جابر قميحة إذ يغنّي
أ.د/ جابر قميحة |
د. نهى الزيني |
إن الكلمة عِرْضُ الشاعر
فإذا مالت ...
نحو الدرك الأدنى السافل
في مستنقع مدح داعر
لنفاق السلطان الجائر
كانت لعنة ..
تطرد صاحبها مذموماً
من فردوس الله الأعظم
هكذا يرى الأستاذ الدكتور جابر قميحة الكلمة ! إنها بحق عرض القائل .. عرض الشاعر، فلينظر أين يضعها وكيف يؤديها فتستقيم على الدرب ، وهكذا صان أستاذنا عرضه/كلمته طوال حياته فما مالت عن الحق ولاتلكأت في دروب الغواية تتزين وتتزلف لكل ذي سلطان ، ولا قبلت بحلول الوسط المائعة التي تتسول الرضا من جميع الأطراف ، ولا خرجت يوماً عن النهج تتسكع في الطرقات تستعرض فتنتها لكل غاد ورائح ، بل لزمت السبيل الشاق قابضة على جمار الحق حتى تؤدي رسالتها كاملة ، فتمضي في شموخ كشموخ صاحبها ، لا تستجدي مدحاً ولاتهليلا ولو كانت جديرة به ولاتنتظر أجراً إلا ممن ارتضته رباً وارتضت دينه القويم منهجاً كاملاً لحياتها .
ولأن الفتنة وإن احتجبت فلابد أن تتسلل أشعة ضيائها فتبدد الظلام ، ولأن أديبنا الكبير يحمل بين جوانحه قلب شاعر رقيق محب طروب ، كان لابد أن تصلنا منه على البعد أصداء موسيقى عذبة متناغمة مع الكون الذي أفاض خالقه سبحانه عليه من فيوضات جماله ، ومتسقة مع الفطرة السليمة التي فطر تعالى خلقه عليها ومتصالحة مع المنهج القويم الذي ارتضاه لعباده الصالحين ، وهكذا صدح فشنف آذاننا وأبهج نفوسنا وأيقظ قلوبنا الغفلى ، ذاك الشدو العذب الذي انبعث ناعماً رقيقاً حاسماً قوياً متفجراً بأرقى المعاني من ديوانه البديع الذي اختار له عنواناً يعبر بصدق عن مضمونه "لجهاد الأفغان أغني" والذي كان جديراً – لتفرده – بأن يتصدر الجزء الأول من مجموعة أعماله الشعرية والمسرحية الصادرة حديثاً عن مركز الإعلام العربي في طبعة أنيقة فاخرة . .
يصّدر الدكتور جابر قميحة ديوانه القيم بإهداء ذي دلالة إلى : "شهيد الإسلام وشهيد الجهاد الأفغاني الدكتور عبد الله عزام" ، ووعياً منه بالدور العظيم الرائد الذي قام به المناضل الشهيد فقد آثر أن يستهل الديوان بمقدمة عنوانها "هكذا عرفت عبد الله عزام" ، ومن ثم يعرض لنا بعض جوانب تلك الشخصية الإسلامية الفذة من خلال عدة مواقف إنسانية جمعت بين الرجلين إبان عملهما معاً في الجامعة الإسلامية بإسلام أباد في الفترة من 1984 حتى 1989م قبل أن يترك المناضل الشهيد الجامعة ليتفرغ تماماً للعمل الجهادي في أفغانستان ، تلك المواقف التي تكشف لنا عن مزيد من دلائل نبل الشخصية ورقيها ومقدرتها الفائقة على إيقاظ الضمائر وتأجيج المشاعر لتلتف حول القضية التي آمن بها ووهبها حياته مخلصاً في سبيل الله ، ذلك الإيمان الصادق بقضيته الكبرى هو الذي أيقظ في أديبنا روح الشاعر من جديد ، بعد أن كادت تخبو بانشغالات الحياة فكانت على حد تعبيره "المثير" و"المصدر الأصيل" الذي استقى منه قصائد ديوانه ، فانبجست من أعماقه عيون الشعر عذبة تروينا .. تطربنا وتشجينا ، وتشد على أيدينا وتذكرنا بأن الإيمان والعمل يحققان المستحيل ، ولتبقى هذه القصائد – وسط طغمة الظلام الجاثمة على العالم – نوراً يتلألأ ودليلاً باقياً على مرحلة نبيلة – غاية النبل – من مراحل تاريخنا المعاصر .
يضم الديوان إحدى عشرة قصيدة نظمها جميعاً خلال إقامته في باكستان عدا قصيدتين : "الفارس الذي صعد" ، و"نداء عاجل إلى قادة الجهاد" ، أما درة عقد القصائد – في رأيي – فهي تلك التي تصدرت الديوان ومنحته اسمها "لجهاد الأفغان أغني" وفيها يقول :
لجهاد الأفغان أُغنّي
للشعب الزاحف
كيما يطلع فجر الحق
أغنّي ..
لكتائب حول جلال أباد
أو كابُل
تنقضّ كبركان عاتٍ
أشدو وأغنّي
لفيالق .. خاصمت النوم
لتزحف في إصرار ناري
تصدح قيثاري ..
وتغنّي ..
تبدو التجربة الشعورية أو "المثير" كما عبر عنها الشاعر واضحة جلية في الأبيات السابقة، فالذي أثار انفعالاته هو ذلك الصمود وتلك القوة المدججة بسهام الحق المضمخة بعبق التضحيات التي وسمت تجربة الجهاد الأفغاني فأحالتها رمزاً فواحاً بالمثل العليا انتشت بعبيرها أجيال عاصرتها ، فاستفاق لها شباب مؤمن تقاطر من شتى جنبات الأرض ملبياً النداء متشبثاً بذروة سنام الإسلام ، وتركت بصماتها غائرة في ضمير كل مبدع رساليّ ومنهم شاعرنا الذي عايش التجربة عن قرب وانفعل بها إلى حد التوهج مما دفعه دفعاً لأن يعبر عنها شعراً ، وماكان في إمكانه ألا يفعل وماكان في وسعه أن يعبر بأداة أخرى عما جاش به صدره حيث وصل به الانفعال الشعوري بذلك المثير إلى درجة الاستدعاء القسري للإيقاع الشعري وللصور الشعرية التي تستمد روعتها من مخزون موهبة متفردة ، ومن اتساع تجربة نابضة بالحياة فانطلقت هادرة مجتاحة في طريقها الزيف والتشويه وكيد العدو وظلم ذي القربى جميعا ..
أنا عشت لقلمي شاعرْ
عشت لقلمي ..
ليس بقلمي
عشت عزيز النفس أبياً
عاتي الضرم
حتى في ظلمات الألم
عشت أنيسي صوت الله
من عزته أجني الجاه
وبإحساسي وبأعماقي
كنت أراه
وهكذا يسيطر "المثير" النبيل على روح شاعرنا فيستخرج من أعماقه أنبل مافيها – تلك العزة بالإيمان التي تميز بين "الشاعر" و"الداعر" – حيث يتعرف الشاعر على ذاته في ضوء التجربة فيتقاطر على لسانه خصب المعاني مستدعيا المزيد والمزيد من صور الرفعة والشموخ الذي يصل لذروته مع الانتشاء الكامل بحالة الاستغناء عن الخلق :
فلتمدحني
أو تلعنّي
أو حتى تتبرأ مني
لستُ أبالي ..
فأنا قد عاهدت ضميري
وأذان البيت المعمور
وغصون الشجر الزيتون
ودموع الشعب المطحون
سأظل بروحي وبفني
لجهاد الأفغان أغنّي
وتتبدى في هذه القصيدة بشكل واضح خصيصة الشعر كأداة تعبيرعن الانفعال الداخلي للشاعر بالصورة الحية "المثير" بغض النظر عن الطبيعة المجردة للصورة ذاتها ، فالعمل الجهادي كما يبدو ظاهرياً هو عمل قتالي قد يستثير دواعي المجد والفخار أو الحزن والألم أو الصبر والثبات ، لكنه في كل الأحوال لايبدو دافعاً على الشدو والغناء ، غير أن انفعال شاعرنا المبدع بالتجربة كان مختلفاً ، فلقد استلبت عواطفه وسمت بروحه إلى حد الانفصال عن الواقع الأرضي والانطلاق في فضاء روحاني فسيح فطفق منشداً :
وبإحساسي وبأعماقي
كنت أراه
فأناديه
وأناجيه
وأسير بركب حوارييه
وأعطر جبهتي الحرة
بركوع .. وسجود خاشع
في محراب جلال الله
وفيوض من نور ساطع ..
ملأ الأرض ..
وملأ سماه
لكنه وهو على هذه الحال من الوجد لايغفل عن ذاته ولاينسى حقيقة أنه كاتب رساليّ له دور في ميدان الجهاد يؤديه ولايناقض ماسبق ، وأن قراره في قصيدته البديعة بأن " الكلمة عِرْضُ الشاعر" فنراه يصل إلى مقطعها الأخير في إيقاع متسارع وبضربات متتابعة ذات صرامة للتأكيد على موقفه المنحاز للحق وحده :
كلماتي ستكون سلاحا
كالسيف البتار القاصم
وتفيض سعيراً لا يُبقي
أثراً للملحد والظالم
ومن ثم ترق حواشيه تجاه التجربة التي استلبت منه المشاعر والأحاسيس فيختم قصيدته بذلك الإيقاع الرائق الذي يتكرر على طول القصيدة كلها :
وسأبقى ليلي ونهاري
لجهاد الأفغان أغنّي
**********
يستخدم الدكتور جابر قميحة في ديوانه شعر التفعيلة في ستة قصائد ، ثم يعاوده الحنين إلى الشكل التقليدي للقصيدة العربية ذات الشطرين فينظم على نهجها خمس قصائد هي : "نشيد الزحف الأفغاني" ، "نشيد يوم الدم" ، "نشيد ريح الجنة" ، "أبطال الجهاد الأفغاني" ثم "نداء عاجل إلى قادة الجهاد الأفغاني" ، وربما كان في المقارنة بين أبيات متقاربة المعنى من قصيدتيه "لجهاد الأفغان أغنّي" ، "نشيد الزحف الأفغاني" مايغنينا عن التدليل على قدرة قصيدة التفعيلة على التعبير عن انفعال الشاعر المعاصر – بشرط أن تتوافر لديه الكفاءة الإيقاعية – بالتجربة الحية المنبثقة من الواقع الملامس له وصلاحيتها لإخراج انفعالاته الشعورية في دفقات متحررة من قيود النظم التقليدي ، فبينما نسمعه في قصيدته الأولى ينطلق مغرداً بإيقاعات موسيقية حرة شجية موحية مؤثرة :
لجهاد الأفغان أُغنّي
للشعب الزاحف
كيما يطلع فجر الحق
أغنّي ..
لكتائب حول جلال أباد
أو كابُل
تنقضّ كبركان عاتٍ
أشدو وأغنّي
لفيالق .. خاصمت النوم
لتزحف في إصرار ناري
تصدح قيثاري ..
وتغنّي ..
نراه في "نشيد الزحف الأفغاني" وقد انسحب من فوق مسرح الشدو والغناء ليقف على منصة الأستاذ ملوحاً بعصاه هاتفاً في فخر وتشجيع :
إلـى كابل ياجنود الرسول إلـى كابل كي تفكوا الحديد ويـسحق ليل الأسى والعبيد فـتزهر كل الربى والحقول | وخلوا السيوف تصول تجول عن الشعب هذا الأبي العنيد ويـشرق نور الكتاب المجيد إلـى كـابل ياجنود الرسول |
وهو على تلك الحال لايغني بحال بل ينظم الشعر في تمكن واثق وعلى خطو مرسوم يحث المجاهدين ، ويصاحب مسيرتهم الظافرة ويمجد تجربتهم النبيلة ، بل ويشتبك معها في بعض الأحيان لكن دون أن ينصهر فيها على نحو مافعل في قصيدته الأولى التي نقلت التجربة طازجة ندية إلى إحساس المتلقي فجعلته يتوحد شعورياً معها وإذ ذاك طفق ينشد مع الشاعر ولبطولات المجاهدين يطرب ويغني .
وإليك مقارنة أخرى بين قصيدته الغنائية الرائعة "الموت ولا العار" التي تصور موقف زوج مجاهد تتشبث به زوجته الحامل ليبقى بجانبها ويترك القتال من أجل وليده المرتقب ، فتنساب على لسانه معاني استصغار زينة الحياة الدنيا والتطلع لمنزلة الشهادة في أبيات عذبة صادقة موحية وهو يقول :
لاتقولي لي جنيني ..
واتركيني ..
إن من يخدش ديني
ويقيني ..
مثل من يسحق قلبي
مثل من يقطع
بالسيف وتيني ..
عندها ...
ليس إلا المدفع الهدّار
يزهو غضبا
ليس إلا أن أدكّ الغاصبا
ليس إلا أن تموج الأرضُ
من فيض المنايا
وأروّيها دمايا
فأين هذا الموقف التمثيلي النابض بالحياة من أبيات أخرى في قصيدة "نشيد يوم الدم" يقول فيها :
تـقدموا .. ولـن يكون مسلما مـاذل قوم جاهدوا حياتهم ساحُ الوغَى | تقدموافـاليوم يومك يادمُ من ينحني أو يُحجمُ وسـيـفُهم لايُغمدُ ومصحفٌ ومسجدُ |
وهنا نجد الشاعر قد اختار النظم التقليدي للقصيدة فانطلقت المعاني صاخبة مدوية تصك الأسماع .. تؤجج المشاعر .. تحث على معالي الأمور ، لكنها أبداً لاتصنع ذلك الجو الدافئ الذي أوجدته القصيدة الأولى وهو الدفء الذي يتسلل إلى أوصال المتلقي فيستبقي المعاني حاضرة في مخيلته مصحوبة بذلك الإيقاع الموسيقي العذب الذي يساعد على إبراز الصور الإنسانية للمجاهدين فتظل ذكراهم ماثلة في الأذهان حاضرة في الوجدان حتى بعد زوال التأثير الوقتي الانفعالي للموقف .
غير أن المقارنة بين القالبين من الشعر لاتعني أبداً أنني أرى أنه كان على الشاعر أن يختار أحد النوعين للتعبير عن تجربته الشعورية ، ذلك ان حالته النفسية ومدى تأثره بالتجربة لحظة الإبداع هي وحدها التي تحدد اختياراته دون تدخل منه أو تفضيل ودون أن يكون لإرادته أي دور في هذه الاختيارات – وتلك إحدى خصائص الإبداع الشعري – وإنما قصدت بالمقارنة الإشارة إلى تفاوت قصائد الديوان في قيمتها الفنية الذي يرجع في اعتقادي إلى التلاقي بين لحظة الإبداع ولحظة التفاعل مع المؤثر الخارجي التي تمنحه تلك القوة والتلقائية والجمال ، وإلا فإن أديبنا الكبير يظل في كل الأحوال شاعراً مبدعاً رسالياً وإن لم يكن في كل الأحوال شاعراً غنائياً على نحو مايوحي به عنوان الديوان . .
**********
تنساب قصائد التفعيلة حرة طليقة على طول الديوان لتقدم لنا شهادة حية نابضة على ملحمة الجهاد الأفغاني العظيمة بتفاصيلها المفعمة بالبطولة وبالتجربة الإنسانية في ذروة مجدها ، ومن ذلك تمجيده لواقعتي استشهاد اثنين من المجاهدين الشباب : الأول طالب علم تركي يُدعى "تكنر طيفور" سجّل قصته في قصيدة بديعة بعنوان "رحيل من غير وداع" تندفق أبياتها بنغم عذب شجي يترك القلوب حيرى والعيون دامعة والنفوس متطلعة إلى ذرا المعالي ، ومنها هذه الأبيات المعبرة أيما تعبير :
لم تحضر أمُك ياولدي ...
مشهد رحلتك الأبدية
تحملك الأيدي ياولدي ..
جسداً فضياً ..
وسريّا ..
كفّنه الدم ..
هل مازالت أمك ياولدي
تتهجد في جوف الليل وتدعو
"بارك ياربي ولدي تكنر
وامنحه النعمة والصحة
ياذا الفضل
واجعله على قمة من ينجح
من طلاب الفصل"
هل مازالت أمك ياولدي
تحلم بالمستقبل مجداً
للإبن الغائب في حب العلم ؟
أما الشاب الثاني فهو من أثرياء السعودية ترك مباهج الدنيا مفضلاً الجهاد في أفغانستان حتى لقى ربه شهيداً ، وقد أعادت هذه القصة إلى ذهن شاعرنا سيرة الصحابي الجليل "مصعب بن عُمير" فخلد ذكراه بقصيدة أطلق عليها "عودة مصعب بن عُمير" تعد بحق من عيون الشعر الحر وروائعه ، وفيها يقول :
ويح نفسي .. !!
مات ميلادي القديم
إنني في حاجة حرى ..
لميلاد جديد
نابع كالفجر من صلب الحقيقة
بنسيج ثائر النبض
لهيب العُنفوان
ودماء من مضاء
وضمير من ضياء
وجبين من إباء
...............
يامصعبُ الجديد
ياعزمة حديد
طوبى ..
فقد هويت
في مضمارها شهيد
طوبى
لك الخلود
في مُقامك السعيد
يامصعب المجيد
أما واقعة استشهاد المجاهد النبيل عبد الله عزام هو وابناه محمد وابراهيم في شهر يونيو عام 1989م التي علم بها الدكتور قميحة بعد عودته إلى القاهرة ، فنحن نستشعر وقعها على نفس شاعرنا مدوياً وهو ماعبر عنه بصدق بالغ في قصيدة "الفارس الذي صعد" حيث تتدفق معاني الفقد والألم من بين أبياتها عارمة ساخنة لتقدم نمطاً شعرياً لايعبر فقط عن الرثاء وإنما يعبر عن نوع خاص – غاية الخصوصية – يمكن أن نطلق عليه "شعر الأخوة في الله" وهو شعر يفتقده الأدب الإسلامي رغم مالهذه الأخوة من شواهد حية ومن مآثر ومعال ، فلنستمع إلى تلك الأبيات المفعمة بالشجن حين يطالعنا في قصيدته وكأنه يقف على مقبرة الراحل منشداً :
ياعبد الله ياعزام
أنا أدعوك ...
أناديك
فهل تسمعني ؟
هل تسمع صوتي ؟
هل تسمع ..
في عالمك العُلوي الأرفع
وأنا في غربة روحي
في وطني
أتحسس طيني
قيدي العاتي
دنيا الناس الصماء الجوفاء
هل تسمع ؟
هل تذكرني ؟
هل تذكر أول لقيانا ؟
قد كان لقاءً مشهودا
وإذ به بعد هذه الوقفة المشهودة يطالعنا مثقلاً بالأسى فنكاد نسمع نبرات صوته مبحوحة باكية ونكاد نرى وجهه مخضباً بالدمع الغزير وهو يقص علينا شعراً – من أبدع مايكون – كيف كان لقاؤه بالأخ الحبيب لأول مرة في أمريكا بمناسبة أحد المؤتمرات التي حضرها كممثل لمجاهدي أفغانستان وكيف كان تأثير خطابه الإيماني على الحاضرين :
وفجأة
سمعت صوتَه
مدمدماً وهادرا
وبالضياء عامرا
عزام ... ياعزام .. قُل
فالحفل كله معك
ومنصتٌ إليك .. لن يمل
ياأمة الإيمان
قد جئتكم .. في جعبتي رسالةٌ
من مسلمي الأفغان
من أمةٍ قد أقسمت
أن تسحق الكفر العتي
أن تهتك الظلم الغوي
أن تُطلع الفجر الندي
في دولة دستورها القرآن
زعيمها النبي
سبيلها الجهاد
والموتُ في سبيل الله قمةُ الأمل
وغاية النضال والزحوف والعمل
يظهر جلياً تأثير التجربة الجهادية ليس فحسب على وجدان الشاعر وإنما على منهجه الفكري والاعتقادي الذي يبرز أمامنا واضحاً رائقاً في هذه القصيدة الفريدة حين يرد بقوة على مماحكات المشككين في محاولاتهم البائسة لتلطيخ نقاء التجربة ، فنراه يفضح زيفهم بقوة انفعاله بصدق الشهيد وثباته على الطريق الوعر :
وقرأت في صحف الدعارة
والخيانة والدولار :
"القدس مسرى المصطفى
عزام يتركها يمزقُها ويحرقها اليهود
كيما يقاتل هاهنا
لمَ لايجالدهم هناك ؟
عزام .. ياعربي
فلتجعل جهادك للعرب"
ويجئ " ياعزام" ردك صاعقا
"أنا من هنا ..
وأنا كذلك من هناك ...
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم
جنسيتي الدينُ الحنيف
قوميتي الدينُ الحنيف
وولاؤنا لاثنين لايتزعزعُ
لإلهنا ورسولنا
والحق في أعماقنا يتربعُ
والأرض أنى ماتكون
هي أرضُ كل المسلمين
وكلما ذكر مواقف البطل الشهيد عاوده حزنه وأساه وحنين الأخ إلى أخيه في الله الذي لايعرفه إلا من كابده فالتذ به وذرف عند فقده الدمع الغزير :
سألتهمْ ...
القادمين من هناك من بشاور
عن فارس .. عرفتُه .. صحبتهُ
فما غدر ..
عاش الحياةَ قمةً تلامسُ القمرْ
فما انحنى .. وما انكسر
بل كان دائماً
في رحلة العناء ينتصرْ
كأنما من طينة قد صيغَ
غير طينة البشرْ
وتمضي القصيدة طويلة رشيقة فاتنة وينطلق شاعرنا عبر دروبها مغرداً في حزن شفيف تتداعى في وعيه الذكريات التي عايشها وتأثر بها فتلمع من أعماق نفسه المعاني ساحرة عجيبة تتلألأ مفاتنها على إيقاع شعري حر رخيم معبرة في صدق تلقائي عن ذلك التوق للعلاء الذي تبثه منزلة الشهداء في القلوب المؤمنة فنسمع صوته في ختامها شجياً وهو يناجي أخاه الذي غاب :
ناديتُهُ :
"مهلاً .. أبا محمدٍ ..
خذني معكْ .."
لكنه في سرعة الضياء
راح وانطلق
مجاوزاً نهرَ المجرة والفلكْ
لسُدة علويةٍ
أرقى من الأقطار والسماء
لاتحدّها مشاعرٌ ولا بصر
وخلفهُ
رأيتُ شلالاً من الدم الزكيّ
والمضاء
والإباء
والعلاء
والضياء ..
يبتسم ..
**********
هاهو ذا الدكتور جابر قميحة قد وفىّ بوعدٍ قطعه على نفسه مذ شدا قلمه بالقصيدة الأولى من قصائد هذا الديوان البديع بأن ينحاز في أغنياته الشجية للحق وحده صوناً للكلمة "عرض الشاعر" فما مالت كلماته ومعانيه عن الحق، ولا سقطت في شباك الغواية ، بل مضت في شموخ طروب لتسجل في سفر الأدب العربي الإسلامي شهادة شعرية حية على ملحمة الجهاد الأفغاني وقصائد من نور يشرق من أفئدة المتحابين في جلال الله الذين يظلهم سبحانه في ظله يوم لاظل إلا ظله .. فطوبى له .