الشاعر عبد الله اللوزي
تعقيب على مقالة الدكتور سليمان عربياَّت
التي نشرتها صحيفة الرأي يوم الأربعاء الموافق 31/10/2007 م
د. حسن الربابعة
دأب الدكتور سليمان عربياَّت على كتابة المقالات المتنوِّعة الأغراض منذ ما يربو على ثلاثين عاماً , ذلك ما تشهدُ له بداية مقالاتهِ في مجلات رابطة الكتاب الأردنية المتنوعة ..
ولئن كان من الحقِّ القولُ , فإنَّ كتابتََََهُ المقالاتِ المتعددةَ نوعاً وكمًّا في جريدة الرأي , الأردنية , أسبوعياً , أربعائياً , لتدلُّ – بلا ريب – على سعةِ ثقافتهِ وغزارةِ مدادِ قلمهِ , ودقةِ ملاحظاتهِ , وجودةِ حفظهِ لنصوص من الشعر النبطي، وتنوُّع ِموضوعاته , وإنشحاذٍ في فكرِه , وسرعةِ خاطره , وعلوقِ ذاكرتهِ بخواطره , فانبرى يقدِّم مقالاتهِ عادةً بأسلوبٍ سهلٍ , لا يعتاصُ به من شواردِ اللغة التي قد تبلبل واردَه وموردَه , بمخضل لفظٍ مشوبٍ بمترادفات المعاني , وأشعاب المقاصد , ربَّما لأنه قنوعٌٍ بيُسر العبارة , وسهولتِها , في عرضه مقالاتهِ على عمومِ القرَّاء , بمستوياتهم الثقافية المختلفة , وديدنُه هذا ينجلي في نشرِهِ مقالاتهِ في صحيفةٍ يومية واسعة الانتشار , "الرأي " الأردنية ،التي تصدرُ منها بمعدل مئة ألف نسخة يومياً ، يمكنُ إذا ُجمِعَتْ وَصُنِّفتْ فنونُها وأفنانُها أنْ تُكتبَ بها مستخلصةً ًغيرُ رسالة ماجستير في مقالاته هذه موضوعاً وفناً .،فهو من جهة راوٍ، ومن أخرى يتدرَّجُ في منازل الحكاية ،وتستوقفُهُ موضوعاتٌ طريفة ، يحوكُها ببساطةِ لغة، وعمق معنى ، يَضرب بهما على أوتار القلب ، شعورا دافئا باستحضار الشعر الخبيئ، النبطي خاصة ،ممَّا كانت ترويه الألسنةُ ، عن محفوظات رواتها ، فتُ
ولعلّ ممَّا يُميِّز كتابتََهُ عامةً , أنَّهُ يطرحُ مقالتَََهُ في شتَّى المجالات , منها : المجالُ الاجتماعي الأدبي , شأنُهُ في هذه المقالة المعنونةِ بأعلاه , فما يكاد القارئ يتقرّأ العنوانَ المذكورَ حتى يتقافزَ إلى ذهنه وفاءُ الكاتب لأهلِ الفضلِ , فعبدُ الله اللوزي كما يعرضُهُ في مشاهدَ ُمترجَماًُ غيرياً له, يُكنى " أبا قبلان " , وهو شيخٌ كبيرٌ من شيوخِ اللوزيين , وشاعرٌ نبطي, وهو ذو سماتٍ خُلقية نبيلة ،كالكرم والوفاء وإصلاحِِ ذاتِ البين ،فهيأتْ له هذه السِّماتُ تسنُّمَ مشيخةِ عشيرتهِ , منذ يفاعهِ ,وانتهاء بما قدَّر الله تعالى له من سنٍّ عالية ، وعرض عربياَّت لمراحلَ زمنية من حياة الشاعر اللوزي , فهو شاعرٌ نبطي , ولد سنة (1893 م ) , وتزوَّج متأخراً عن أربعٍ وخمسين سنة , سنة ( 1947 م ) , وارتحل إلى عالم البقاء الأبدي سنة ( 1976) ووقف عند كنيته (أبو قبلان) , واحتجَّ عليه ببيت نبطي على ما ينهجهُ البحثة ُ المحققون توثيقا كما استوقفتْهُ مقاطعُُّ من نبوغهِ وتميُّزِه, مذ كان فتى يُصلح ذات البين , فسادَ عشيرتَهُ أمرد َ, وقادَ زمامها َ نحو الصَّلاح والإصلاح ، ولمعَ نجمُه ُ " فنصاه " - باللهجة العامية - أبو الكاتب , فحلَّ له ما اعتاص عليه من أمر , وتلك لفتةٌ كريمةٌ سجَّلها الكاتب فضيلةً ًللَّوزي, فترحَّم عليه , إذ لا يعرفُ الفضلَ لأهل الفضلِ إلاّ أهلُ الفضل .
لقد وظَّف عربياَّتٌ من اللهجة العامية فعل " نصاه " , بمعناه المتداولِِ العاميِّ , عن عمد , لأنه أراد توظيفَ كلمةٍ تراثيةٍ ،جامعة َالمعنى ، شائعةََ الاستعمال، في لهجتنا العامية , ربَّما ليربطَََ الماضي بالحاضر ربطاً موفَّقاً، فجمع فيها بين الجديد والتليد ؛ ذلك لأنَّه كان بإمكانه أنْ يستبدلَ " نصاه " بفعل قصده و استنخاه , لكنه وظَّف " نصاه " بمعنى علّق عليه آمالاً لحلِّ مسألته ، بعد أن رصده عن كثبٍ، وعرف فيه النخوة التي بها تُقضى حاجته منه , إذ إنَّ الأمطارَ لا ترتجى إلاّ من السُّحب , و " نصاه " تستفرُ معها شبكةََ علاقات اجتماعية، قوامُها الثقة المتبادلة بين سائل ومسؤول , وبين ذوي الحاجاتِ وحُلاَّلها , ولا أحسبُ أنَّ كلمةًً فصيحةً أخرى تسدُّ اجتماعيا مسدَّها , لأن(نصا )من نصي ومنها الناصية , وهي مقدمة الشعر في الرأس , وهي تثيرُ معنى الوجاهة، والوجهُ من أشرف أعضاء الجسم البشري ،وهو الذي حذَّر الرسول الكريم من لطمِ المذنب عليه؛ لشرفهِ وعلوِّ منزلته , وهو اختيار موفقٌ لينصاهُ ذوو الحاجةِ إليه , فهل من معجمٍ لغوي, يترصَّدُ المفرداتِ العاميَّةَ الشائعةَ في مجتمعِنا , التي تبدو كالضائعة عن أمِّها , فيجمَعها ويترجم َلها حسب عمرها الزمني , حتى لا تندثرَ مع الزمن المارِّ بسرعة البرق , فيندثرَ معها ما كان حملتْه ُ من دلالاتها على شجون آبائنا وشؤونهم ، فعزيزٌ علينا أن نفتقدَها وهي المشحونة ُ بطاقةٍ لغوية , عزيزةٍ علينا ،إذ فاه بها آباؤنا , وحمّلوها من أمانة الدلالات وإسرارها , ما حمّلوا .
ويقتربُ المتلقي من شخصيةِ عبد الله اللوزي الذي يترجمُ له عربياَّت , فيُستحضَرُ معه قول " هوجو " الفرنسي :" عندما أحدثك َعن نفسي اعلم ْبأنني أحدِّثك عن نفسك " , فتطمئنُّ إلى أنَّ هذه الشخصية المترجَم لها , كانت لها مواقفُ في الجبيهة , يوم كانت مصيفاً يحلُّ في أفيائها أميرُ البلاد عبد الله الأول ابن الحسين , ضيفاً على اللوزيين فيها, كما كان له مواقف أدبية مع الأمير المذكور , في قصر المصلّى في الشونة الجنوبية من أعمال محافظة البلقاء اليوم .
أمّا استحضارُ الموقفِ الأول في الجبيهة , فقد رسمَ عربياَّت مشاهدَ لخيام اللوزيين , احتفاءً بمقدم الأمير , واستوقفهُ هبّة ُعبد الله اللوزي , مع كوكبةٍ من أقربائه في استقبالهم المهيب , لموكب الأمير الزائر , بعد أن أعدُّوا لمراسم الزيارة أجلَّ ما يليقُ بها من إقراءِ ضيفٍ كبير , وسيّدٍ جليل , على ما يُعهَدُ به من شهامةِ اللوزيين الذين هم شريحةٌ طيبة , ممثِّلة لمجتمعنا الأردني المضياف .
وفي هذا المشهد تُعرَضُ الخيولُ أمام سموه في حلبات السباق، ، فيمتحنُ الفوارسَ والخيولَ ورجالَ الأدب , فتداعتْ مشاهدُها مماثلةً لمشاهدَ جلّاها المتنبي لسيف الدولة قائلاً فيه :
وميدانُ الفصاحةِ والقوافي وممتحنُ الفوارسِ والخيولِ
" ديوانه ج4/ 214"
فيستقبلُ عبدُ الله اللوزي " أبو قبلان " عبدَ الله الأميرَ , أبا طلال , ويرتجلُ المضيفُ أطايبَ القول على مسمعي الضيف الكبير , من قصيدةٍ غزلية نبطية على ما يُعهد من أنها نسيبٌ موروث في الشعر القديم قائلاً :
يا بنت يا لابس ة الجبة يلّي كما عي ن صياد
القلب والنار يله ب به يطرق كم ا ك ور حدّاد
حتى القمر عذَّبه رب ه يركض ورا الشمس ويناد
قبلان قوم أطلبه حب ه هذا هوى النف س وم راد
فيعقِّبُ عليه الأميرُ مستحسناً قوله ,"ذكَّرتني بشعر عمر بن أبي ربيعة لا بل زدتَ عليه , عندما جعلت القمرَ عاشقاً والشمسَ معشوقة " .،وهو الذي يُنعتُ بالنرجسي ،إذ يبرززُهُ بعضُ شعره معشوقا لا عاشقا ، وهذا تعليقٌ نقديٌ مقارن بين شاعريين غزليين , في ذكر المحبوبة , كثَّفهُ الأمير ، بسطر ٍواحد، وهو الشاعرُ المبدعُ والكبير , وديوانه " خواطر النسيم" من جزأين شاهدٌ له.
وفي ذلك المشهدِ يجري سباقُ الخيولِ في حلباتِ السباق , في الجبيهة ،فتُستدعى َمرابعُ السَّلط،(السلت) ميدانَ سباق، شهدَ لها البحتري المتوفى سنة( 284ه ) , قبل اثني عشر قرنا ، كما هو في مادة السلط في جزئه الخامس , بتحقيق الدكتور حسن كامل الصيرفي , فكانت حلقة السباق الحديثة امتداداً تراثياً لحلقات السباق في ميادين البلقاء في ما مضى .
ويَستحسنُ الأميرُ فوزَ فرسٍ مجلياً فيقول فيه ،على قافيتين من الشعر النبطي هما "الناعسة"وقافيتها الكاف الساكنة و"القارعة" على قافية الميم الساكنة:
يا مهيرتي يا حلو مقناك ريم خطا وصفها لزوم
والقذلة اللي على محيّاك يلعب بها ريح الخزوم
عمّان ربُّ الملا يرعاك ديرة عرب دايم الدوم
إنَّهُ يستحسن الفرسَ السريع , عالي الرأس جميلَهُ , كالغزال إذا عدا , كالغزال في جماله ورشاقتهِ وسرعتهِ , على جبينه قذلةٌ , يلعبُ بها الريح فتزيدُ تسريحتَها جمالاً على جمال، يَستدعي الخيلَ المخزومية التي تَجلَّى في ميدانها سيفُ الله المسلول المخزومي ، وفي مؤتةَ، السيف والقلم ، التي في ميدانها أٌقيمت جامعة مؤتة تيمنا وذكرى نال خالد بن الوليد رضي الله عنه هذا اللقبَ النبويَّ الشريفَ فيها .
و ينتقلُ إلى العاصمة عمّان , فيدعو اللهَ تعالى لحمايتها عاصمة للعرب قاطبةً , ولعلّ تسميةََ الجيش العربي هي إرثٌ باقٍ حتى الآن ،إذ ما زالت طغراؤه تعلو جبينَ الجندي الأردني،رمزَ أمل بوحدة عربية , وهي ملمحٌ من فلسفة الثورة العربية الكبرى.
وفي المشهدِ ذاتهِ يغلي الشعرُ في مراجل عبد الله اللوزي الشاعر , فيهدي الأميرَ فرسأ مجلياً ويقول :
دنيت أنا حرة مح راك يا بكرتي ما إلها سوم
من جبه ة القصر ملفاك يا الهاشمي سيد القوم
نورك ظه ر والسعد مسعاك بدر السم فوق الغيوم
ولكنَّ الأمير يقبلهُ شاكراً ثم يعيدُ الفرس إليه .
أمّا من مشاهدهِ الأخرى , فكان عبد الله اللوزي يزورُ سموّ الأمير في قصره في الشونة الجنوبية , , فتدور بينهما مناشداتٌ شعرية وندواتٌ نقدية , قد تساعدُ على تحريك الأقلام , لو ُجمعَتْ ونُظر فيها من جانب الإبداع النبطي , ربَّما ينضافُ إلى ما ذكره الدكتور تركي المغيض عن الشعر في قصر الأمير عبد الله , كما ينضاف إلى ما جهد فيه الباحث خلف إبراهيم النوافلة من جمعهِِ الموفور لديوان الملك عبد الله الموسوم ب ( خواطر النسيم ) .
ُ إلى الحوا كير,فينظمُ في الحادثة قصيدة ، على نعومة أظفاره ، يذكر فيها بساتينَ الخوخ والتفاح والعنب، والحوا كير التي يظنُّ أنَّ الخروف اختفى في أفنائها , ولعلَّ ذكرَهُ العنبَ والتفاحَ والخوخَ , هو ترسيمٌِ لمَّاحٌ لبيئة السلط النقية المخضرة خاصةً أيام الصيف بدليل العنب , إذ "في تموز ينضجُ العنب والكوز" , كما في المثل العربي ,وهو تحديدٌ زمني لوقوع الحادثة ، ولعلَّ نظرةً متأنية في وادي شعيب، وما يحدق به من خضرةٍ وفواكه حتى اليوم، تعيد للمتلقي صورةَ مدينة السلط العزيزة على قلوبنا جميعاً , قديمة جديدة، ومياه وادي شعيب ترغي فيه أحياناُ وتزبد أحياناً أخرى , أو تعزف بخريرها أأشجي الإيقاعات، تبشِّر بالعطاء والخضراء ، وورود الحسان بجرارهن إليه عليه .
ْنَ على ضفتي وادي شعيب،؛جيئة وذهابا ،بقدودهن الطوال ، الممشوقة المهياف ، وشعورهن الشقر تنساب كالشلالات الصفر، وقت الأصيل إلى كعوبهن :
يا زريف الطول نزلتْ وادي شعيب والشعرلاشقريتلولح للكعيب
ويتعرَّض لجمالها الفتان،متغزل فضولي ، فيطلبُ من إحداهنَّ قبلةً،فتتأبى الحسناءُ عليه،حفاظا على شرفها وسمعة أهلها ولحسن تربيتها ،ولتقواها :
طلبتُ البوسة منها قالت لي عيب لا أنت مخطوبي ،والرب قبالنا
كما يبرزُ في المقالة هذه جانبٌ اجتماعي للأمير , إذ يتفقَّد أحوالَ رعيته بين الحين والحين , ويتحسَّسُ مواجعَهم ومطالبَهم , وينقدُ الشعرَ ويحاكمُه، وهو العالمُ المختصُّ بلا ريب في أنساب الخيول والعشائر , وما توقيعه الشريف الماثل حتى اليوم على شجرة نسب عشيرة الربابعةالذهبب
أمّا ثرى الأردن الخالد فضمَّ جثمانيهما في طيات حُنوِّهِ , ضمة محبةٍ واعتزاز بهما،مخلصَين شاعرين , حبيبين , فسلامٌ عليهما في الخالدين , وسلامٌ على من ينقِّرُ في التراث , ليستخرجَ ما أمكنه من مكنونه , بعدما أوشك الزمانُ على طي صفحاته , وسلامٌُ على من يحرِّكُ الأقلام النقيَّة , الوفيَّة , لتستدعى أنموذجات من رجالاتِ الأردنِّ الأعزاء ، وغيرهم من أهل العلم والأدب .