تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ
مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها
[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " شَرْحُ أَحاديثَ مِنْ صَحيحِ الْبُخاريِّ :
دِراسَةٌ في سَمْتِ الْكَلامِ الْأَوَّلِ " لِلدُّكْتورِ مُحَمَّدْ مُحَمَّدْ أَبو موسى ]
د. محمد جمال صقر
قالَ |
قُلْتُ |
" بَشِّرِ الْمَشّائينَ إِلَى الْمَساجِدِ بِالنّورِ التّامِّ يَوْمَ الْقِيامَةِ " |
الذي أحفظه " في الظلم " ، ولقد تُناسِب " النور " ! |
قِيامُ حَياةِ النّاسِ عَلى هذا يَعْني قِيامَ حَياتِهِمْ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ ، مَهْما كانَتِ الْقَبْضَةُ حَديديَّةً ، وَهذا يَعْني مَرَّةً أُخْرى أَنَّ صَمْتَ الْمُجْتَمَعِ عَنْ أَخْطاءِ الْكِبارِ ( الشَّريفِ ) ، لَيْسَ لَه كِفاءٌ إِلّا تَدْميرَ هؤُلاءِ جَميعًا ، كِبارَهُمْ ، وَصِغارَهُمْ - وَأَنَّ كَفَّ أَيدِي الْكِبارِ عَنِ الْخَطايا ، وَالنَّهْبِ ، و" التَّهْليبِ " ، لَيْسَ تَرَفًا سِياسيًّا ، وَإِنَّما هُوَ ضَرورَةُ حَياةٍ - وَأنَّ مُجْتَمَعًا تُقْطَعُ فيهِ يَدُ سارِقِ الْبَيْضِ وَالْخُبْزِ ، وَلا تُقْطَعُ فيهِ يَدُ سارِقِ الذَّهَبِ ، مُجْتَمَعٌ يَلْبَسُ كَفَنَه بِيَدِه ، وَيَحْفِرُ قَبْرَه بِنَفْسِه - وَهذا مَعْناهُ أَنَّ حَياةَ الْجَماعَةِ هِيَ مَسْؤوليَّةُ الْجَماعَةِ ، وَأَنَّ تَقَدُّمَ الْجَماعَةِ هِيَ ( هكذا وله وجه ) مَسْؤوليَّةُ الْجَماعَةِ ، وَأَنَّ تَأَخُّرَ الْجَماعَةِ وَهَلاكَ الْجَماعَةِ ، هُوَ أَيْضًا مَسْؤوليَّةُ الْجَماعَةِ ، وَأَنَّ شَعْبًا يَرْضى لِنَفْسِه أَنْ يَغيبَ وَهُوَ حاضِرٌ ، وَأَنْ يَعيشَ عيشَةَ الْغُرَباءِ ، وَكَأَنَّ الْبِلادَ لَيْسَتْ لَه ، إِنَّ شَعْبًا دَبَّ إِلَيْهِ هذَا الدّاءُ مَهْما كانَتْ أَسْبابُ الْإِحْباطِ - لا يَسْتَحِقُّ إِلّا الْهَلاكَ ! أَفْهَمُ مِنْ هذِهِ الْجُمْلَةِ الشَّريفَةِ ، أَنَّه لا يَجوزُ لِلشُّعوبِ أَنْ تَضَعَ زِمامَها في يَدِ قِيادَتِها ، وَتَلْزَمُ الْأَدَبَ وَالصَّمْتَ ، وَلا تُحاسِبَ وَلا تُناقِشَ ، وَإِنَّما تَرى ، وَتَسْكُتُ ، وَتَمْضَُغُ الصَّمْتَ وَالْجُبْنَ وَالرُّعْبَ ، أَوْ تُنْشِدُ لَهُمْ شِعْرًا ! هذا لا يَجوزُ ، وَلَيْسَ هذا سَمْتَ الشَّعْبِ الْمُسْلِمِ ! هذا صَريحُ قَوْلِه - عَلَيْهِ السَّلامُ ! - : " إِنَّما أَهْلَكَ الَّذينَ قَبْلَكُمْ ، أَنَّهُمْ كانوا إِذا سَرَقَ فيهِمُ الشَّريفُ تَركوهُ " ، وَإِنَّما هُنا مَعْناهُ : ما أَهْلَكَهُمْ إِلّا هذا ، وَمَعْنى هذا أَنَّ مُهْلِكاتِ الْأُمَمِ كَثيرَةٌ ، وَلكِنَّ تَرْكَ هذَا الِاخْتِلالِ في بِنْيَةِ الْمُجْتَمَعِ هُوَ أَفْتَكُها وَأَشَدُّها ، وَكَأَنَّ غَيْرَه لا يُذْكَرُ مَعَه عَلى قاعِدَةِ الْقَصْرِ الدُّعائيِّ ، مِثْلُ : إِنَّمَا الشّاعِرُ زَيْدٌ |
أوشكت أن أتهمك آنفا بمهادنة الملوك ؛ حتى قلت ما قلت ! فالآن أحسبك - إن شاء الله - على خير ، ولا أزكي على الله أحدا ! بارك الله فيك ، ونفع بك ! |
جاءَ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذي ذَهَبَ بِه ! |
عبارة ما زالت تعبيرا اصطلاحيا أو مثلا تعبيريا يقال ؛ حتى لقد قالته فيَّ تلميذتي العمانية المنذرية في زيارتي للمكان الذي كنت عملت به ، ثم تركته سَنَتَيْنِ ، ثم جئته في الثالثة . لقد كان طلاب الجامعة يسمعون من الأخبار ، ويرون من المسجلات ؛ فيتخيلون شيئا بدا لي عظيما خرافيا ، ثم لما كافحوني " عادَ الْحَيْسُ يُحاسُ " ! فحكوا للذين كانوا حكوا لهم ، فقالوا لهم : رجع لكم بغير الوجه الذي ذهب به ! ولئن لم أعد كما كنت لقد استحدثت ما لم يكن ليكون : " ما لَمْ يِكُنْ ليكونَ كانَ وَلَمْ يَكُنْ لِيَجوزَ جازْ ! |
بايَعَهُمْ رَسولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ ! - وَقالَ فيما قالَ : " الدَّمَ الدَّمَ ، وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ ، أَنَا مِنْكُمْ ، وَأَنْتُمْ مِنّي ، أُحارِبُ مَنْ حارَبْتُمْ ، وَأُسالِمُ مَنْ سالَمْتُمْ " ، ومعنى " الدَّمَ الدَّمَ " ، أَيْ دَمي هُوَ دَمُكُمْ ، وَدَمُكُمْ هُوَ دَمي ، وَ" الْهَدْمَ الْهَدْمَ " ، أَيْ ما هَدَمْتُمْ مِنْ دِماءٍ هَدَمْتُه |
ألسنا إذا ذكرنا " معنى ... " ، لم نذكر بعدئذ " أي " ! أولم يكن ينبغي على هذا الفهم ( دمي هو دمكم ... ) ، أن ترتفع الكلمات ! لقد يذكرني هذا التركيب ما فعلته بـ" بين الرافعي وشاكر " ، في عنونة الفقر ، من مثل : " اليقين اليقين " ، أي يقين بطل شاكر مثل يقين بطل الرافعي ! |
لا بُدَّ أَنْ يَكونَ هُناكَ فَرْقٌ بَيْنَ ( يَقْرَأُ فِي اللَّيْلِ ) ، وَ" يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ " ، وَبَيانُ هذَا الْفَرْقِ غامِضٌ جِدًّا ، وَلا أَسْتَطيعُ إِلّا أَنْ أُثْبِتَه ، وَقَدْ يَنْكَشِفُ لِغَيْري ، وَغايَةُ ما أُدْرِكُه مِنْ هذَا الْفَرْقِ ، هُوَ أَنَّ قَوْلَنا : " يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ " ، خَيَّلَ فيهِ حَرْفُ الْجَرِّ " مِنْ " ، أَنَّ الْقِراءَةَ مِنَ اللَّيْلِ ، وَلَيْسَتْ فِي اللَّيْلِ ، وَكَأَنَّ اللَّيْلَ يَصيرُ مَقْروءًا مِنْهُ ، وَلَيْسَ مَقْروءًا فيهِ فَحَسْبُ ، يَعْني : صارَ زَمَنُ الْقارِئِ لِشِدَّةِ اسْتِغْراقِه قِراءَةً ، وَلَيْسَ ظَرْفًا لِلْقِراءَةِ ، كَما نَقولُ : وَقْتُه كُلُّه عِبادَةٌ ، أَوْ وَقْتُه كُلُّه صَلاةٌ ، وَإِنَّكَ واجِدٌ فَرْقًا بَيْنَ مَنْ يَتَعَبَّدُ في وَقْتِه كُلِّه ، وَمَنْ وَقْتُه كُلُّه عِبادَةٌ ؛ التَّعْبيرُ الْأَخيرُ صَيَّرَ الزَّمَنَ حَدَثًا ، وَلَمْ يُبْقِه ظَرْفًا لِلْحَدَثِ |
خطر لي في مثل هذا التعبير ، أن يكون في " من " أصل معناها الابتداء ؛ فيكون أنه يقرأ مبتدئا من الليل ، غير قاصد أن ينتهي ، فهي قراءة أهل العزم الذين نعرف متي يبدؤون ، ولا يعرف أحد متى ينتهون : " يا حُسْنَه وَالظَّلامُ قَدْ نَزَلا يَتْلو كِتابَ الْحَبيبِ مُبْتَهِلا حَتّى إِذا ما صَباحُهُ اتَّصَلا بِلَيْلِه وَالظَّلامُ قَدْ رَحَلا مالا " ! الله أكبر ! |
أُنَبِّهُ أَيْضًا إِلى أَنَّ دِراسَتَنَا الْأَدَبيَّةَ لَوْ أَخَذَتْ مِنْ هذا ( اعتبار المنظومة المكونة للرؤيا وعلاقات بعضها ببعض ) ، بِحِذْقٍ وَبَصيرَةٍ ، لَأَفادَتْ ، لِأَنَّ هذَا التَّعْريفَ الثّانيَ لِلتَّعْبيرِ الْقائِمِ عَلى مَعْرِفَةِ الرَّوابِطِ وَصِلاتِ الْأَحْداثِ وَالْكَلِماتِ بَعْضِها بِبَعْضٍ ، يَقْتَرِبُ مِنْ حَقيقَةٍ مُهِمَّةٍ ، وَهِيَ أَنَّ السِّياقَ هُوَ النَّصُّ الْمَقْروءُ ، وَالَّذي نَنْتَقِلُ إِلَيْهِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْكَلامِ وَمَخارِجِه وَمَواضِعِه وَتَلْخيصِه وَتَحْقيقِه ، وَفي كُلِّ الْأَحْوالِ يَجِبُ أَنْ نَكونَ في مَعيَّةِ الدَّلالاتِ اللُّغَويَّةِ ؛ حَتّى لا تَصيرَ النُّصوصُ مَجْموعَةَ تَخاليطَ وَهَلْوَساتٍ ، كَما تَراها في " صَوْتُ الشّاعِرِ الْقَديمِ " ، وَفي غَيْرِه مِمّا هُوَ عَلى شاكِلَتِه ! |
هو كتاب أستاذنا الناقد الفيلسوف الكبير الدكتور مصطفى ناصف ، المُسْتَصْعِب على أكثر الدارسين ، وهو عند نفسه يطرح ثقافته على النص ، ويشرحها بشرحه له ، هكذا ذكر لي أنه يفعل . وكأن الرجل يوازي قصائد الحداثيين والمستقبليين . وأنا أحبه ، وأتخذ قراءتي مِنْ كُتُبِه ، شُعْلَةً أقبس منها ، مثلما أحب محمد أبو موسى ، وأعده بلاغيا فيلسوفا كبيرا ، ولا أزكيهما على الله ؛ عسى أن أدرك شأوهما يوما ما ، وما هو على الله بعزيز ، متى صدقت النية ، وصح العزم واستمر العمل . |
هذَا الْحَديثُ يَتَّجِهُ إِلى تَأْكيدِ أَنَّ الرّاعِيَ مَسْؤولٌ ، أَكْثَرَ مِمّا يُبَيِّنُ أَنَّه راعٍ ، لِأَنَّه لا مُشاحَّةَ في أَنَّ الْإِمامَ الْأَعْظَمَ راعٍ ، وَأَنَّ الرَّجُلَ راعٍ ، وَأَنَّ الْعَبْدَ راعٍ ، وَإِنَّما الْمَقْصودُ تَوْكيدُ أَنَّ كُلَّ راعٍ مَسْؤولٌ عَنْ رَعيَّتِه . وَالْجُمْلَةُ الْحاليَّةُ " وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعيَّتِه " ، تَكَرَّرَتْ بِلَفْظِها وَبِنَسَقِها وَمَوْضِعِهَا الْإِعْرابيِّ سِتَّ مَرّاتٍ مَعَ كُلِّ راعٍ ذُكِرَ ، وهَذا يَعْني أَنَّهَا الْمَقْصِدُ وَالْمَأَمُّ |
ليست واو الحال من جملة الحال ، ثم كيف تكون هذه الجملة حالا أصلا ، ومعناها مما سيكون بعد ! إنها جملة معطوفة على ما قبلها . |
هكَذا كَأَنَّكَ تَقُصُّ أَثَرَ الْمَعْنى ، وَتُتابِعُ سيرَةَ بَيانٍ ، وَتَتَلَمَّسُ مَفاصِلَه ، وَكَيْفَ شَدَّ اللِّسانُ الْحَيُّ أَسْرَه ، وَكَيْفَ أَقامَه وَسَوّاهُ وَوَسَمَه بِشَكْلِه وَصورَتِه وَهَيْئَتِه ؛ حَتّى إِنَّكَ لَتَعْرِفُه بِهذَا الْوَسْمِ وَهذَا الشَّكْلِ ، كَما تَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنَ الرَّجُلِ وَالْفَرَسَ مِنَ الْفَرَسِ ، كَما قالَ الشَّيْخُ الْإِمامُ . وَهذا صَعْبٌ جِدًّا ، لِأَنَّه لا يُقيمُه فِي الْكَلامِ ، إِلّا مَنْ لَه بِالْكَلامِ بَصَرٌ ، وَلِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى ! وَقَدْ أَشارَ أَبو تَمّام ٍإِلى أَنَّه لا يَضَعُ لِلْكَلامِ ميسَم ( هكذا وَالصَّوابُ ميسَمًا ) يوسَمُ بِه ، إِلّا مَنْ بَلَغَ فيهِ شَأْوًا ، وَذَكَرَ أَنَّ وَضْعَ هذَا الْميسَمِ صَعْبٌ جِدًّا ، قالَ : وَإِني ( هكذا والصواب حذف الواو ) لَذو ميسَمٍ يَلوحُ عَلى صَعودِ هذَا الْكَلامِ أَوْ صَبَبِه وَالْميسَمُ هُوَ الْوَسْمُ وَالسّيماءُ ، وَالصَّعودُ ما شَقَّ عَلَى النّاسِ مِنْ غَريبِ الْكَلامِ ، وَالصَّبَبُ ما سَهُلَ ؛ قالَ التِّبْريزيُّ في شَرْحِه : " جَعَلَ ذلِكَ مَثَلًا " . وَبِمِقْدارِ صُعوبَتِه عَلى مُنْشِئِهِ الَّذي بَلَغَ فيهِ شَأْوًا ، تَكونُ أَيْضًا صُعوبَتُه وَدِقَّتُه وَمَزالِقُه ، عَلى مَنْ يُنْشِئُه وَيَصِفُه وَيُحَدِّدُه ، لِأَنَّ مَزالِقَه كَثيرَةٌ . وَأَنا أَقْتَحِمُه مَعَ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَمَعْرِفَتي بِالنّاسِ وَتَصَيُّدِهِمْ لِلْهَفَواتِ وَإِغْفالِهِمْ أَيَّ مَجْهودٍ آخَرَ ! وَلكِنَّ اللّهَ - سُبْحانَه ! - أَنْعَمَ عَلَيَّ بِأَنْ طَرَحْتُ مَرْضاتَهُمْ ، وَاتَّجَهْتُ فَقَطْ إِلى بَيانِ ما أَسْتَطيعُ بَيانَه ، مَعْذِرَةً إِلَى اللّهِ - سُبْحانَه ! - فَقُلْ ما شِئْتَ فيما أُحاوِلُه ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ رَزَقَني الصَّمَمَ عَنْ سَماعِ ما يُقالُ ! |
بمثل هذا تتأصل في العربية فكرة " الأسلوب هو الرجل نفسه " العجمية ! ولقد قلت في محاضرتي بنادي مسقط الثقافي ، في مجموعة عبد الله الكعبي - تلميذ نجيب - : لكل فنان عذابه في إخراج فنه - مهما كان الفنان وكان العذاب - المحتاج من متلقيه إلى عذاب مثله ، أو أكبر منه ، أو كما قلت ! فقال محمد الحجري - تلميذ آخر نجيب - : نحتاج إلى أن نميز الشعر الذي يستحق جهدنا ؛ حتى نبذله عن رضا وطيب خاطر ، أو كما قال ! فقلت له : إن الشعر الذي يستحق جهدك ، هو الشعر الذي إذا ما بذلت فيه جهدك ، أحسست أنه يستحق جهدك ، أو كما قلت ! فضج الحاضرون استحسانا ! ثم سبحان الله ! قُلْتَ في نفسك - يا دكتور محمد أبو موسى - ما قيل لي في صفة الدكتور مصطفى ناصف ، خصيمك ! |