب أخرى يمكن أن تفاجئنا بعد هذا كله؟
وبالنسبة إلى العلماء الذين كتبوا تقريرا عن رواية "أولاد حارتنا" عند نشرها مسلسلة فى "الأهرام" عام 1959م، وهم، حسبما قرأنا وسمعنا، الشيخ محمد الغزالى والدكتور أحمد الشرباصى والشيخ السيد سابق، فإن من المضحك رمى أمثالهم بأنهم لم يقرأوا رواية واحدة فى حياتهم ولا يستطيعون من ثَمَّ تذوق الأعمال الأدبية وتحليلها وتقويمها كما قال محفوظ وغيره فى حقهم. لقد كان الغزالى فى شبابه شاعرا، وكُتُبُه مصوغة بأسلوب بلغ مدى بعيدا فى الحلاوة والنداوة والنصاعة والبراعة ودفء البيان، وهو يذكرنى بأسلوب الدكاترة زكى مبارك فى حلاوته ونداوته ودفئه. أما الشرباصى فكان، رحمه الله، أستاذا جامعيا فى الأدب العربى، ورسالته التى حصل بها على درجة الدكتورية، وكانت عن أمير البيان شكيب أرسلان، هى من الدراسات الأساسية فى مجالها لا يستغنى عنها باحث. وهو من الكتاب الكبار، وفوق هذا كان خطيبًا مِصْقَعًا، يعرف ذلك كل من قُدِّرَ له أن يصلى وراءه يوم الجمعة كما كنا نفعل أحيانا عقب النكسة أيام كان يخطب فى مسجد الرفاعى بالقلعة. ويبقى الشيخ السيد سابق، الذى لمزه رجاء النقاش بما جبهه به جمال عبد الناصر من أنه "مفتى الدماء" حسبما يقول، والعهدة عليه، ولا أدرى مبلغ صحة هذه الرواية التى أوردها. وربما كان وراء تلك التهمة آلة الإعلام الجهنمية التى تمتلكها الدولة ولا يملك من تَصُبّ عليه تلك الآلةُ حُمَمَها وسيلةً لتفنيد ما تزعمه بشأنه، ربما. وأنا، وإن كنت قرأت بعض أعمال سابق، وعلى رأسها "فقه السنة"، الذى أفدت منه كثيرا بوصفه موسوعة فقهية تجمع بين الإيجاز والسلاسة وسعة الأفق، وألفيتُ أسلوبه فيما قرأت له أسلوبا مشرقا مبينا، فإنى لا أعرف عنه الكثير، ولكنى أعرف أن عبد الناصر هو "مريق الدماء"، دماء العمال والعلماء والمفكرين. فإذا صح أن السيد سابق هو "مفتى الدماء"، وليس هناك كما قلت دليل على ذلك، فعبد الناصر هو "مريق الدماء"، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل، فهو مشتهر معروف لا يمكن أن يمارى فيه أحد.
إن كاتب هذه السطور من المعجبين بنجيب محفوظ الروائى الذى لا يدانيه بين العرب روائى آخر، وقلما يوجد مثيل له فى الآداب الأخرى. ولقد بلغ من حبى له أننى، رغم معرفتى بأن لغته لا تخلو من أخطاء نحوية وصرفية نَصَصْتُ على بعضها فى دراستى عن روايته: "رحلة ابن فطومة"، التى يجدها القارئ فى آخر فصل من كتابى: "فصول من النقد القصصى"، قد فكرتُ يوما، إكراما لخاطره، فى شىء لا أظنه خطر من قبل على بال أحد. ألا وهو التفكير فى صياغةِ فعلِ أمرٍ مبنىٍّ للمجهول، وهو ما لا وجود له فى العربية، ولم يفكر أحد فيه مجرد تفكير. والسبب فى هذا هو أننى وجدته ذات مرة قد استعمل فعل أمر مبنيا للمفعول، فقلت فى نفسى ضاحكا فى البداية: ولم لا نصوغ فعل أمر من هذا النوع بدلا من أن نخطئ نجيب محفوظ؟ ثم مضيت فأخذت فيما بينى وبين نفسى أستعرض القواعد التى يمكن أن تنظّم لنا صياغة مثل هذا الفعل، ومضيت فى ذلك شوطا بعيدا. إلا أنى فِئْتُ أخيرا إلى ما ينبغى الالتزام به فى أمور النحو والصرف وطرحت تلك الفكرة من دماغى. ولكن لماذا أقول ذلك الآن؟ أقوله كى يعرف القارئ أننى لست ضد محفوظ فى دراستى هذه، وكل ما هنالك هو أننى أردت أن أبين أن حبى للرجل لا يمنعنى من انتقاده حين يكون هناك موجب لذلك الانتقاد، وبخاصة حين أراه يتخبط ويلقى بالاتهامات يمينا وشمالا من أجل تبرئة نفسه، مع أن الأمر لا يستدعى كل ذلك التخبط. وكان أحجى به أن يقر بأن ما قاله أساتذة الأزهر فى تفسير رموز الرواية صحيح. وإلا فإذا كان يرى حقا أنهم غير مؤهلين للحكم عليها وعلى تفسيرها، فلماذا يا ترى اشترط موافقة الأزهر على طبعها فى مصر قبل أن يأذن لأى ناشر مصرى بإصدارها؟
وبالمناسبة فالأستاذ النقاش يباهى دائما فى كتابه الذى بين أيدينا بأن شكيمة عبد الناصر كانت قاسية باطشة مع الاتجاهات الدينية بحيث لم يكن أحد يرتفع له صوت آنذاك، ومن ثم استطاع أن يقمع الآراء المضادة للرواية. فهل هذا مما يُتَبَاهى به؟ لقد دفعت مصر الثمن غاليا لهذا العسف والاستبداد وما زالت، وإنّ ما نحن فيه الآن من هوان وعجز لهو من الثمار المرة التى خلفتها لنا سياسة عبد الناصر التى تعجب النقاش أيما إعجاب. أقول هذا، وأنا لا أنتمى إلى أى حزب أو جماعة سياسية أو دينية، ولا أرى فيما حولى منها ما يغرينى بالانضمام إلى أيها. وقد وضحت هذا للقارئ حتى لا يظن ظانٌّ أنى أتبع هذه الجماعة أو تلك، ولهذا أنتقد سياسة عبد الناصر، إذ إن الأوضاع المتردية التى خلّفها لنا عبد الناصر لغنية عن كل إضافة أو برهان، وإلا فمن لا يستطيع الرؤية من ثقوب الغربال إنما هو أعمى عمى حيسيا.
ثم إنى بعد أن قلت هذا أود أن أتبعه بأن الملوم فى ذلك ليس جمال عبد الناصر وحده، بل الأمة كلها على بَكْرَة أبيها، فما عبد الناصر فى الحقيقة إلا صدى لأخلاقها وشخصيتها. كذلك فلولا سكوتُ الشعب على عسفه وترويعه واستبداده بالرأى وتركُه إياه يغامر بالوطن على النحو الذى يحلو له وعدمُ وقوف المفكرين وال...