دلالة الليل في تجربة السياب

د. فايز عارف القرعان

[email protected]

ظهر موضوع الليل في تجربة السياب بشكل واضح من بين الموضوعات الشعرية الأخرى، إذ بلغ مجموع مفرداته ما يقرب من أربع مائة وثماني مفردات تشكلت بأساليب بلاغية مختلفة من ضمنها الأسلوب الاستعاري الذي وجدناه قد تكرر بما يقرب من مائة وخمس وأربعين مرة. ولا شك في أن مثل هذه الكثرة التكرارية تعني شيئاً ما في تجربة السياب، وحتى نقف على قيمة تكرار هذا الموضوع لا بد من أن نقف على دوره الدلالي. ويبدو لي أن البحث في هذا الدور الدلالي يجب أن يأخذ منحى سياقياً؛ بمعنى أن يكون الكشف عنه من خلال السياق البنائي الذي يشكل البؤرة الاستعارية لدال الليل ويتفاعل معها أو تتفاعل معه لإنتاج الدلالة والوظيفة. ولعل البحث عن هذا الدور لا يمكن إدراكه في صورته الدقيقة من خلال النظر فيه في بنيته الاستعارية منفصلاً عن السياقات التركيبية التي تحيط به؛ وذلك لأنه كائن لفظي يتحرك ضمن بنية سياقية تنتظم مفرداتها علائق بنائية تحكم حركة المعنى التي تقدمها هذه البنية، وبالتالي فإن اللفظ الاستعاري داخل هذه البنية لا يستطيع بمفرده أن يقدم دلالة ما، وإن كان في بنية استعارية ذات فاعلية في إنتاج المعنى، فعلينا إذن أن نربطه بسياقاته التركيبية.

وعند استعراضنا لتشكيلات دال الليل في سياقاتها الشعرية وجدنا أن السياب قد تعامل معه من خلال دوائر دلالية مختلفة في كامل إنتاجه الشعري، كان من أبرز هذه الدوائر دائرة القسوة التي أريد أن أقف عليها في هذه الورقة البحثية.

ينطلق تجربة السياب في رصدها الليل الاستعاري لدائرة القسوة من تجربته المتعلقة بالحياة وبيئتها وتجاربها، وحتى نكون على وعي لهذا الربط نقف عند مقطع من قصيدته المشهورة "المومس العمياء" يقول:

 الليل يُطبق مرّة أخرى، فتشربه المدينه

 والعابرون، إلى القرارة.. مثل أغنية حزينه

 وتفتحت، كأزاهر الدفلى، مصابيح الطريق،

 كعيون "ميدوزا"، تحجّر كل قلب بالضغينة،

 وكأنها نذرٌ تبشر أهل "بابل" بالحريق

 من أي غاب جاء هذا الليل؟ من أي الكهوف

 من أي وجر للذئاب؟

 من أي عش في المقابر دفَّ أسفع كالغراب

 "قابيل" أخفِ دم الجريمة بالأزاهر والشفوف

 وبما تشاء من العطور أو ابتسامات النساء

 ومن المتاجر والمقاهي وهي تنبض بالضياء

 عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينه،

 والليل زاد لها عماها(1).

 تتخلل هذا المقطع ثلاث استعارات يشكلها دال الليل، هي (الليل يُطبق مرّة أخرى، فتشربه المدينة) و (من أي غاب جاء هذا الليل)، و(الليل زاد لها عماها), وهي تبدو، في الوقت نفسه، بؤر نصية مؤثرة في إحداث حركة المعنى التي تنتج القسوة التي غمرت البنية الشعرية، ذلك أن الاستعارة الأولى تمارس فعلها الدلالي على دال (المدينة) فالليل الذي أطبق بظلامه على البعد المكاني تستقبله المدينة وتتفاعل معه حتى يغمرها، وقد تمثل هذا التفاعل في الدال (يشربها) إذ حول هذه المدنية، وقد مارست امتصاص ظلمة الليل إلى متعطش يستمد الحياة من هذه الظلمة فيشربها، يبدو لي أن هذا التشكل الاستعاري لدال الليل يكشف عن فاعلية القسوة التي يمارسها الليل على المدينة (المكان) فالليل بفاعلية الإطباق يتمكن من المدينة ويمارس فعل ظلمته عليها ليحولها من منطقة الوضوح, الذي يقود إلى اليسر والرحابة, إلى منطقة الخفاء والغموض اللذين يقودان إلى الضيق الباعث على التعب من التعامل مع هذه المدينة، ولذلك نجد البنية الشعرية تسير بدالاتها مع هذه الدلالة (القسوة) فتنتج أبنية تحمل في تراكيبها معاني القسوة فـ(العابرون) من الناس ينحدرون إلى (القرارة) أي إلى هذه المدنية كانحدار الماء إلى المكان المنخفض تماماً كما كان الليل يمارس فعله لينتهي إلى السطوة والقسوة، وقد أنتج مثل هذا التحول التشبيه الذي قام على تشبيه (العابرون) بأغنية حزينة وذلك أن هذه السطوة فجرت الحزن لهؤلاء الذين عبروا ظلمة المدينة القاسية، ثم تنزلق البنية في بلورة دلالة القسوة عندما تعكسها على مصابيح الطريق، فهذه المصابيح كانت (كأزهار الدفلى) مرة و(كعيون ميدوزا) مرة أخرى، وثمة ترابطات بين هذين المشبهين تقود إلى تكريس دلالة القسوة من جديد، ذلك أن الدفلى بأزهاره المتفتحة التي تقترب منها مصابيح الطريق على المستوى السطحي التماثلي من حيث الإضاءة واللون تؤول في البنية إلى حركة داخلية في المعنى تقود إلى معنى مرارة الطعم لهذه الزهرة، وهي بهذا تخرج عن الدلالة الجمالية الوهمية التي يمكن أن نلحظها في سطح البنية، ويؤكد هذه الحركة الداخلية التشبيه الثاني ذلك أن (عيون ميدوزا)، كما الأسطورة اليونانية، لها القدرة على تحويل من تقع عليه إلى حجر(2)، إن هذا الترابط بين التشبيهين يؤكد دلالة القسوة التي تمارسها المصابيح في المدينة، ولذلك كان من الطبيعي، على مستوى البنية الشعرية، أن تتحول القلوب في المدينة إلى قلوب متحجرة وثابتة على الضغينة والحقد، وأن يتحول جمال المصابيح التي تفتحت كالأزاهر إلى جمال قاس وقاتل (وكأنها نذر تبشر أهل بابل ... بالحريق). إن البنية بوصولها عند هذا السطر تبدأ بالتعامل مع الاستعارة الثانية (من أي غاب جاء هذا الليل؟) التي تكشف عن مواصفات القسوة التي يمارسها دال الليل في هذا المقطع الشعري، ذلك أن البنية ربطته بأربع قرائن كل قرينة تقود إلى سياق فني يبدأ الليل يمارس فعله القاسي فيه، ذلك أن السياق الأول كان سياق الغاب، بما يحمله من ترابطات ذهنية تقود إلى العالم المتوحش، تماماً كما في حياة الغاب بين الوحوش، وهي حالة من ممارسة القسوة القاتلة. ويأتي السياق الثاني المتمثل في (من أي الكهوف) ليقود إلى ممارسة "الليل القاسية" التي تلقيها ممارسة الإنسان الأول (إنسان الكهوف) الذي يتعامل مع العالم الوحشي الذي يحيط به بوحشية تتناسب معه حتى يستطيع أن يواصل حياته. ويأتي السياق الثالث في هذا التوجه الدلالي (من أي وجر للذئاب؟) إذ إن الليل يمارس فاعلية القسوة مستمداً من فعل الذئاب الافتراسي الدموي. ومن ثم يأتي السياق الأخير ليقود هذه القسوة إلى فعل الموت الذي يشكل قمة القسوة وقمة فعلها وذلك في (من أي عش في المقابر) فالليل خارج من بُعد الموت (المقابر) وقد كان ربيباً في أماكنه وقد جاء يمارس فعل الموت وقد عمق معنى هذا الفعل باستثمار الغراب (دفّ أسفح كالغراب) بلونه وفعله عندما ينقض على طريدته. ولا شك في أن هذه الحركة الأخيرة تمارس- بما تحمله من أبعاد المماثلة اللونية بين الغراب والليل ومن أبعاد الفاعلية- قسوة شديدة الوطء على المدينة التي تشربت الليل.

 ثم يستمر المقطع برصد دلالة القسوة في تراكيبه قبل أن يصل إلى الاستعارة الثالثة، وذلك باستخدام رمز القتل (قابيل) وقد أحاطه بمجموعة من التراكيب التي تقود بحركة معناها إلى محاولة إخفاء القسوة التي قادته إلى قتل أخيه (هابيل)، ولعلنا نلحظ أن هذه التراكيب تلتقي ما جاء في بداية المقطع من تشبيه مصابيح الطريق بأزاهر الدفلى، وذلك أن البنية تدفع بقابيل لأن يخفي جريمته (قسوته) بكل أنواع المظاهر الجميلة البراقة (الأزاهر/ الشفوف/ العطور/ ابتسامات النساء/ المتاجر/ المقاهي وهي تنبض بالضياء) إن هذه المظاهر بمجملها تضفي نوعاً من التحسين على حقيقة الفعل (فعل قابيل) الذي يرمز، هنا، إلى الإنسان في المدينة المعاصرة بكل ما يحمله من ممارسات القسوة غير أن هذه المظاهر لا تستطيع أن تخفي حقيقة (المدينة – الإنسان)، لذا يجلي المقطع هذه الحقيقة في الشطرين الأخيرين (عمياء كالخفاش في وضح النهار، هي المدينة) فالمدينة، إذن، مدينة قاتلة تشربت الليل بقسوته فازدادت قسوة وقد جلت هذه الدلالة الاستعارة الأخيرة (والليل زاد لها عماها) فالمدينة عمياء في وقت النهار الذي كان يمكن أن تبصر به لولا أنها تمارس قسوتها، وقد زاد الليل عماها بقسوته.

 وقد رصدت تجربة السياب دال (الليل) بكل ما يحمله من معاني القسوة بعدد من الخطوط الدلالية كان أولها خط ارتباط قسوة الليل بقسوة الموت الذي يشكل، في هذه التجربة، أصلاً من أصول هذه القسوة، ويبدو أن الموت في تجربة السياب يشكل خطاً من خطوط إنتاج الدلالة، إذ اعتمد على تشكّله في كثير من المواقع الشعرية في هذه التجربة، وقد أشار مدني صالح إلى هذا المعنى مبالغاً في تضخيم هذا الخط الدلالي فجعله طاغياً على كل التجربة الشعرية وقد رصد ستة أحوال حددت موقف السياب من الموت(3). وقال : "لكن السياب ما كان شاعر هوى وإنما كان شاعر فجيعة واستغاثة وتوجع واستصراخ، يرجو امرأة، ويتوجع إلى امرأة، ويستغيث بامرأة، ويستدر عطف ورحمة امرأة، ومسكينة بلهاء من ترضى لكبريائها تدجيناً بمثل هذه الأساليب، وأول ما لجأ السياب إلى الموت لجأ إليه يستعين به ويستعديه على المرأة"(4).

 وحتى ندرك طبيعة تكوين الدلالة في هذا الخط نأخذ قوله في قصيدة (ليلة في لندن):

 وليلي الأوّاهُ في بيروت يُحييني

 لأبصر فيه وجْه الموت، راح يُذيبُه نبْعٌ من اللهفة

 تدفّق من فؤاد البُلْبُل المسكوب بين غصون لبلابِ

 ليالٍ من عذابٍ، من سقامٍ، لست أنساها(5)

 تتشكل الاستعارة (ليلي الأواه) في بدء البنية الشعرية لتتواصل مع مكوناتها التركيبية على مستوى حركة المعنى القائمة على دلالة القسوة، وذلك من خلال الربط بين قسوة الليل وقسوة الموت، فالليل الذي يتحرك من خلال السياق الفني للإنسان يمارس فاعلية توهم بالإيجابية متمثلة فيما يؤديه دال (تحييني) وذلك أن هذا الليل الأواه الذي يحمل كل أوجاعه وعذاباته يمارس فعل إحياء الذات الشاعرة، لكن هذا الإحياء لا يتجه نحو إمتاع هذه الذات بل يتجه نحو إيلامها بإبداء (وجه الموت) لها، فالليل إذن يمارس فعل الإحياء؛ ليمارس, في الوقت نفسه، فعل القسوة على الذات الشاعرة التي استقبلت هذا الوجه بنوع من المقاومة ومحاولة مواصلة الحياة بعيداً عن قسوة الليل وقسوة وجه الموت وقد جسدت هذه المقاومة البنية الاستعارية في (راح يذيبه نبع من اللهفة) ذلك أن للهفة التي تمارسها الذات الشاعرة فاعلية قوية في إبعاد الإحساس بالموت وإبعاد ممارسة الموت عليها وقد استمدتها من السياق الفني الذي تحولت إليه هذه الذات وهو سياق الماء المتمثل في الدال (نبع). غير أن هذه المقاومة للموت وقسوة الليل تصدم بالليل مرة أخرى فتغالبها هذه القسوة، وقد تمثل هذا المعنى في السطرين الأخيرين، ذلك أن ثمة تداخلاً في الصورة بين (فؤاد البلبل) وبين فؤاد الشاعر، أي أن هذا الفؤاد الوارد في البنية يرمز إلى فؤاد الشاعر ويعادله، فالذات الشاعرة قاومت الليل بفؤاد ضعيف قد سُكبت دماؤه وقدراته بين(غصون لبلاب) وقد نزفت من (ليالي من عذاب) و(سقام) وهي ليال تشكل فاعلية مهيمنة على الذات وقد تمثلت في صفتين من أهم صفات القسوة: صفة العذاب, وصفة السقم, وقد حفرت هاتان الصفتان القاسيتان في ذهن الشاعر حتى ما عاد ينسى قسوة الليل بكل أبعادها.

 ورصدت تجربة السياب دال الليل أيضاً بخط قسوة الليل المرتبط بقسوة الحياة، بحيث جعلت تماساً بين القسوتين وتفاعلاً يزيدان وطأة القسوة على الذات الشاعرة يقول في قصيدة (المعول الحجري):

 رنين المعول الحجري في المرتج من نبضي

 يدمر في خيالي صورة الأرض

 ويهدم برج بابل، يقلع الأبواب، يخلع كلَّ آجره

 ويحرق من جنائنها المعلقة الذي فيها

 فلا ماءٌ ولا ظلٌ ولا زهره

 وينبذني طريداً عند كهف ليس تحمي بابه صخره

 ولا تدمي سواد الليل نار فيه تحييني وأحييها

 تعالي يا كواسر يا أسود ويا نمور ومزقي الإنسان

 إذا أخذته رجفة ما يبث الليل من رعب

 فضجي بالزئير وزلزلي قبره(6)

 يتخلل هذا المقطع استعارتان تمثل فيهما دال الليل، فاعلاً بقسوته، وقد جاءتا في آخره (تدمي سواد الليل نار) و(يبث الليل من رعب) وقد مثلتا بؤرة دلالية تفجرت فيهما حركة معنى القسوة التي تسعى لإنتاجها بنية هذا المقطع منذ بدئها وافتتاحها في النص الشعري، وذلك أن البنية ترصد حركة الذات الشاعرة الداخلية التي تمثلت في حركة الزمن التخيلية التي ربطتها بالقلب (من نبضي) فالقلب بدقاته ونبضاته يتحرك من خلال نظرة حديدية للكون وعناصره, فهي (رنين المعول الحجري) وقد مارست هذه القسوة الحديدية على خيال الذات الشاعرة التي تدمرت فيها (صورة الأرض) وتحولت إلى معالم الدمار والتغيير الناتجة من قسوة ما يحيط بها من معطيات الحياة وأشيائها، فالذات الشاعرة دمرت برؤيتها (برج بابل) وقلعت (الأبواب) وأزالت (كل آجره) وحرقت جنائن الأرض المعلقة (إشارة إلى جنائن بابل المعلقة) فما بقي فيها (ماء ولا ظل ولا زهرة), لقد انطفأت معالم الحياة, وأصبحت الحياة قاسية. إن هذا التشكل للحياة القاسية في الحركة النصية التخيلية، للذات الشاعرة جعلتها تنقذف في تصورها إلى (كهف ليس تحمي بابه صخره) وهو كهف – بالمعنى الرمزي- يقود إلى الحياة الإنسانية البدائية التي تسوده شريعة الغاب وبيئته فلا شيء يحمي هذه الحياة من قوانين وتشريعات سواء داخل الكهف أم خارجه, وتأتي الاستعارة الأولى لتفجر هذا المعنى الذي يكشف عن القسوة, من خلال دالين في التركيب (تدمي نار) وجعلها في بنية نفي لتزيدها قسوة على قسوة, ذلك أن دال (تدمي) يشير إلى إحداث إراقة الدماء التي تعني فقدان الحياة وهو فعل يشير، بصورته المجردة، إلى القسوة لأنه يقود إلى القتل وقد تتحول قسوته إلى فعل إيجابي لو أنه مارس حدثه على سواد الليل ليزيله غير أن هذه القسوة لم تكن إيجابية بل كانت غاية في السلبية لأنها قسوة منفية (لا تدمي) وبارتباط الدال الثاني (نار) به تتجلى هذه القسوة مع أن النار بفعلها القاسي الذي يمكن أن تمارسه على سواد الليل كان من الممكن أن يوجه نحو الإيجاب إلا أنه أصبح قاسياً في صورته المنفية لا على سواد الليل وإنما على الذات الشاعرة التي قبعت في الكهف الذي لا يحميه شيء (ليس تحمي بابه صخره) وقد جلت البنية هذه القسوة بغياب فاعلية التركيب (تحييني وأحييها) ذلك أن هذا التركيب يشير إلى أن الذات الشاعرة ترى في فعل (النار) حياة جديدة لو أنه تحقق, فلو اشتعلت النار في سواد الليل لمارست الذات عليها فعل الإدامة والاستمرار حتى تستمد منها الحياة، غير أنها لم تستطع أن تدرك هذه الحياة, فارتدت إلى قسوة الحياة, ويكون عندئذ قد مارس سواد الليل قسوته على الذات مرتبطاً بقسوة الحياة التي تعيشها هذه الذات.

 وتعمق البنية هذه القسوة باستدعاء عالم القسوة من الحيوان المتوحش خارج الكهف الذي تعيش فيه الذات (الكواسر: الأسود، النمور) لتقوم بفعلها المتوحش, وتشارك الليل في هذا الفعل الذي حققه في الاستعارة الثانية (ما يبث الليل من رعب). لا شك في أن هذه الممارسة ببث الرعب من الليل القاسي يزيد الوطأة على الذات الشاعرة التي خرجت البنية من خطابها إلى خطاب الإنسان عموماً (ومزقي الإنسان) وقد جعلت هذه الحياة القاسية قبراً كبيراً لها (فضجي بالزئير وزلزلي قبره). لا شك في أن حركة المعنى هنا تقودنا بصورة رمزية إلى فاعلية الليل القاسية على العالم الإنساني مشاركة الحياة القاسية في هذه الممارسة.

 وقد مارست تجربة السياب خطاً دلالياً أخر هو الاصطدام مباشرة بقسوة الليل، فكانت كثيراً ما تربط الاستعارة الليلية بالذات الشاعرة في مختلف مواقفها التي ترزح تحت قسوتها(7). وتكاد تشكل بعض القصائد مثل هذا الرصد كما في قصيدة (في السوق القديم)(8) ويمكننا أن نتمثل مثل هذه الممارسة من المقطع الآخر من القصيدة نفسها:

 أنا من تريد؛ فأين تمضي بين أحداق الذئاب

 تتلمّس الدرب البعيد؟

 فصرختُ: سوف أسير، ما دام الحنين إلى السراب

 في قلبي الظامي! دعيني أسلك الدرب البعيد

 حتى أراها في انتظاري: ليس أحداق الذئاب

 أقسى عليّ من الشموع

 في ليلة العرس التي تترقبين، ولا الظلام

 والريح والأشباح، أقسى منك أنتِ أو الأنام!

 أنا سوف أمضي! فارتخت عني يداها، والظلام

 يطغى ...

 ولكني وقفت وملء عينيّ الدموع! (9)

 تشكل الاستعارة الليلية (الظلام يطغى) نهاية تشكل البنية الشعرية وبؤرة تكثيف دلالي لحركة المعنى، الذي بدأ يتشكل في السطر الأول من المقطع، ذلك أن البنية الاستفهامية (فأين تمضي بين أحداق الذئاب تتلمس الدرب البعيد؟) ترصد الذات الشاعرة في موقفها الذي يكشف عن مِضيِّها في (الدرب البعيد) بحثاً عما تريد، ولكن هذا المِضي يتحقق – بحسب الصوت الاستفهامي- في بيئة قسوة الذئاب التي تحدق بالذات الشاعرة وتهددها بالمخاطر والردى. ويأتي صوت هذه الذات صارخاً ومصراً على سلوك الدرب البعيد مع مخاطره ، ذلك أن الحنين يدفع هذه الذات إلى "المشاعر المبهمة" (السراب في قلبي الظامي) التي تكشف عن تعلقها بمن تريد، فالذات إذن تعبر موقف الخطر المتمثل في الذئاب على الدروب غير أنها تكشف عن عمق القسوة من جديد في إحداث موازنات تتمثل في عدد من العناصر التي تقود إلى معاني القسوة التي تعانيها هذه الذات، فكانت الموازنة الأولى بين (أحداق الذئاب) و(الشموع في ليلة العرس) ذلك أن القسوة التي تجربها الذات في (شموع ليلة العرس) أقوى بكثير من قسوة أحداق الذئاب في الدروب، البعيدة، ولعل مثل هذه القسوة متأتية من فعل الشموع الذي يكشف الحقيقة في هذه الليلة. والموازنة الثانية كانت بين المخاطبة والناس (أنتِ والأنام) وبين عناصر القسوة الطبيعية (الظلام، والريح، والأشباح) ذلك أن هذه العناصر بتكوينها الطبيعي تمارس القسوة والشدة باجتماعها فالريح فاعل الخوف والصوت المريح في الظلام والأشباح التي تملأ الظلام لا تشكل في قسوتها قسوة الإنسان، لذا نجد أن البنية تؤكد إصرار الذات الشاعرة على المضي في دروب القسوة مبتعدة عن الإنسان (المخاطبة هنا) غير أن هذا الابتعاد لم يخلص هذه الذات من القسوة التي تعانيها من المخاطبة, مع أنها أي المخاطبة حادت عن طريقه (فارتخت يداها), وتتجلى هذه المعاناة في تشكل الاستعارة الليلية التي أخذت ملامحها مما سبق وعمقت القسوة في الدال (يطغى), وهو دال يقود إلى العربدة والتكبر والطغيان التي تزيد إحساس الذات الشاعرة معاناة من قسوة الليل والظلام، لذا نجد أن البنية، وبالتالي القصيدة, تنتهي بالكشف عن الجانب النفسي الذي تركته هذه القسوة في الذات التي شلت حركتها ولم تعد تمضي في الدروب، فهي تسمرت من غير حراك (ولكني وقفت) فكل عناصر القسوة قد مارست فعلها عليها فتخلفت عن المضي محبطة حزينة (وملء عيني الدموع) لا تملك قوة للمضي.

 ومع أن تجربة السياق قد أكثرت من ربط الاستعارة الليلية بكثير من العناصر التي تقود إلى القسوة كما كشفت عنها فيما تقدم، فإننا نجدها قد حاولت التخفيف من وطأة الليل القاسي وتحويله إلى أقل قسوة، ولكن هذه المحاولات لا تشكل ظاهرة واضحة ضمن دائرة القسوة، ويمكننا أن نلحظ مثل هذا التحول الدلالي في قصيدة بعنوان (الأسلحة والأطفال)، يقول فيها:

 تلقّاه، في الباب، طفل ٌ شرود

 يكركر بالضحكة الصافيه،

 فتنهلّ سمحاء ملء الوجود،

 وتزرع آفاقه الداجيه

 نجوماً, وتنسيه عبء القيود(10)

 يبدأ المقطع بتشكيل التحول الدلالي من القسوة الشديدة إلى الأقل قسوة، من خلال ضحكة الطفل الشرود التي تجسدت في البنية الاستعارية التي ربطتها بالغيمة (تنهل سمحاء) التي أغدقت الوجود بمائها الصافي، ثم إدخال هذه (الضحكة الصافية) في البنية الاستعارية التي تقود إلى الليل وظلمته (تزرع آفاقه الداخلية نجوماً) ذلك أن الدجى الذي يملأ آفاق الوجود يتحول إلى سياق الأرض التي يُزرع فيها النبات لينمو ويحدث الحياة ويملؤها جمالاً، وقد أبدلت البنية الاستعارية النجوم بالنبات لتقوم بفاعلية التحويل الدلالية من قسوة الظلام والدجى الذي يملأ آفاق الوجود أي رحابة أقل قسوة حتى (تنسيه عبء القيود) ولا شك في أن نسيان عبء القيود يقود إلى التحرر من قسوة الدجى والظلام إلى رحابة النور وحريته.

               

*جامعة اليرموك- إربد - الأردن