شرفة ليلي مراد

شرفة ليلي مراد والأدب لقلة الأدب

عبد الله رمضان

[email protected]

رحم الله الحلاج، فقد اتهموه بالزندقة والإلحاد وغير ذلك من تهم، على الرغم من أن الرجل كان صاحب تجربة وحقيقة عاش على نورها، ومع ذلك فقد صلبوه، يا ترى ماذا كانوا سيفعلون مع قوم ساروا في طريق شائك تحفه المخاطر، وليته كان طريق الحقيقة أو طريق الإبداع أو أي طريق يمكن أن يختلف الناس حوله فيرون رأيا ونرى رأيا ويرى آخرون رأيا آخر وهكذا..

ليتهم كانوا كذلك ، لكنهم انساقوا إلى سفاهات ومتاهات لا أجد في لغتي ما أعبر به عنها إلا أنها "قلة أدب" وهذا بلا شك تعبير راق.

أرجو ألا تثار الزوابع وتقام المشانق لهؤلاء حتى لا نجعل من كل منهم شهداء. دود الأرض كفيل بهم، وصناديق القمامة عروشهم، وبالوعات الصرف الصحي ممالكهم، فاتركوهم لشأنهم فلن يسمع بهم أحد.

عانيت مرارة الإبداع فكتبت الشعر الخليلي منذ سن مبكرة، وكنت لا أرى غيره نحلة، وكبرت فاتسع أفقي بعد أن تذوقت الشعر الحر أو شعر التفعيلة، فاستسغته وسلكت طرقه، وتخصصت في النقد الأدبي وأشرفت على الانتهاء من بحث الدكتوراه، وكنت من أشد المعترضين على ما يسمى بـ "قصيدة النثر" غير أنه مع اتساع الأفق الذي لا ينتهي بتطور العمر وتنوع التجارب، قدر الله أن أدرس فنا من الفنون المشتركة بين النثر والشعر، ووجدتني رغما عني واتباعا لأصول البحث العلمي مضطرا لدراسة ما يسمى بقصيدة النثر في جزء من أجزاء بحثي، غير أن الذائقة الشعرية والروح العربية التي تسري في دمائي أبت علي أن ألوك شيئا منها، فعزمت على دراستها بوصفها فنا نثريا له سمات معينة، قد يكون بعضها داخلا في باب الخواطر أو الحكمة أو غير ذلك.

ووجدت أن الرافعي وشوقي وطه حسين وعباس العقاد، كل هؤلاء كتبوا الكثير الكثير من فنون النثر التي ترقى رقيا وتعلو علوا على ما يكتبه هؤلاء المراهقون من أدعياء ما يسمى بقصيدة النثر.

كل هذه التقدمة أنثرها لأوضح أنه لا اعتراض على الإبداع مهما كان، ولا اعتراض على أشكال الإبداع مهما كانت، لكن الاعتراض أن نسمي الأشياء بغير أسمائها مما يسبب حالة من ضياع الحقيقة وفقدان الوعي .

مشكلتنا في عالمنا الحاضر هي مشكلة مصطلح، في الأدب والنقد ، واللغة والقواعد، والسياسة والاقتصاد وغيرها من مجالات.

إنه أمر يجعل اللبيب في حيرة لا قرار لها، وأجدني عندما أستغرق في التفكير مؤمنا بأن هذا أمر مقصود لذاته، وتتداخل فيه المصالح، وتختلط المآرب، وتتماهى المقاصد.

فليس من مصلحة أمريكا أن تحدد تعريفا جامعا مانعا للإرهاب، وذلك لتجعل مقاومة الشعوب إرهابا، وتجعل من التطور التقني سعيا من الدول "المارقة" لامتلاك أسلحة دمار شامل، وتجعل من كل شيء يناقض مصلحتها أو يعارضها إرهابا.

وفيما نحن بصدده لا نعرف – في ضوء تشويه المصطلحات التي يترتب عليها تشويه طبائع الأشياء – لا نعرف المبدع من الدعي ولا المطرب من المزعج، ولا الفنان من المهرج.

أراني أسهبت قليلا! لكن لا عليك فقد حان وقت الكلام المباح، لأن الضيق في صدري قد أخذ مداه، والغباوة لم تجد من يتصدى لها.

كتب المدعو بالشاعر حلمي سالم كلاما ليس كالكلام، أراد أن يبدع ويبتكر فأطلق العنان لحصان خياله وكتب ما ادعاه قصيدة سماها "شرفة ليلى مراد".

واعتمادا على التوجهات الحداثية وما بعد الحداثية التي تتمثل في نقد كل ما هو ثابت، نجد أن هؤلاء القوم أول ما يتجرأون وتدركهم حمية الفكر وثورة الخيال وشبق الإبداع يتطاولون على الذات الإلهية فيتعامل أكثرهم مع لفظ الجلالة بما لا يليق، وأجدني مضطرا لأن أطرح بعض الأسئلة أرجو أن يجيبني واحد من هؤلاء عليها.

من الثابت في حياة كل منكم أن له أما وأبا فلماذا لا يشك في أن أمه هي أمه ولماذا لا يشك في أن أباه هو أبوه؟ لماذا لم يسأل نفسه يا ترى هل أبي هذا هو أبي أم أنني ابن رجل آخر؟ وهل أمي هذه هي أمي أم أنني لقيط من اللقطاء؟ لماذا لم يشك في أولاده فربما كانوا أولاد رجل آخر؟ لماذا لم يشك في نفسه؟

عدِّ عن ذا ، لماذا لا يتطاول هؤلاء على الساسة والزعماء أم تراهم أقدس من الله وأفضل عندهم من رسول الله؟ لم يتجرأ حلمي سالم أو غيره على أن يتفوه بكلمة واحدة تمس رأس الدولة أو حتى بعض السادة الذين يتفضلون عليه وعلى أمثاله بالنعم والجوائز؛ لأنهم ليسوا الله بل هم في صدره وصدر رفقائه أعظم من الله – تعالى الله علوا وسفلوا هم سفولا – يركبون مركب أدونيس ويعبون من إفرازاته الرديئة، على الرغم من أنهم لا يمتلكون عشر معشار ما يملك من موهبة – في طوره الأول من أطوار الإبداع قبل أن يضل سواء السبيل – إنهم يتهمون الكلاسيين بأنهم مقلدون ويسيرون خلف أسلافهم دون تجديد أو إبداع والحق أقول إنهم هم أول المقلدين وأول الناقلين، وأكثر ما يكتبون لا يرقى إلى نثيرة من نثيرات الرافعي.

ولو حللنا ما كتبه حلمي سالم وقارنا تطاوله على الذات الإلهية بتطاولات آخرين ممن هم على شاكلته سنجد أن الأمر ليس مصادفة أو سقطة أو يحتمل تأويلا فنيا بل إنه أكبر من ذلك، إنه توجه عام لكل هؤلاء الأدعياء؛ حيث يعلنون موت الله والأنبياء والملائكة وكل ما يعتقده المسلمون بالذات من عقائد، هذا التوجه بدأ في أوروبا مع التيه الذي عانى وما زال يعاني فيه الإنسان الأوروبي في ظل حضارة مادية صماء، واستورده أناس من بني جلدتنا وناصرتهم فيه وسائل إعلامية ومنابر ثقافية رسمية مدعومة من أنظمة تسير في الدرب نفسه من الإلحاد والبعد عن الله، فتنعم عليهم بالجوائز والمكرمات والهدايا، كل ذلك بدعوى رعاية الفكر وحريته والإبداع واستقلاليته.

وكل هذا الهراء لا ينتمي إلى الإبداع بنسب ولا يتصل إلى الفكر بصلة قربى، إنه في أكثره قاذورات تصدرها أدمغة عفنة وقلوب صدئة، يقول أدونيس:

أسير في الدرب الذي يوصل الله

إلى الستائر المسدلة

لعلني أقدر أن أبدله

(الأعمال الشعرية لأدونيس 1/105)

ويقول أيضا:

لم يبق نبي إلا تصعلك لم يبق إله ...

هاتوا فؤوسكم نحمل الله كشيخ يموت

نفتح للشمس طريقا غير المآذن، للطفل كتابا غير الملائك

للحالم عينا غير المدينة والكوفة هاتوا فؤوسكم

(الأعمال الشعرية لأدونيس 2/266)

ولا تعليق لدينا إلا أن نقول أين هذا الكلام من الإبداع، وليدلنا لبيب من ذوي الألباب ومبدع من ذوي الإبداع على ما يحتويه هذا الكلام من قيمة فنية تضيف شيئا للمتلقي اللهم إلا الثورة على المقدسات وهذم أركان الثوابت.

ومما يؤسف له أن هذا الاتجاه ما هو إلا اجترار للماضي السحيق حيث يعيد إنتاج الأفكار الوثنية والشركية التي كان يعتقدها القدماء، ولا يكلف نفسه إلا أن يضع عليها بعض المساحيق ليضفي عليها صفة العصرية.

الله تعالى غني عن العالمين، وهو القائل : "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، الله سبحانه وتعالى أطلق حرية الإيمان كما أطلق حرية الكفر لأن الإنسان مكلف ويمتلك عقلا يميز به بين الأشياء.

إذن لماذا كل هذا الكلام طالما أن القرآن الكريم صريح في إتاحة حرية الاعتقاد؟

والجواب: إن هذه السهام التي أصوبها إنما تستهدف بالأساس أولي الأمر الذين يدعمون مثل هذه التوجهات الإلحادية ويفتحون لها الأبواب على مصاريعها، وينفقون عليها من أموالنا.

وكلام حلمي سالم الذي أثار ضجة عبارة عن مقاطع نثرية كل مقطع منها يكاد يكون مستقلا، وقد تراكبت هذه المقاطع على نحو ما وأطلق عليها مسمى قصيدة، عنونها بـ "شرفة ليلى مراد"، والمقطع الأول منها يقول:

أسمهان  

صادفوها  

وهى تحمى بأسودها  

أبيضها  

الذى يجر عليها قذى الشوارع  

مأزقها:  

أن الانطباعات الأولي  

تدوم  

كيف إذن ستغني  

أسقيه بيدى قهوة؟

يتحدث في المقطع السابق عن أسمهان – المطربة الراحلة المعروفة – ويذكر أن أناسا صادفوها، وهؤلاء الأناس يعبر عنهم بالضمير المستتر، وهو ما يوحي بمجهولية المكان الذي وجدت فيه أسمهان، ومجهولية المارة الذين شاهدوها، وعلى الرغم من قامتها العالية في الغناء إلا أنها كانت منشغلة بالحفاظ على مظهرها العام لأن الانطباعات الأولى تدوم، وهو ما يلمح من طرف خفي إلى طبيعة الجمهور المتلقي الذي يهتم بالأمور الشكلية على حساب القيمة الحقيقية، وانعكست هذه الطبيعة السطحية لهذا الجمهور على أسمهان، فانشغلت عن موهبتها ومكانتها العالية بالأمور المظهرية لاسترضاء هذا الجمهور.

وفي المقطع الثاني يقول:

نظرية  

البكارة  

ملك الأبكار  

وحدهم  

حتى لو كرهوا  

نظرية التملك

    يتناول السلوك العربي والإسلامي في حفاظ الفتاة على عفتها وشرفها المتمثل في "البكارة" - يتناول ذلك وفق المنظور الأوروبي للحرية؛ حيث إن الفتاة حرة في جسدها تفعل به ما تشاء، وهي فكرة وجودية ترفض القيم والأخلاق التي تفرضها الشرائع السماوية، ويقيم مفارقة بين إثبات حق الملكية، وكراهية فكرة التملك، وهما نقيضان يجتمعان في الفتاة الواحدة؛ فالحرية الفاضحة تجعلها تتصرف في بكارتها كيفما شاءت، لأنها ملكها على الرغم من كراهيتها لنظرية التملك، ويرمي بذلك إلى عقد الزواج حيث إنه يسمى أحيانا بعقد "الملك".

وتتوالى المقاطع التي كتبها حلمي سالم، ولا تخلو من أفكار تغريبية تتناقض مع معتقداتنا وتقاليدنا.

وما أردت بتحليل المقطعين السابقين إلا إيقاف القارئ على نمط الكتابة الذي تسير عليه السطور النثرية، وهي في أكثرها ركيكة، وإن لم تخل من لمحات فنية أحيانا.

والمقطعان اللذان أثارا بلبلة ولغطا ضد الكاتب هما المقطعان الأخيران فيما نشره من مقاطع تحت مسمى "قصيدة"، ففي المقطع قبل الأخير الذي عنونه بـ "الأحرار" يقول:

الرب ليس شرطيا  

حتى يمسك الجناة من قفاهم،  

إنما هو قروى يزغط البط،  

ويجس ضرع البقرة بأصابعه صائحا:  

وافرٌ هذا اللبن  

الجناة أحرار لأنهم امتحاننا  

الذى يضعه الرب آخر كلّ فصلٍ  

قبل أن يؤلف سورة البقرة

 لا شك أن أدعياء الحداثة لديهم انسيال غير مفهوم في الاتكاء على الألفاظ الدالة على الربوبية أو الألوهية، وهناك من ينساق جهلا وراء هذه الموجة وهناك من ينساق واعيا مؤمنا بما وراءها من أفكار إلحادية.

ولن نتدخل في طوايا الكاتب ونواياه فعلمها عند الله، لكن من الناحية الفنية ربما مرت هذه المقطوعة مرور الكرام ولم يلتفت إليها أحد على اعتبار أن اللغة العربية بها سعة كبرى في توجيه الألفاظ والكلمات وتلقيها على محمل المجاز أو غيره من طرائق البلاغة والبيان واللغة، ربما قلنا إنه في معرض حديثه عن الحرية يقصد "رب الدولة" أي رئيسها أو "رب العائلة" أو أي رب يقصده الشاعر، وربما استبعدنا أنه يقصد الله جل وعلا، لكن السقطة التي أثارت الضجة وحق لها أن تثار ، أنه ذكر في آخر المقطع أن هذا الرب الذي يتحدث عنه "يؤلف سورة البقرة" وهنا فلا عذر له! ولا تنفعه شفاعة الشافعين؛ لأنه أوقع نفسه في المحظور واستهان بمشاعرنا الدينية، ولا أفهم من أبيات المقطع إلا أنه يجسد الله سبحانه وتعالى في صورة قروي ساذج يزغط البط ويحلب ضرع البقرة – تعالى الله علوا كبيرا.

ولو افترضنا حسن النية وقلنا إن الكاتب لم يقصد هذا، فلا شك أن اللوم سيظل قائما؛ لأن العبث بعقيدة الإسلام وأركانها ومقدساتها لا يجب أن يصل إلى هذا الحد، هل ضاقت آفاق الإبداع فلم يعد أمام المبدعين إلا الله ليتطاولوا عليه؟ وهل انتهت عقائد الأرض ولم يعد إلا الإسلام لينالوا منه؟!

وفي المقطع الأخير الذي عنونه بـ "طائر" يقول حلمي سالم:

الرب ليس عسكرى مرور  

إن هو إلا طائر،  

وعلى كل واحد منا تجهيز العنق  

لماذا تعتبين عليه رفرفته فوق الرءوس؟  

هل تريدين منه  

أن يمشى بعصاه  

فى شارع زكريا أحمد  

ينظم السير  

ويعذب المرسيدس؟

    يكفي ما في هذا المقطع من أذى إبداعي قبل أن نتحدث عن الأذى النفسي الذي لحق بنا جراء الاستخفاف بمشاعرنا وديننا، وأجدني لا أفهم العلاقة بين أن ينفي عن الرب أنه "عسكري مرور" وأن يثبت له أنه "طائر يرفرف"، قد يقصد أن الرب ليس عسكري مرور بمعنى أنه ليس "صعيديا"؛ لأن أغلب عساكر المرور في مصر من الجنوب وهم أميون، أو يعرفون القراءة والكتابة بالكاد وعلى هذا تُلحقهم الدولة المصرية بما يسمى "الأمن المركزي"، ويظل عسكري المرور واقفا ساعات طويلة في الشمس أو البرد ينظم مرور السيارات.

فكأن الكاتب يريد أن يقيم صورة متقابلة بين كون عسكري المرور ثابتا في مكانه لا يتحرك وبين الطائر الحر الطليق الذي يرفرف كيفما شاء؛ لكنه جعل رفرفة هذا "الطائر/الرب" فوق الرؤوس، وهي قد تدل على المراقبة المستمرة، وعلى هذا فإن الرب لا يعذب سيارات المرسيدس – بتدوين أرقامها في دفتر المخالفات كما يفعل عسكري المرور- بل يراقب الإنسان ويعذبه بهذه المراقبة التي تنعكس عليه في سلوكه لو انصاع لها، فتصبح قيودا – حسب الأفكار الإلحادية.

لا أعرف ماذا أقول! لو كان الإبداع بهذا المستوى – بصرف النظر عن حديث إهانة المقدسات – فبئس الإبداع.

    أراني أجزم أن هؤلاء القوم لا يملكون من الموهبة ما يؤهلهم لأن يكونوا عظماء أو أصحاب شأن في تاريخ الأدب والشعر والفن فيلجأون إلى الإثارة حيث يتعدون على المقدسات وأقدسها رب الأرباب سبحانه وتعالى الله الواحد الأحد فيتطاولون عليه؛ حتى يطير حديثهم في كل مكان ويرفع قدرهم أهل الكفر والعصيان في أوطان الإسلام والمسلمين ممن تجردوا من عروبتهم وإسلامهم أو من الغربيين أصحاب المذاهب الهدامة. 

               

* باحث في النقد الأدبي