تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ 36

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ "الْمُتَنَبّي، رِسالَةٌ فِي الطَّريقِ إِلى ثَقافَتِنا" لِلْأُسْتاذِ مَحْمودْ مُحَمَّدْ شاكِرْ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

لِهذِه الِانْتِقالاتِ الْمُتَتالِيَةِ وَقَفْنا عِنْدَ الْأَبْياتِ الْأَرْبَعَةِ الَّتي قَدَّمْناها

( سلكت صروف الدهر حتى لقيته على ظهر عزم مؤيدات قوائمه

مهالك لم تصحب بها الذئب نفسه ولا حملت فيها الغراب قوائمه

فأبصرت بدرا لا يرى البدر مثله وخاطبت بحرا لا يرى العبر عائمه

غضبت له لما رأيت صفاته بلا واصف والشعر تهذي طمامه )

، وَتَبَصَّرْنا فيها ، وَفي مَعانيها ، وفي دَلالاتِ أَلْفاظِها واحِدَةً واحِدَةً ، وَرَدَدْنَا الْبَصَرَ إِلى مَقْدَمِ أَبِي الطَّيِّبِ إِلى أَنْطاكيَّةَ في جِوارِ أَبِي الْعَشائِرِ سَنَةَ 336 ، ثُمَّ مَقْدَمِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ إِلَيْها في سَنَةِ 337 ، ثُمَّ فِي اللِّقاءِ الَّذي رَوَوْا خَبَرَه عَلى عِلّاتِه ، وَنَفَضْنَا الْأَبْياتَ وَمَعانِيَها ، وَتَلَمَّسْنَا الْحَلَقاتِ في ظَلامِ التّاريخِ وَالتَّرْجَمَةِ ، فَوَصَفْنا لَكَ اللِّقاءَ الَّذي كانَ في تِلْكَ السَّنَةِ بَيْنَ أَبِي الطَّيِّبِ وَسَيْفِ الدَّوْلَةِ ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ بِعَيْنٍ لا تَحْسَرُ إِلى ما قَدَّمْنا مِنَ التّاريخِ في صَدْرِ هذَا الْبابِ ، وَما عَرَفْنا مِنْ خُلُقِ أَبِي الطَّيِّبِ وَآرائِه وَأَغْراضِه وَآمالِه ، وَما وَقَفْنا عَلَيْهِ مِنْ خُلُقِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ وَآرائِه وَأَغْراضِه وَآمالِه ، ثُمَّ حَكَمْنا كَما رَأَيْتَ أَنَّها كانَتْ أَوَّلَ ما قالَ أَبُو الطَّيِّبِ مِنْ قَصيدَتِه تِلْكَ ، وَأَتْمَمْنَا الرَّأْيَ عَلى ذلِكَ ، وَاعْتَمَدْناه ، وَسِرْنا عَلى بَرَكَةِ اللّهِ !

على ما ذكرت - يا أستاذنا - يشهد عمل المشتغلين بالشعر نفسه .

يا مَنْ يَعِزُّ عَلَيْنا أَنْ نُفارِقَهُمْ وُجْدانُنا كُلَّ شَيْءٍ بَعْدَكُمْ عَدَم

كأن مصحح الكتاب عَكَسَ ما بين الوجدان المضموم الواو بمعنى الإحساس الكامن ، والوجدان المكسور الواو بمعنى العثور !

لقد ضجر أستاذنا - رحمه الله ! - بأخطاء الطباعة ؛ حتى قال مرة : الكتب كلها أخطاء ! - على رغم تحريه الذي حمله على إحراق نسخ الطبعات الفاسدة ، غير عابئ بما بذل فيها من مال !

يا كم كان مصححو الكتب قديما ، أحرص وأعلم وأدق من محققيها حديثا وشراحها الذين صاروا سُخْرَة الساخرين !

اقْرَأِ الْأَبْياتَ ، وَتَدَبَّرْها ، وَانْظُرْ في خِطابِه قَلْبَه عَلى غَيْرِ عادَتِه ، خِطابًا رَقيقًا مُتَنَهِّدًا ذا زَفَراتٍ ، وَانْظُرِ اضْطِرابَ أَمْرِه بَيْنَ قَلْبِه وَفِكْرِه ، وَبَيْنَ عاطِفَتِه وَرُجولَتِه - يَقولُ لِقَلْبِه : " لَسْتَ فُؤادي إِنْ رَأَيْتُكَ شاكِيا " ، ثُمَّ يَعودُ ، فَيقولُ : " خُلِقْتُ أَلوفًا ... " ؛ فَلَيْسَ فِي الْأَبْياتِ حُبُّه لِسَيْفِ الدَّوْلَةِ وَحَسْبُ ، بَلْ فيهِ نَفَحاتٌ مِنْ لَوْعَةِ الْحُبِّ الَّذي يَسْتَوْلي عَلَى الْقَلْبِ : حُبِّ الْمَرْأَةِ الَّتي يَهْجُرُهَا الرَّجُلُ وَهُوَ يَعْلَمُ يَقينًا أَنَّه لا يَهْجُرُها ، وَإِنَّما يُهاجِرُ قَلْبَهُ الَّذي بَيْنَ جَنْبَيْهِ ، وَيُعانِدُه ، وَيُراغِمُه !

لم يكن لأستاذنا - رحمه الله ! - أن يحدس ، ويبني على حدسه ، ويمضي إلى أن يستدل كما فعل - لولا مكابدته وقد كان في ميعة شبابه ، ومعالجته !

ومن ذاق قصيدته " اذْكُري قَلْبي " ، عرف !

يا مَنْ نُعيتُ عَلى بُعْدٍ بِمَجْلِسِه كُلٌّ بِما زَعَمَ النّاعونَ مُرْتَهَن

فَوَرَبِّكَ إِنّي لَإِخالُ أَبَا الطَّيِّبِ قَدْ قالَ هذَا الْبَيْتَ وَهُوَ يَبْكي ؛ فَإِنَّ فِي الشَّطْرِ الْأَخيرِ عَبَراتٍ مِنْ دَمْعِه لا تَزالُ تَجولُ وَتَتَرَقْرَقُ !

ذكرتُ كلام امرأة بدينة مترامية الجسم ، ضحك من سمنتها الناس وهي تجاهد لتركب معنا إلى القاهرة ، في أوائل تسعينيات القرن الميلادي العشرين : " إِنْشَااللّه اللّي يِدْحَكْ عَلَيَّ يِتْخَنْ زَيّي ! وَالنَّبي ما تَخَّنِّي الّا الْهَمّ " !

أَفي كُلِّ يَوْمٍ تَحْتَ ضِبْني شُوَيْعِرٌ ضَعيفٌ يُقاويني قَصيرٌ يُطاوِل

لِساني بِنُطْقي صامِتٌ عَنْهُ عادِل  وَقَلْبي بِصَمْتي ضاحِكٌ مِنْهُ هازِل

ما أعجب هذا الكلام !

لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ يَحْمِلَ نَفْسَه عَلى مَدْحِ هذَا الْأَسْوَدِ الْخَصيِّ ؛ عَلَّه يُصيبُ عِنْدَه ما فاتَه عِنْدَ غَيْرِه مِنَ الْفُحولِ الْبيضِ !

أم السمر ؛ فالعرب سمر ، إلا أن يكونهم الشآميون !

أَفَتَظُنُّ هذا كانَ يَخْفى عَلَى " الْأُسْتاذِ " كافورٍ ، وَكانَ مِنْ عُلَماءِ عَصْرِه وَأُدَبائِهِمْ !

كان هذا لقبه " الأستاذ " ، الذي يدعى به .

انْظُرْ إِلى قَوْلِه : " مَكارِمِنا وَالْعُلا " ، أَتَكونُ مَكارِمُه وَالْعُلا هذِه هِيَ السِّقاءَةَ وَما إِلَيْها !

هي " السقاية " بالياء ، وإنما ينبغي التنبيه على الهمز في مثل " البداءة " !

مِصْرُ الْجَديدَةُ : 3 شارِعُ الشَّيْخِ حُسَيْنٍ الْمَرْصَفيِّ .

هنا التقينا كثيرا طوال تسع سنوات ، بعدما ترك شقته بشارع المنصورة التي ذكرها من قبل !

قالَ الرِّياشيُّ : وَكانَ الْفَرَزْدَقُ يَقولُ : " خَيْرُ السَّرِقَةِ ما لا يَجِبُ فيهِ الْقَطْعُ " ، يُريدُ سَرِقَةَ الشِّعْرِ ، لا يَجِبُ فيها قَطْعُ يَدِ السّارِقِ !

ومن قبل ما قال قريعه الأخطل : " نَحْنُ - مَعاشِرَ الشُّعَراءِ - أَسْرَقُ مِنَ الصّاغَةِ " !

إِنَّ الَّذي يَأْخُذُ مِنْ كِتابٍ قَدْ فَرَغَ النّاسُ مِنْ قِراءَتِه في فِبْرايِرَ سَنَةَ 1936 ، يَسْتَطيعُ الْوَقيعَةَ في كِتابٍ لَمْ يَفْرُغِ النّاسُ مِنْ قِراءَتِه بَعْدَ ، فَما بالُكَ فيما مَضى عَلَيْهِ بَعْضُ الْعامِ ، وَما مَضى عَلَيْهِ أَعْوامٌ !

أي الدكتور البيك !

إِنَّ جَمْعَ الْمُؤْتَلِفاتِ وَضَمَّ الْمُتَشابِهاتِ كُلًّا إِلى كُلٍّ ، هُوَ أَشَقُّ عَلَى الْقارِئِ وَأَحْرى أَنْ يَحْمِلَه عَلى سوءِ الظَّنِّ فيما نَكْتُبُ ؛ فَرُبَّما وَقَعَ أَحَدُ الْمُتَشابِهَيْن في أَوَّلِ الْكِتابِ وَالْآخَرُ في أَدْبارِه ، فَإِذا عَرَضْنا لِنَقْدِهِما مَعًا ، خُيِّلَ لِلْقارِئِ أَنَّنا لَمْ نُنْصِفِ الدُّكْتورَ طهَ ، إِذْ أَخَذْنا جُزْءًا مِنْ كَلامِه في بابٍ مِنَ الْأَبْوابِ ، وَتَرَكْنا سائِرَ الْبابِ ؛ فَلَعَلَّ في سائِرِه ما يُفَسِّرُ ذلِكَ ، أَوْ يُوَجِّهُه ، أَوْ يُحَدِّدُ الرَّأْيَ فيهِ ، وَيُقَرِّبُه إِلى جِهَةِ الصَّوابِ ، وَيَنْزِعُ بِنا إِلى جِهَةِ الْخَطَأِ وَالتَّحامُلِ . وَلَوْ فَعَلْنا ذلِكَ لَكانَتِ الْمَشَقَّةُ أَبْلَغَ ، وَالْجُهْدُ فِي الْحُكْمِ عَلَى النَّقْدِ أَشَدَّ وَأَصْعَبَ ؛ فَإِنَّ هذَا الْمَذْهَبَ فِي الْقَوْلِ يَقْتَضِي الْقارِئَ أَنْ يُلِمَّ وَهُوَ يَقْرَأُ ، بِأَطْرافِ الْكِتابِ كُلِّه عَلى مَعْنَى الْإِحاطَةِ ، مَعَ التَّنَبُّهِ السّابِقِ إِلَى الْخَطَأِ وَالتَّلْبيسِ وَالطَّفْرَةِ فِي الْكَلامِ - وَأَنْ يَكونَ قَدْ عَرَفَ مِثْلَ الَّذي عَرَفْنا مِنْ وَجْهِ التَّأْويلِ فِي الْفِكْرَةِ أَوِ الرَّأْيِ أَوِ الْمَذْهَبِ . فَهذا كَما تَرى لا يَسْتَطيعُه قارِئُ النَّقْدِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضيِّ .

بل قد آثر أستاذنا - رحمه الله ! - ما غيره أولى وأعلق بطرائق العلم !

كأنه بذلك آثر الراحة ، أو كره أن ينشط للكتاب كهذا النشاط !

والآخر أشبه !

قامَ مِنْ بَيْنِهِمْ رَجُلٌ غَيْرُ الدُّكْتورِ طهَ حُسَيْنْ بِكْ ، فَشَكَّ في نَسَبِ الْمُتَنَبّي ، أَفَيَحِلُّ لِصاحِبِ " مَذْهَبِ الشَّكِّ " ، أَلّا يَشُكَّ في نَسَبِ الْمُتَنَبّي حينَ يَتَكَلَّمُ عَنْهُ ؟ ساءَ ذلِكَ رَأْيًا !

بل قل : أفيحل لغير داعية الشك أن يشك ، أو أن يحمل عنه أنه شك قبله !

كانَ سَبَبَ هذِهِ الْفَعْلَةِ ، أَنَّ الدُّكْتورَ الْجَليلَ ، وَهُوَ صاحِبُ " مَذْهَبِ الشَّكِّ " ، الَّذي كانَ أَوَّلَ مَنِ " اصْطَنَعَه " حينَ أَلَّفَ كِتابَه " فِي الشِّعْرِ الْجاهِليِّ " - أَنِفَ لِنَفْسِه أَنْ يَسْبِقَه أَحَدٌ إِلَى الشَّكِّ في نَسَبِ الْمُتَنَبِّي الَّذي أَجْمَعَتِ الرِّوايَةُ عَلَى التَّسْليمِ بِه . وَما دُمْتُ أَنا قَدْ سَبَقْتُه إِلَيْهِ ، فَعَلى رَغْمي وَرَغْمِ التّاريخِ أَنْ يَكونَ هُوَ أَوْلى بِه مِنّي وَأَحَقَّ . وَإِذَنْ فَلْيُؤَلِّفْ كِتابًا ، وَلْيُسَمِّ هذَا الْكِتابَ " مَعَ الْمُتَنَبّي " ، وَلْيَشُكَّ في نَسَبِ الْمُتَنَبّي ، وَلْيَتَقَمَّمِ الْأَدِلَّةَ مِنْ هُنا وَمِنْ ثَمَّ ، مُحْتالًا عَلى تَلْبيسِها وَتَزْيينِها بِما أوتِيَ مِنْ حُسْنِ مَنْطِقٍ وَبَلاغَةٍ وَأُسْلوبٍ وَإِعْجازِ بَيانٍ ! وَلَوْ زَعَموا أَنَّ الْمَخيلَةَ تَقْتُلُ نَفْسَ الْخائِلِ ( الْمَخيلَةُ : الْخُيَلاءُ وَالْكِبْرُ إِعْجابًا بِالنَّفْسِ ) !

هذا ما اقترحته من قبل في سياقة السخرية ثَم !

ثم إن تركيب " ما دمت (...) فعلى رغمي (...) " ، تركيبَ الشرط - مما يستنكره متشددون ، وهو قليل .