المسجد الأقصى.. وصلاة الشاعر

المسجد الأقصى.. وصلاة الشاعر

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

كان الشاعر المصري محمود حسن إسماعيل ـ رحمه الله ـ من أقدر الشعراء وأنضجهم على الساحة المصرية والعربية، وعلى مدى ما يزيد على أربعين عامًا ـ ابتداء من الثلاثينيات ـ عاش يقدم للعربية عطاء شعريًّا قويًّا ثرارًا، وهو شاعر متفرد ذو طابع خاص، ونكهة متميزة، ففي أدائه التعبيري يستخدم لغة أصيلة جليلة، ويحتفل بموسيقاه بقدرة فائقة على تلوينها وتنويعها حتى في نطاق القصيدة الواحدة. وفي خياله يجنح إلى الابتكار والتركيب والتعمق، والإحاطة، والتوليد، واستنزاف جزئيات الصورة، في جو يهيمن عليه عبق صوفي أخاذ.

وقد ظفرت فلسطين بعدد كبير من قصائده توزعت في دواوينه المختلفة، ومن هذه الدواوين: هكذا أغني ـ ديوان الملك ـ نار وأصفاد ـ لا بد ـ التائهون ـ قاب قوسين. وهو في قصائده يعيش ـ بأسلوبه المتفرد ـ مأساة اللاجئين، والقدس، والمسجد الأقصى الأسير، ويحمل على سياسة البغي، والنهب، والعدوان التي يتبعها الصهاينة، والدول والحكومات التي تساندهم.

ونقدم في هذه الصفحات قصيدة له بعنوان "وجئت أصلي" نظمها الشاعر بعد أن قامت إسرائيل بحرق المسجد الأقصى في 21 من أغسطس سنة 1969م.

* * *

يستهل الشاعر محمود حسن إسماعيل قصيدته "بانطلاقة روحية نفسية مسكونة بالتحدي". وهذا التحدي يتمثل في إصرار الشاعر على الصلاة في المسجد الأقصى على الرغم من حرقه، وعلى الرغم من الأخطار التي فرضها الصهاينة على "من يصلي"، أو يحاول الوصول إلى المسجد، إنه قرار اتخذه الشاعر بالصلاة، وهو قرار يؤكده الشاعر بالتكرار الحاسم في الاستهلال، وفي تضاعيف القصيدة أكثر من عشر مرات متفرقة:

 وجئت أصلي ـ أتيتُ أصلي.

 ومن مظاهر هذا "الإصرار الحاسم" الاستهانة بالأخطار، والموانع، والمعوقات التي ألمح إليها الشاعر بالصورة الجزئية الآتية: اندلاع الدجى ـ الأعاصير ـ احتراق الدروب ـ نهش الخطوب ـ اندفاع الذئاب ـ الشياطين العاوية ـ النار ـ الرزايا ـ السدود ـ القيود.

وجئتُ أصلي

ورغمِ اندلاع الدجى، كالبراكين حولي

ورغمَ الأعاصير ترمي خطاها بسفحي وجرحي

وساحات هولي

أتيتُ أصلي

ورغم احتراق الدروب

ونهش الخطوب، لحبَّات قلبي ورملي،

أتيتُ أصلي

ورغم اندفاع الذئاب، على كل باب

به حسرة من شرايين أهلي

ورغم الشياطين تعوي بغيظي وشجْوي

وبالنار تشوي، وتكوي مزاميرَ خطْوِي

.. ورغم الرزايا .. وتجوالها في خميلي وأيْكي

وعشبي، وسهلي

وليل المنايا على راحتيها

يزمزم كالجن خلف جنازات شُكْلي

* * *

وعرض الشاعر لهذه الأخطار يحمل دلالتين:

الدلالة الأولى: دلالة نفسية تتمثل في الإصرار والقوة الذاتية التي قادت الشاعر إلى الغلبة، وتخطي العقبات على حد قوله:

دهسْتُ السدود

ودسْتُ القيود

وجزْتُ الحدود

وجئت أصلي..

أما الدلالة الثانية: فهي دلالة سياسية قانونية، تتمثل في إدانة العدو الصهيوني بالظلم، والتعسف والإجرام. فالظفر بالصلاة لم يتحقق للشاعر إلا بعد معاناة قاسية انتصر فيها الشاعر بإيمانه، وإصراره، فدهس السدود، وداس القيود، وجاز الحدود.

 وكان لا بد للشاعر ـ حتى يكون على مستوى هذا النصر الروحي ـ أن يقوم بعملية تطهير ذاتية داخلية تستمد طاقتها الحيوية من الفوْقي الأعلى، فهي عملية انسلاخ من الطيني المرذول المضعوف، والتلبس بالمثالي القدير المنصور:

وفجَّرتُ ذاتي لهيبًا جديدًا

يمزّق أغلالَ رقي وذلي

...

ولكن صوتًا خفيًّا من الله يُمْلي

...

لأحيا جديد الحياة

جديد الصلاة

جديد التجلي.

* * *

ويعد هذا التهيؤ بالانسلاخ من الأرضي الطيني، وامتلاء الذات بطاقات العلوي الطهور، يرتفع الشاعر إلى مقام من الوجد الصوفي النوراني، ذي عبق معراجي فواح، بين يدي الجلال اللامتناهي، على مشهد من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحب الإسراء والمعراج، وشخصيات عظيمة شامخة حققت النصر، وأرست قواعد الحق والعدل والإيمان:

فنورٌ ينادي

ونور يلبي

ونور يعانقه المشرقان

ومن قاب قوسين

راحت تضيء جبينَ السما هالتان

وكاد الذي لا تراه العيون

يراه محمدُ رؤيا عَيان

وجاءت معي من يد الأنبياء

مصابيحُ مبهورة في الضياء

وجاءت حروف الهدى تستجير

وتلعن مَنْ مَسَّ قدس البناء

وجاءت خطا عمر

والوجود على سيفها مستطير المضاء

وجاءت تزمجر دنيا صلاح

وتعصف مشدوهةً في إباء

وجاءت لجالوتَ عين تطلّ

وتزْوَرّ من هولِ هذا اللقاء.

* * *

 وهذا الاستدعاء للترائي المنتصر المشهور برجاله العظماء الفاتحين: محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومنه كان المعراج إلى الملأ الأعلى، وعمر بن الخطاب، فاتح فلسطين، وصلاح الدين الأيوبي بطل حطين، ومحرر بيت المقدس، وسيف الدين قطز بطل عين جالوت، وماحق التتار.. هذا الاستدعاء للتراثي يمثل وثيقة تاريخية تثبت أصالة "الاستحقاق".. استحقاق الأرض.. والمسجد .. والهوية .. وصادق الانتماء.

 ومن ثم كان من الطبيعي أن ينتقل الشاعر بعدها إلى المرحلة الثانية من "الانطلاقة إلى الصلاة"، وهي مرحلة التحول من "الأنا" إلى "النحن"؛ فبعد أن كانت العبارة المحورية "جئت أصلي" ـ "أتيت أصلي"، أصبحتْ "أتينا جميعًا نصلي". وكانت النقلة طبيعية، خالية من الافتعال، فهي لم تأت إلا بعد تهيؤ نفسي روحي عتيد، دعَّمه ورسَّخه المستدْعَى التاريخي المنصور الجليل، وهو مستدعَى وثيق الصلة "بمنطقة الصلاة"، ومسرح الأحداث.

* * *

وكان من السهل على الشاعر أن ينهي هذه الرحلة، أو هذه الانطلاقة بأداء الصلاة، على نهج شعراء المباشرية والتسطيح، ولكن الشاعر ضم إلى حيثية "الاستحقاق" التاريخية، حيثية أخرى واقعية آنية اختار لعرضها آلية فنية راقية هي "المفارقة التصويرية" المتمثلة في "عرض الأضداد" متجاورة متواجهة. والمفارقة، أو تقابل الأضداد في القصيدة يظهر في صورة ما كان، وهو ما يجب أن يستمر ويدوم ويمتد، وصورة ما هو كائن مشهود، وهو في ذاته عدواني منكود، يعارض قيم الحق، والحرية، والجمال. وهذا التقابل المقصود يرفع من قيمة الإنساني الجليل، ويزيد من بشاعة العدواني الأثيم، فبضدها تتميز الأشياء:

أتينا جميعًا نصلي

وما كاد يُفتح للنور بابْ

ويومض للخطو حزن الترابْ

وقفنا .. وكادت خطانا تشل بأعتابِه

وكادت رؤانا تغل على بابه

وكدنا نحسُّ

بأنا بأرض ضللنا إليها طريق الصلاه

وأنا اتجهنا إلى ساحة

لها نسَبٌ بفجور العصاهْ

وحاشا .. وحاشا .. لبيت الإله!!

... وجدنا الصلاة.

بغايا من الشر ترقص فوق الحريقْ

وجدنا الأذان

شياطينَ لغو.. تهاتَرُ بالإثم عبْر الطريقْ

وجدنا المصلى

ميادينَ لهوٍ.. تخاصرَ فيها الخنا والفسوقْ

وجدنا الحمام الذي كان يصغي

لصوت الحواميم يخْضرّ منه السكون العريقْ

.. ويهدل بالطهر نشوان

يشرب من كل حرف، خشوعَ الرحيق:

ذبيحَ الأمانِ.. جريح المكانِ

يولولُ في صمته لا يفيقْ

وجدنا الترابَ الذي فيه صلى "محمد"

حريقا .. به لعنة الله ترغي.. وتزبدْ!!

وجدنا المنابرَ

تحكي مجازر للطهر مخنوقةً في العروقْ

* * *

ولكن هذه الصدمة العاتية، وهذه الفجيعة المتمثلة في تحول الواقع المجيد ـ وهو إرث جليل ـ إلى واقع مشوه منكود بعدوان أثيم.. هذه الصدمة لم تنل من "إصرار الشاعر على الصلاة" بل أتت بنتيجة عكسية تمثلت في المظاهر الثلاثة الآتية:

الأول: أن الشاعر لم يعد "ذاتًا مفردة"، ولكنه تحول إلى "ذات جمعية" فحلت الـ "نحن" الجمعية، محل الـ "أنا" الفردية، وتحولت "أتيت أصلي" إلى "أتينا جميعًا نصلي".

الثانية ارتفاع نبرة الإصرار حتى لو ارتكب الأعداء ما هو أبشع وأمرّ، وأعتى مما ارتكب، "فهدمت كل القباب": و "باتت مآذنها أذرعًا لطغاة الخراب" وانتشر الموت الزؤام في كل مكان.

الثالث: الخلوص من الروحي التعبدي إلى العملي الجهادي، وهو الوجه الآخر لنسيج شخصية المسلم التي لا تتكامل إلا بالجمع بين "العبادي" و "العملي" بين "الروحي" و "السلوكي". وذلك حتى يسترد الواقع المشوه المسحوق وجهه البهي الجليل، ولتحقيق هذا الهدف علينا أن نؤدي: الصلاة الغضب.. الصلاة الزحف.. الصلاة الثأر. وإلا كانت الطاقة الروحية التي تشبعت بها النفس، وامتلأ بها القلب هواء وهباء:

من الدم والعظْمِ نُعْلي ذُراها

من الروح نُرجع للأفق أعتى نداها

بيوم سيزحف بالقادسيةْ

وبالغضب الحرّ في كل نفس أبيةْ

وبالثأر.. وهْوَ الصلاة الزكية

وصوت الإله إلى كل نفس تقيةْ

بها يُعْجل النصرَ.. جمعُ الصفوف

وإصرارها .. في صمود الوقوف

فهيا .. إلى الثأر .. من كل سفح وسهل

وهيا .. وهيا ..

إلى المسجد القدس ..

جمْعا .. نصلي

* * *

وهذا هو الطريق .. الطريق الوحيد القويم إلى تحقيق الذات.. والخلاص.. والحرية.. والحياة. رحم الله محمود حسن إسماعيل.