"العربفونية" مشروع وجود ومصير

في ظل العولمة الثقافية:

"العربفونية" مشروع وجود ومصير

أ.د. ناصر أحمد سنه - كاتب وأكاديمي من مصر

E.mail:[email protected]

الشكرُ موصول للسيد أ. د. "سليمان العسكري" رئيس تحرير مجلتنا "العربي" الكويتية الغراء، علي افتتاحياته الماتعة، وأحاديثه الشهرية الشائقة.. ثرية المضمون، مثيرة الشجون، باعثة علي التأمل والتفكير، ومن ثم التواصل والتعقيب. ففي افتتاحية مسك ختام أعداد العام الماضي (العدد: 613- ديسمبر 2009) والموسومة:"العربفونية في عصر العولمة" طرح سيادته موضوعاً لطالما بادر إليه، وألح عليه، وحمل عبء النهوض به، بينما عبئه وثقله تنوء به حكومات ومؤسسات، لكن هذا قدر الأقلام الكبيرة السامقة. جاءت الافتتاحية طارحة الموضوع ضمن رؤية مستقبلية ومؤسسية، ومبادرة عملية، ومقارنات منهجية، وأسس موضوعية وواقعية، وتحفيزا لاستعادة لسان شبابنا لحظيرة لغتهم الأم، تعبيراً عن الهوية اللغوية في عصر العولمة الثقافية. يسبق كل هذا وغيره تأكيده علي الوعي بقيمة لغتنا العربية، وتراثنا الثقافي والحضاري. حقاً إنها قضايا تستحق التوقف عندها ملياً، بيد أن السطور القادمة تشير ـ في عجالةـ مؤكدة علي أمور منها:

- اللغة حياة، وحياتنا لغة، ولغتنا العربية لغة حية.. تأثيرا وتأثراً. هي مجدُنـا وشرفنا، رمز الأمة وسمتُها المعبر عن ذاتها وثقافتها وحضارتها.. ديوان آدابها، ووعاء علومها، وترجمان أفكارنا ومشاعرنا، ووسيلة تحصيل معرفتنا وخبرتنا، وسبيل تواصلنا واجتماعنا.. فلا تستقيم حياتنا وثقافتنا وفهمنا لتراثنا إلا بها.. شَرُفنا بالنطق بها، والانتساب لها، وكفي أن الله تعالي شرّفها فجعلها لغة قرآنه الخالد، فهي باقية ببقائه، محفوظة بحفظه:"كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" (فصلت:3)،"وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا.." (طه:113)،:"بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" (الشعراء:195).

- علي الرغم من ذلك فبين حين وآخر ترتفع أصوات، وأحيانا صرخات، تشكو ما تزعم أنه صعوبةٌ قواعد نحوها وصرفها، ومناهج تعليمها وتعلمها، مما يبرر ـ برأيهاـ الضعف البادي في طرائق التواصل بها.. تحدثاً وقراءة وكتابة. كما تنطلق حملات (داخلية وخارجية) تستهدف وجودها ومكانتها عند الجماهير، لصالح تنامي توظيف/ استثمار/ سيطرة/ هيمنة اللغات الأجنبية وترويج أهميتها خاصة في السنوات الأولى من التعليم، مما سيغيب هوية أبنائنا. لذا نجد من يتجرأ عليها من الدخلاء، ومن يستخف بها من الجهلاء، ومن يُحرّض عليها من الأعداء، ليصد عنها الأبناء، مدعياً كذبا وزورا:"عجزها عن مسايرة ركب التقدم والتطور .. والعولمة اللغوية"، و"عقمها عن التواصل مع روح العصر، وتطور العلوم". مع بعث الإحساس "بالهزيمة النفسية" لدى مستخدميها عبر إشاعة أنها "لغة متحفية أو ظاهرة أنثروبولوجية ، لا لغة علم وتطور وحضارة وعقيدة. ولله در شاعر النيل "حافظ إبراهيم" يرد ـ قديماً/ حديثاًـ علي هؤلاء وأولئك في رائعته: "اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها":

رموني بعقم في الشبـاب وليتني         عقمت فلم أجزع لقول عُداتيِ.

ولدت ولما لم أجــد لعرائسي           رجالاً أكفاءً وأدت بنـــاتيِ.

وسعت كتــاب الله لفظاً وغايةَ          وما ضقتُ عن آيٍ به وعظاتِ.

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةِ             وتنسيق أسماء لمخترعاتِ.

أنا البحرُ في أحشائه الدُر كـامنٌ        فهل سَأَلوا الغوًّاص عن صدفاتيِ.

- لغتنا العربية من أغزر اللغات مادة، وأطوعها تأليفاً، وأيسرها نهجاً في التعليم والتعلم، يتم تعلمها استماعاً واستعمالاً، قراءة وتخاطبا، فتصير لساناً عربياً فصيحاً. هي كلٌ متكامل، إرث ثمين لنا، كما كانت ملكاً لأسلافنا، وهي عصّية علي العقم والجمود، لكن ينبغي التصرف بها ومعالجتها تصرف العاقل الواعي المحب المخلص، بلا مسخ لها أو تبديل لهويتها أو حَجر علي مستخدميها، أو قتل لها بالتشدد والجمود تارة، أو بالتحنيط والجحود أخري، أو بالتراخي والإهمال.. وتلك ثالثة الأثافي.

فلا تكلوني للزمـــان فإنني        أخاف عليكم أن تحين وفاتي.

أري لرجال الغرب عزا ومنعة        وكم عــز أقوام بعز لغاتِ.

- ينبغي التأكيد دوماً أن العرب، ووحدتهم الثقافية، نابعة من لغة واحدة توحدهم، لا عاميات تشتتهم وتشرذمهم. والمخلصون للعربية ومحبوها ـ وهم كثير كثير ـ يرون أن تقويم العامية وألفاظها وردها إلي السليم الصحيح الفصيح من العربية لهي من المهام الملحة والعاجلة والهامة، ذلك لأن العامية اليوم تًدّون، ولها أتباع يدعون إليها وينادون بها ويكرسونها. كما أنها ظلت وستظل تُذكر الكون ـ وبخاصة زمن العولمةـ  بوجود هذه الأمة العربية بتاريخها وفكرها، وتراثها، وعقيدتها ومعتقداتها، وحضارتها.

- هذه الأدوار الذي قامت وستقوم بها لغتنا العربية، لن تفرض تأثيرها "العالمي" ما لم تكن هناك استمرارية في الحفاظ على خصائصها ومقوماتها ومميزاتها، مع استثمار ما في أحشائها من درر نفيسة. أدوار ملقاة على كاهل الجميع بدءا بأعلى المجامع اللغوية والهيئات والمنظمات الثقافية والإعلامية والرسمية وانتهاء بخادميها من أدباء وشعراء وباحثين وناشرين.. ومُحبين.

- إن تقويم لفظ، وتدقيق أسلوب، وإزالة لبس، ونحت مصطلح، وتيسير قاعدة نحو أو صرف.. هو في شرف اللغة العربية الفصحى ليس بالشيء الكبير. ويبقي أن إحياء الألفاظ، واستعمال الكلمات، وغزارة المواد، وتنوع الألفاظ، وسعة التداول، وتوظيف التراكيب، وإنشاء المعاني، ورصانة الاستعمال، وبلاغة النص، وتنويع البديع، وبراعة اللسان.. هو التملًك الحقيقي لثروتنا اللغوية، وواجبنا "المقدس" نحوها.

- ينبغي بذل المزيد من الجهود لجعل لغتنا العربية لغة للإبداع العلمي والتقني والثقافي والإعلامي والفني المتطور، وذلك بإخضاعها للإنتاج والمردودية بالممارسة في مجال الترجمة والتعريب والمصطلح وإخضاع تكنولوجيا المعلوماتية لّلغة العربية.. صرفاً ونحواً وتركيباً وذلك عن طريق المعالجة الحاسوبية. وحسناً الجهود الأخيرة المُقدرة، والتي يؤمها منذ زمن د."نبيل علي" وأمثاله في "اللسانيات الحاسوبية" التي من شأنها إحداث التواصل بين البرامج والعامة.

- إن التطرق إلى مشكلات دراسة وتدريس اللغة كأداة ثقافية وحضارية عصرية، لا يجب أن يتوقف عند حدود التشخيص والتحليل، بل يجب تجاوز ذلك بالعمل في الجانب التجسيدي للنتائج، لأن المشاكل التي تواجه اللغة العربية ومن أعقدها العولمة اللغوية تحتاج إلي جهود عملية مجسدة واقعيا، حتى يتسنى لنا مواجهة هذه العولمة بآفاقها الخطيرة في السيطرة على العالم كله.

- لعل"الصراع اللغوي/ العولمي" هو "نزاع وجودي/ لا حدودي" تسعى فيه "اللغة القوية/الغالبة/ المُنتجة للمعرفة/ الممتلكة للمقومات"، بمزاحمة اللغة الأم وتحقيق السيطرة والغلبة بكافة الطرق والأساليب.. تسللاً إلى حياة الناس وعقولهم ووجدانهم.. حتي أسماء محالهم التجارية. وإذا كانت اللغة الفرنسية ـ علي سبيل المثال ـ قد فشلت في صراعها مع العربية (طيلة نحو 130 عاما من الاستعمار) في الجزائر فإن "اللغة العولمية" قد تفعل فعلها بما تملكه من قوة مصالح، وقوي متنفذة، وبُني علمية وتقنية (كالانترنت) التي تعمل على ترويج الأفكار والثقافات باعتبارها سلعا كغيرها تدخل مجال المنافسة (غير المتكافئة)، من أجل خدمة "ثقافة واحدة"، مما يصب في صالح مصادرة الهويات اللغوية، وضعضعة مكانها ومكانتها.

لذا تأتي رؤية السيد رئيس تحرير أ.د. "سليمان العسكري" ـ بعيدا عن نظرة التشاؤم، أو نظرية التأمر"ـ لتستحق الإشادة والتقدير. كما تستلزم رص الصفوف، وتضافر الجهود كي تتحقق تلك المبادرة "العربفونية" واقعاً معيشاً.. فهي ـ من قبل ومن بعدـ مشروع وجود ومصير في آن معاً. وسلام علي المُخلصين، وعلي "شاعر النيل" "حافظ إبراهيم":

إلي معشر الكتاب، والجمعُ حافل     بسطتُ رجائي، بعد بسط شكاتي.

فإما حياة تبعث الميتَ في البِلي      وتُنبت في تلك الرموس رُفاتي.

وإما ممات لا قيامه بعـــده        ممات لعمري لم يُقس بمَماتِ.